الأمر المؤكد أن الأكاذيب، التى ترددها ليل نهار مع سبق الإصرار والترصد عصابة المتطرفين فى الحكومة الإسرائيلية ضد الدولة المصرية، وفى مقدمتهم نتنياهو -هى مجرد أباطيل لإضاعة الوقت، وتشتيت الانتباه، وتثبيط الهمم عن الهدف الرئيسى وهو إعلان الدولة الفلسطينية، واستهداف القاهرة تحديدًا فى كل مرة؛ لأنها الصخرة التى تتكسر عليها مكائده، وتتحطم عليها دسائسه، ولا يجد فى جعبته ما يثنى القاهرة عن مساندة الفلسطينيين فى السير على طريق إقامة دولتهم، ولا يستطيع أن يغرى القيادة المصرية بأى ثمن للقبول بالمخطط الإسرائيلى للتهجير، تمهيدا لتصفية القضية إلى الأبد. وأى متابع لتطورات الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى، منذ بدايته قبل أربعينيات القرن الماضى، يدرك بلا عناء، ويتأكد بلا مشقة -أن اللاءات المصرية الثلاث حاضرة لم تغِب أبدًا فى كل المراحل التاريخية، ولم تتوارَ أبداً جيلًا بعد جيل، وسنظل على العهد باقين، وعلى درب الصمود ثابتين.
والمواقف المتلاحقة، والمشاهد المتتابعة، والفعاليات المتعاقبة خلال توابع حرب غزة على مدى قرابة عامين -تجسد الدور المصرى المشرّف، بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ فى مساندة أهل القطاع بالمأكل والملبس والمشرب، واستقبال الجرحى والمُصابين، مع تحركات لا تهدأ، وجولات لا تتوقف للمفاوض المصرى بالتنسيق مع الدول الشقيقة والصديقة لوقف إطلاق النار، والدخول فى هدنة طويلة حتى تعود حركة التعمير إلى القطاع، وفق خطة عربية بصبغة مصرية خلال 3 سنوات دون تهجير فلسطينى واحد. وفى ذات الاتجاه، تفتح أبواب التفاوض على مصراعيها بمشاركة أممية ودولية بين الطرفين؛ للوصول إلى حل جذرى لضمان الاستقرار المستدام، وهو حل الدولتين وفق قواعد القانون الدولى، ومواثيق الأمم المتحدة، وكلها فى صالح الفلسطينيين، وازدادت قوة خلال أشهر العدوان الهمجى؛ لأن الرأى العام العالمى اكتشف حقيقة النازية على الطريقة الإسرائيلية، وتخلّص من تأثير الدعاية الصهيونية، التى كانت تصور دولة الاحتلال على أنها واحة الديمقراطية فى الشرق الأوسط، فإذا بهم يرون همجية الكيان، وديكتاتورية حكومته البغيضة.
ولدىّ قناعة كاملة أن الكثير من الزعماء والرؤساء حول العالم، ومنهم مؤيدو إسرائيل وحلفاؤها، وجدوا أنفسهم فى مأزق أمام ضمائرهم وفى مواجهة شعوبهم، بل والرأى العام العالمى؛ لأنهم جعلوا أصابعهم فى آذانهم؛ حتى لا يسمعوا نداء الحق من الرئيس عبدالفتاح السيسى، واستغشوا ثيابهم من أجل ألا يروا دعوات القاهرة المتكررة لرفع الظلم عن الشعب الفلسطينى، وأصروا واستكبروا استكبارًا بغرض التعامى عن إعلان الدولة المصرية المتتابع، بأن حل الدولتين هو أساس الاستقرار فى المنطقة وليس أى أمر آخر. وحتى قبل بداية الحرب الوحشية فى غزة، وصف الرئيس السيسى الأزمة خلال كلّ مشاركاته فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بصورة شاملة، ووضع السيناريوهات المناسبة، وحذر من المخاطر المتوقعة نتيجة للخبرة المصرية المتراكمة، والرؤية المتكاملة فى ملف الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى، وعلى سبيل المثال لا الحصر، قال الرئيس فى كلمته بالدورة 76 خلال 2021، بالنص: «لقد أكدت مصر مرارًا أنه لا سبيل لاستقرار الشرق الأوسط، دون التوصل إلى حل عادل ودائم وشامل للقضية الفلسطينية التى كانت وما زالت القضية المركزية للأمة العربية، وذلك عبر التفاوض استنادًا إلى مقررات الشرعية الدولية لإقامة الدولة الفلسطينية على حدود ما قبل الرابع من يونيو 1967 وعاصــــــمتها القــــدس الشــــــرقية».
