على امتداد عقود، كان التاريخ شاهداً على أن الأزهر الشريف حارس للهوية الدينية والوطنية فى مصر والعالم الإسلامى أجمع، وكان صوتًا حاضرًا فى القضايا الإنسانية التى تمسّ الشعوب وكرامتها، وفى ظل الأزمات المتلاحقة التى يشهدها العالم العربي، جاء موقف الأزهر رافضًا بشكل قاطع لمخططات التهجير، باعتباره جريمة مكتملة الأركان، تتعارض مع القيم الإسلامية والمواثيق الدولية ومبادئ حقوق الإنسان.
بيانات الأزهر لم تقتصر على الإدانة الشكلية، بل قدّمت خطابًا واضحًا يربط بين ثوابت الشريعة ومقتضيات العدل، مؤكدًا أن اقتلاع الناس من أرضهم لا يمثل سوى صورة جديدة من صور الاحتلال والظلم، مشدداً فى بيانه أن «أهل غزة الصَّامدين لن يسمحوا أن يقبضوا ثمن دمائهم الزَّكية طردًا من أرضهم وتهجيرًا من وطنهم».
فيما يستند الأزهر فى بياناته إلى نصوص شرعية واضحة، تؤكد حرمة الاعتداء على حقوق الإنسان، وضرورة حماية الضعفاء والمستضعفين، فالإسلام، كما أوضح البيان، قدّم نموذجًا متكاملًا لصون حق الفرد فى السلم والحرب على السواء، حيث لا يجوز إخراج الناس من ديارهم إلا بحق، ولا يجوز تعريضهم للتشريد أو الإذلال، هذا التأصيل الشرعى يعكس رؤية الأزهر كمرجعية دينية، تسعى لإحياء القيم الإسلامية الأصيلة فى مواجهة ممارسات تخالف روح الدين.
الأزهر بادر بحذف بيان متعلق بالقضية الفلسطينية، تجنبًا للتأثير سلبًا على المفاوضات الجارية بشأن هدنة إنسانية فى غزة، وتغليبًا لمصلحة حقن الدماء وإنقاذ الأبرياء، وحتى لا يُتخذ من هذا البيان ذريعة للتراجع عن التفاوض أو المساومة.
لم يقف خطاب الأزهر عند البعد الدينى فقط، بل ذهب إلى ما هو أبعد، بتأكيد أن رفض التهجير هو فى جوهره دفاع عن الثوابت الوطنية والأمن القومى المصري، فالتهجير لا يهدد فقط حقوق الأفراد، بل يفتح الباب أمام مخاطر تفتيت المجتمع وزعزعة استقرار الدولة المصرية، حيث خاطب الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، خلال كلمته باحتفالية ذكرى المولد النبوى الشريف، الرئيس عبدالفتاح السيسي، قائلا: «إننا فى الأزهر الشريف نشد على يديكم وندعو الله أن يقوى ظهركم، وأن يوفقكم فيما أنتم ماضون فيه من الثبات على الموقف الرافض لذوبان القضية الفلسطينية، وحماية حقوق الشعب الشقيق فى البقاء على أرضه، والرفض القاطع لمؤامرات التهجير والتشبث بالموقف المصرى التاريخى فى حماية القضية الفلسطينية ومساندة الفلسطينيين».
الدكتور عبد المنعم فؤاد، المشرف العام على الأروقة الأزهرية، أكد أن الأزهر الشريف ثابت على رفضه للتهجير ولن يغير موقفه، مشددًا على أن الإمام الأكبر أعلن هذا الموقف فى جميع المحافل الداخلية والدولية، ويدعو دومًا القيادة السياسية المصرية إلى التمسك بموقفها المشرف، وكان آخرها تأكيده الواضح فى خطابه للرئيس السيسى فيما اتخذه من قرارات للحفاظ على القضية الفلسطينية وحماية السيادة والأراضى المصرية، فالأزهر خلف القيادة السياسية فى هذا الأمر.
