رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

رغم القوة الباطشة.. فشل إسرائيلى كبير.. نتنياهو وسياسة «رمى الجتت»


11-9-2025 | 21:19

.

طباعة
بقلـم: حلمى النمنم

فى الثقافة المصرية وبين عموم المصريين هناك وعى حاد بأنماط من السلوك والبشر لا تجيد ولا تعرف غير الإيذاء، إيذاء الآخرين، والإيذاء للإيذاء فى المقام الأول، ويتم وصف هؤلاء بكلمات أو مصطلحات دائمة، مثل «رمى الجِتت» أو «رمى البلاء»، الأولى تعنى أن يلقى عليك بأى جثة فى طريقه، حتى لو كانت جثته هو، كى يورطك فى جرم لم ترتكبه ولم تفكر فيه أصلًا، أو يلقى عليك بما فيه أو ارتكبه من «بلايا»، ليخلص منها هو، أمام المجتمع والقانون، فيصيبك أنت وزرها، وما يترتب عليها.

 

ولا أريد أن أتوقف عند قضية ظهور كل تعبير، والمواطن والحالات التى استُعمل فيها، ولا يزال، إلى يومنا هذا، غير أنها فى النهاية تتعلق بسلوك فردى مستهجن، يسلكه شخص غير سوى أو غير نظيف أخلاقيا، ليشوه بها الآخرين، لكن نحن – الآن- بصدد من يمارس ذلك «التدنى» الإنسانى والأخلاقى على مستوى دولة ويتعلق بالقانون الدولى وحقوق شعب يرزح تحت الاحتلال.

رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، يمارس مع مصر منذ السابع من أكتوبر سنة 2023 وإلى يومنا هذا سياسة «رمى الجِتت» أو «رمى البلا».

والواقع أن هذا هو أسلوب رئيس الحكومة الإسرائيلية معنا منذ البداية، فى أول الأمر طرح على وزير الخارجية الأمريكى وقتها «بلينكن» فكرة تهجير سكان غزة إلى سيناء، وحدد الموقع فى سيناء، من الحدود مع فلسطين وحتى العريش.. ولما رفضت مصر ذلك رفضا قاطعا، كشف الورقة الأخرى، وهى اتهام مصر أنها تسمح بتهريب السلاح إلى حماس عبر أنفاق سيناء، وقيل كلام كثير من بعض المسئولين الإسرائيليين، حول ذلك التصور «الاتهام»، وتصدت مصر لتلك الأكاذيب، وتبين للعالم كله صدق مصر، تصريحات ومواقف، واتضح خواء السردية الإسرائيلية.

ثم جاءت أزمة إدخال المواد الغذائية إلى غزة، فراح يتهم مصر بأنها ترفض إدخال المواد الغذائية عبر معبر رفح، رغم أن المعبر لا يختص بالناقلات والمواد الغذائية، بل هو لخروج ودخول الأفراد فقط.. وهناك عدة معابر أخرى.. فضلا عن أن المعبر يعمل وفق اتفاقية دولية من أيام اتفاق أوسلو سنة 1994، من الجانب المصرى الإدارة المصرية للمعبر، ومن الجانب الفلسطينى إدارة السلطة الوطنية الفلسطينية، وفى سنة 2007 قامت حماس بضرب وطرد رجال السلطة الوطنية، وسيطروا على المعبر، وكان ذلك يعنى من الناحية القانونية إسقاط اتفاق أوسلو، وهو ما لم تقبل به مصر، راحت حماس عبر جحافل جماعة حسن البنا يتهمون مصر بأنها تحاصر غزة، والحق أن مصر لا تريد أن تخالف القانون الدولى، فتعطى إسرائيل المشروعية لما تقوم به، وينتهى حلم الدولة الفلسطينية.

آخر تقاليع نتنياهو تصريحه هذا الأسبوع بأنه على استعداد لفتح معبر رفح، لكن مصر تمنع دخول أهل غزة، وأضاف: «نحن لا نعمل على طردهم ولكن لا نريد أن نحبسهم داخل القطاع».

هذا هو «رمى البلا» بعينه، معبر رفح مخصص لعبور الأفراد، الذين يأتون إلى مصر للعلاج أو لدخول الجامعة، وربما زيارة بعض الأقارب، باختصار المعبر لانتقال أفراد، وليس للهجرة الجماعية، هو للعبور المؤقت وليس التهجير النهائى.. ومن أين جاء نتنياهو بفكرة أن أهل غزة جميعا يريدون أن يهجروا وطنهم ويسلّموه خاليا لنتنياهو، ثم ماذا يمكن أن نصف كل ما قام به نتنياهو فى القطاع منذ أكتوبر 2023، وحتى يومنا هذا..