ومن المعلوم بالضرورة، والمعروف للكافة، أنه بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، سبقت القاهرة الجميع فى مخاطبة ضمائر كل القوى الدولية والمنظمات الأممية للتحرك فى الاتجاه الصحيح، وعدم غضّ الطرف عما يجرى فى قطاع غزة من عمليات عسكرية تدهس مبادئ الإنسانية، وتدوس على القانون الدولى، وشرعنة قانون الغابة الذى يحاول نتنياهو وعصابته فى حكومة المتطرفين فرضه فى المنطقة. فبعد أقل من أسبوعين على بدء العدوان الإسرائيلى الغاشم على غزة، وما حولها من مخيمات ومناطق، قال الرئيس فى قمة القاهرة للسلام: «نلتقى اليوم بالقاهرة، فى أوقات صعبة تمتحن إنسانيتنا قبل مصالحنا، تختبر عمق إيماننا، بقيمة الإنسان وحقه فى الحياة، وتضع المبادئ التى ندعى أننا نعتنقها، فى موضع التساؤل والفحص.. وأقول لكم بصراحة: إن شعوب العالم كله، وليس فقط شعوب المنطقة، تترقب بعيون متسعة، مواقفنا فى هذه اللحظة التاريخية الدقيقة، اتصالًا بالتصعيد العسكرى الحالى، منذ السابع من أكتوبر الجارى، فى الأراضى الفلسطينية، ولو انتبهت الأطراف المعنية، وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، لما وصلنا لهذه المأساة الإنسانية، وما تحمله فى طياتها من مجازر جماعية، وتجويع ممنهج، وحرب إبادة غير مسبوقة فى التاريخ».
وكشف الرئيس السيسى فى قمة القاهرة، وما تبعها من قمم عربية وإسلامية، ومؤتمرات عالمية ولقاءات ثنائية مع مختلف زعماء العالم، خيوط المؤامرة الإسرائيلية على الشعب الفلسطينى، من استهداف وقتل وترويع كل المدنيين المسالمين، ثم فرض سلطات الاحتلال عقابًا جماعيًا وحصارًا وتجويــعًا وضــغوطًا عنيفــة للتهجير القسرى بهدف خبيث، وهو تصفية القضية الفلسطينية وكتابة شهادة وفاة لحل الدولتين إلى الأبد، ولهذا تواصلت جهود القاهرة بلا توقف، وامتدت تحركاتها بلا انقطاع لإفساد مؤامرة تفريغ الأرض من أصحابها، تارة بنهر متدفق من المساعدات برًّا وجوًّا لإطعام الجوعى، وعلاج المصابين، وإغاثة الملهوفين، ولولا ضرب جيش الاحتلال معبر رفح من الجانب الفلسطينى عدة مرات، لتواصلت شاحنات المساعدات من القاهرة إلى غزة، وتارة بالتحركات الدبلوماسية الجبارة لوضع الحلول لكلّ العراقيل التى يضعها نتنياهو لقطع الطريق على المفاوض المصرى مع الشركاء فى قطر والولايات المتحدة الأمريكية لوقف إطلاق النار، وبدء مسار المفاوضات لولادة الدولة الفلسطينية المستقلة، ولا أجد عبارة أكثر تعبيرًا عن الموقف المصرى التاريخى من تلك الجملة للرئيس السيسى: «تقول لكم مصر بكلمات ناصحة أمينة إن حل القضية الفلسطينية ليس التهجير، وليس إزاحة شعب بأكمله إلى مناطق أخرى، بل إن حلها الوحيد، هو العدل، بحصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة فى تقرير المصير، والعيش بكرامة وأمان، فى دولة مستقلة على أرضهم، مثلهم مثل باقى شعوب الأرض».