ولفت إلى أن الدفاع عن الوطن لا يقل قداسة عن الدفاع عن العرض، فالاعتداء على الأرض وتهجير أهلها يُعد جريمة تمس كرامة الإنسان مثلما يمس الاعتداء على عرضه وشرفه، ومن هنا، يصبح رفض التهجير ليس مجرد موقف سياسى أو وطني، بل واجب دينى وأخلاقي، يندرج فى إطار حماية القيم العليا التى جاء الإسلام لصونها: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعِرض.
«فؤاد» قال نحن مع غزة ومع قيادتنا الرشيدة التى دائما «السند» للأشقاء، والأزهر يطالب أحرار ومسلمى العالم أن يساندوا القضية الفلسطينية والقيادة المصرية لمواجهة التحديات الصهيونية، والتصدى لمحاولات الضغط على فلسطين ومصر.
من جهته، أكد الدكتور أحمد بركات، مدير المركز الإعلامى للأزهر، أن موقف الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، فى دعم القضية الفلسطينية، وإدانته المستمرة لما يتعرض له الأبرياء فى غزة من عدوان لا إنسانى يستهدف الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، إنما يأتى امتدادًا للموقف التاريخى لمؤسسة الأزهر فى نصرة القضية الفلسطينية، وهو نابع من فلسفة الأزهر ومواقفه العالمية فى الدفاع عن الضعفاء والمستضعفين وأصحاب الحقوق، ولذا فإن الأزهر لا يتوانى عن الانحياز إلى كل القضايا التى يُعتدى فيها على الأبرياء، بغض النظر عن دينهم أو لونهم أو عرقهم.
وأشار «بركات» إلى أن مواقف الأزهر تجاه ما يتعرض له المدنيون فى غزة اتخذت مسارات متعددة، من بينها: الإدانة الصريحة للمذابح والمجازر والجرائم غير المسبوقة التى يرتكبها الاحتلال على مدار الساعة منذ ما يقارب العامين، واستصراخ الضمير الإنسانى الحر لبذل أقصى الجهود فى ممارسة الضغط السياسى والدبلوماسى والشعبى والقانونى لوقف هذا العدوان الذى أودى بحياة أكثر من 63 ألف شهيد، كما شملت المواقف إدانة ورفض القرارات الدولية الظالمة التى ساهمت فى استمرار استهداف الأبرياء، وفى مقدمتها قرارات «الفيتو الأمريكي» التى دعمت استمرار العدوان، ورفضت محاولات وقف إطلاق النار.
وأضاف «بركات» أن «الطيب» بادر بالضغط على الرأى العام العالمى للتعريف بما يتعرض له الأبرياء فى غزة، وذلك من خلال تصريحاته أثناء اللقاءات مع مسئولين دوليين فى مكتبه بمشيخة الأزهر، ومن خلال جولاته الخارجية خلال العامين الماضيين، والتى شملت لقاءات مع رؤساء جمهوريات ورؤساء حكومات، فضلًا عن مسئولين أمميين، فى مقدمتهم الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس المجلس الأوروبى وغيرهم، كما نشر فضيلته تغريدات بعدة لغات تفضح المجازر التى يرتكبها الاحتلال، إضافة إلى مشاركته فى المحافل والمؤتمرات الدولية، التى لم تخلُ من عبارات صريحة لإدانة العدوان.
وبيّن «بركات» أن الأزهر لم يكتفِ بالبيانات والتصريحات، بل اتخذ خطوات عملية على أرض الواقع، من خلال تسيير القوافل الإغاثية والإنسانية إلى غزة عبر بيت الزكاة والصدقات «الذراع الخيرى والتنموى للأزهر»، والتى بلغت 11 قافلة محمّلة بآلاف الأطنان من المساعدات الإنسانية والمستلزمات الطبية والغذاء والشراب والخيام، كما أصدر الإمام الأكبر توجيهاته بإعفاء الطلاب الفلسطينيين من المصروفات الدراسية، وتوفير سكن لائق لهم فى مدن البعوث الإسلامية ومدينة 15 مايو، وتقديم الرعاية اللازمة لهم، كذلك وافق الأزهر على قبول الطلاب الفلسطينيين من غير الأزهريين فى مرحلة الامتياز بكلية الطب لاستكمال تدريبهم، وتوفير ما يحتاجونه من دعم ورعاية.