الشهداء من المدنيين، حوالى 64 ألفًا، 70 فى المائة منهم أطفال وشيوخ ونساء، ماذا يمكن أن تكون الإبادة الجماعية غير ذلك؟ جرحى يتجاوز عددهم 120 ألفًا، بينهم عدد كبير فى حالات شديدة الخطورة، مجموع الضحايا يقترب من ربع مليون نسمة، ما بين جريح وشهيد. هدم حوالى 90 فى المائة من منازل وبيوت الأهالى وتدمير الشوارع والطرقات. هدم كل المستشفيات وضرب الكوادر الطبية، الاعتداءات على الصحفيين والمراسلين وقتل عدد كبير منهم، قتل شهود الحقيقة، ومَن يسجلون الوقائع.

فى ظل هذه الإبادة، فضلا عن عملية التجويع الممنهجة، لا يصبح أمام المواطن الذى يريد أن يحتفظ بحياته، غير أن يغادر هذا المكان، فعليًا أنه يدفعهم قسرا نحو قرار الخروج، ثم يزعم أنه لا يريد تهجيرهم، لكن أيضا لا يريد حبسهم، وهنا يلقى بالملامة على مصر، إنها لا تريد أن تستقبلهم، تستقبل أكثر من مليونى مواطن، هم كل سكان غزة دفعة واحدة.

وقد يتساءل المرء: لماذا يتصرف نتنياهو على هذا النحو الآن؟!.

يشعر نتنياهو أنه بصدد لحظة ذهبية، كى يفعل كل ما يريد، نجح فى استهداف حزب الله وإخراجه من المعادلة تقريبا، بعد عدة ضربات، فضلا عن ضغوط دولية أمريكية تحديدا على لبنان؛ لنزع سلاح حزب الله نهائيا.

وصارت المشكلة لبنانية - لبنانية، إما أن يتم نزع السلاح ويتخلى الحزب عنه نهائيا، أو أن تقع حرب أهلية لبنانية، كما جرى سنة 1975، ويصبح نتنياهو الكاسب الوحيد فى ذلك.

سوريا أيضا، منذ 8 ديسمبر الماضى، انكفأت تماما على ذاتها، الجيش العربى السورى تمت تصفيته مع نظام الأسد، ضربت إسرائيل مخازن السلاح والذخيرة، تفكك الجيش تماما، وامتدت الأصابع الإسرائيلية إلى محافظتى السويداء والقنيطرة، يتحرك فيها الجيش الإسرائيلى بحرية، فرض واقعا جديدا على الأراضى السورية.. لأول مرة منذ حرب 1948 تخرج سوريا من كفة القوة العربية.

يشعر نتنياهو أنه فى لحظة نصر عظيم، وأنه يحارب على سبع جبهات وأنه نجح فيها جميعا، وهكذا تقدم فى الأسابيع الأخيرة، نحو الخطوة التى تبدو له أخيرة.. فقد أعلن مشروع إسرائيل الكبرى وقوبل باستهجان شديد، فضلا عن رفض عربى صارم لذلك الادعاء والحلم البغيض، فقرر أن ينتقل إلى هدفه القديم، وهو طرد سكان غزة من أراضيهم، كى تتحول غزة إلى «ريفيرا الشرق الأوسط» وفق مشروع الرئيس ترامب، وتكون غزة تحت إدارة أمريكية فى المقام الأول، حتى وإن حملت مسميات أخرى.

يفوز ترامب بغزة، ويتجه نتنياهو نحو الضفة الغربية، وفق فهمه التوراتى لأرض الميعاد وقيام إسرائيل الكبرى.

فى كل هذا تقف الدولة المصرية حائط صدّ أمامه، لذا يحاول أن يلقى بالألغام أمام مصر، بدءا من مجموعة الإسرائيليين العرب، الذين وقفوا أمام السفارة المصرية فى تل أبيب، فى تعاون مطلق بين إخوان صهيون من جماعة حسن البنا والمشروع الصهيونى، كما وصفه تيودور هيرتزل، ثم محاولة إثارة القلاقل على طريقة «رمى البلا» أو «رمى الجِتت».

«رمى البلا» على هذا النحو يكشف الأزمة العميقة التى يمر بها نتنياهو، ليس فقط على المستوى الشخصى، لكن على المستوى السياسى وكرجل دولة، هو تقريبا وصل إلى حد الإفلاس السياسى التام، دخل حربا ولا يستطيع أن ينهيها، ولا هو قادر على الخروج منها، رغم القوة الباطشة والتدمير الذى قام به، فإنه لم يحقق أى مكسب ، بل خسارة فادحة، حول العالم، فضلا عن الداخل الإسرائيلي.. على النحو التالى:

فى الداخل هناك هجرات تتزايد من إسرائيل إلى خارجها، ذلك أن المواطن لم يعد يشعر بالأمان، وتوقفت إسرائيل عن أن تكون دولة جاذبة للإنسان اليهودى حول العالم، مضى ذلك الزمان الذى كانت إسرائيل تبدو فيه بلد الديمقراطية، واحة الأمان.