وهذا يفسر بسهولة سيل الاتهامات الإسرائيلية الباطلة ضد الدولة المصرية، من أكذوبة تهريب الأسلحة للفصائل الفلسطينية، ثم تعطيل مفاوضات الهدنة، مرورا بوقف المساعدات، وغيرها من تلك الافتراءات، وصولا إلى كذبة مجرم الحرب نتنياهو مؤخرا حول رغبته فى تهجير الفلسطينيين عبر معبر رفح، ولن تكون الأخيرة بالطبع فى مخطط الضغط على القاهرة حتى تتراجع عن اللاءات الثلاث التاريخية، وهذا لن يحدث أبدا، والنصر فى النهاية لأهل الحق، وإنّا له لبالمرصاد، فهذه الدسيسة مجرد جولة جديدة ضمن محاولاته المستمرة لتمديد زمن التصعيد فى المنطقة وتكريس عدم الاستقرار لتفادى مواجهة عواقب الانتهاكات الإسرائيلية فى غزة داخليًّا وخارجيًّا، وكما أكدت وزارة الخارجية فى بيانها الجامع المانع: «مصر تعيد التأكيد أنها لن تكون أبدًا شريكًا فى هذا الظلم من خلال تصفية القضية الفلسطينية أو أن تصبح بوابة التهجير، وأن هذا الأمر يظل خطًا أحمر غير قابل للتغيير، وتجسيد الدولة الفلسطينية على خطوط الرابع من يونيو لعام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، يظل الخيار الحتمى الذى سيفرض نفسه عاجلًا أو آجلًا، كونه متسقًا مع حق تقرير المصير وحقوق الإنسان والمنطق الإنسانى وجميع القرارات الدولية ذات الصلة».
ولغة القاهرة واضحة لا تقبل التأويل، ومفهومة لا تحتاج إلى تفسير، وجلية لا تتطلب قسمًا أو بينة، والموقف المصرى حول حلّ الدولتين مبدأ ثابت لا يتغير، وقرار لا يتبدل، سواء كانت المباحثات مع مَن يناصر أو يعادى دولة الاحتلال، وهذا تجلّى عدة مرات خلال اللقاءات والاتصالات بين د. بدر عبدالعاطى وزير الخارجية وبين مختلف السفراء والمسئولين، وخصوصًا الأمريكان، وآخرها المناقشات مع «ستيف ويتكوف»، المبعوث الأمريكى الخاص للشرق الأوسط، فى إطار الاتصالات الدورية لتناول التطورات بقطاع غزة، فقد شدد الوزير عبدالعاطى على أهمية تجاوب إسرائيل مع الصفقة المقترحة من أجل خفض التصعيد وحقن دماء الشعب الفلسطينى ونفاذ المساعدات الإنسانية والإغاثية، وإطلاق سراح الرهائن والأسرى، والتأكيد على استعدادات مصر لاستضافة مؤتمر دولى للتعافى المبكر وإعادة الإعمار فور الإعلان عن وقف إطلاق النار، وذلك وفق الخطة العربية - الإسلامية التى تم اعتمادها فى القمة العربية بالقاهرة فى شهر مارس الماضى.
والقول الفصل فى القضية الفلسطينية: إن مصر لن تتخلى أبدًا عن ثوابتها فى مساندة حقوق الشعب الفلسطينى، ولن تكون أبدًا شريكًا فى أى ظلم يتعرض له، ولن تسمح به، مهما تعددت الضغوط، وتنوعت التحديات، وهذا ما شدد عليه الرئيس السيسى فى كلمته خلال القمة الاستثنائية لتجمع البريكس هذا الأسبوع بالتأكيد على موقف مصر الثابت والرافض بشكل قاطع لأى سيناريو يستهدف تهجير الفلسطينيين خارج أرضهم، تحت أى ذريعة لما يمثله ذلك من محاولة لتصفية القضية الفلسطينية، ووأد حل الدولتين، وتوسيع رقعة الصراع، وتهديد منظومة السلام فى الشرق الأوسط.
حمى الله مصر وشعبها وقيادتها
ومؤسساتها الوطنية من كل سوء