أما فى العالم الخارجي، ففقدت إسرائيل الامتيازات التى كانت تتمتع بها، مثل أنها الديمقراطية الوحيدة وسط دول ديكتاتورية، تبين أنها دولة الإبادة الجماعية والفوضى، لا ديمقراطية ولا أى شيء، غير العنف والقتل والتدمير، وقد تشكلت جمعيات ومجموعات فى عدد من الدول الغربية للدفاع عن الحق الفلسطيني، ورفض الإبادة الجماعية. العديد من جامعات الغرب شهد حركات تعاطف واسعة مع فلسطين، حتى فى داخل الولايات المتحدة، فقدت الحصانة المطلقة التى كانت تتمتع بها.

لأول مرة تجد انتقادات حادة داخل الكونجرس من ديمقراطيين وجمهوريين لطريقة تعاملها مع الفلسطينيين ومع العرب.

ذروة الفشل الإسرائيلى وعجز نتنياهو تحديدا، هو اعتزام عدد من دول العالم الاعتراف تحت قبة الأمم المتحدة، هذا الشهر، بالدولة الفلسطينية، وفى مقدمتها فرنسا وبريطانيا وأستراليا وإسبانيا وغيرها من الدول.

اعتراف بريطانيا وفرنسا له دلالته الخاصة، بريطانيا كانت صاحبة الانتداب على فلسطين، وصاحبة وعد بلفور سنة 1917، وأن تعترف بدولة فلسطين يعنى رفض أحلام نتنياهو كلها، والشروع فى بناء دولة فلسطين، وهذا مقرر من الأمم المتحدة منذ سنة 1947 مع صدور قرار التقسيم.

أما فرنسا، فهى الدولة التى ساعدت إسرائيل سرا على بناء مفاعل ديمونة، بزعم أن العرب المحيطين بإسرائيل يريدون تدميرها، وها هى الحقائق تتكشف، الدول العربية منذ قمة سنة 2003 فى بيروت أقرت مشروع حل الدولتين، وإسرائيل هى التى تعرقل المشروع، وتقف ضده بضراوة.

ثم دخلت عدة دول عربية فى مشروع السلام الإبراهيمى، بما يؤكد الرغبة فى السلام ولكن إسرائيل لم تتقدم خطوة نحو الحل، بل إنها تمارس تصعيدا ومحاولة لتصفية القضية الفلسطينية برمتها.

هذا الانكشاف الإسرائيلى التام أمام العالم سوف يجعلها تزداد شراسة فى مواجهة الدول العربية، خاصة مصر، لأن مصر تصر على حل الدولتين.

وترفض بالمطلق التهجير القسرى، ولن تسمح به، حاول نتنياهو أن يقدم الجزرة، بوعد إسقاط الديون عن مصر كلها، وتقديم معونة تقترب من ستين مليار دولار فى مقابل استقبال سكان غزة، وتبنت الولايات المتحدة تلك الفكرة، ولما رفضت مصر المساس بسيناء، قالوا لا مانع فى أن يتم نقلهم داخل مصر، لكن الرئيس السيسى كان واضحا ومباشرا: «لن نسمح بتهجير الفلسطينيين».

وبسبب هذا الموقف المبدئى، لا بد أن نتوقع من نتنياهو المزيد من محاولة «رمى البلا» أو «يرمى بلاه علينا»، يتصور أنه بذلك سوف يتخلص من العار الذى يلاحقه، هو ملاحق من «الجنائية الدولية»، فى نظر العالم مجرم حرب وسفاح يحاول إبادة شعب بأكمله، هو الشعب الفلسطينى فى غزة وفى الضفة.

هذا الموقف يتطلب منا عدة أمور:

أولا: الإصرار على حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية، وهو موقف مبدئى لدى الدولة المصرية، بدءا من الرئيس السيسى نفسه، وصولا إلى كل مسئول فى مختلف المواقع.

ثانيا: ضرورة الاصطفاف الوطنى مع الدولة فى هذا الوقت، فلا نلقى بالًا إلى ما يقوله نتنياهو.. ونفنده أولا بأول، هذا دور الإعلاميين والمحللين السياسيين وألا نلقى بالًا إلى أولئك الذين يرقصون على معزوفة نتنياهو منذ 7 أكتوبر، سواء فعلوا ذلك عن بلاهة وعدم وعى، أو عن صيد فى الماء العكر ومحاولة البحث عن مكاسب صغيرة، وربما بينهم عملاء مباشرون، مثل أولئك الذين وقفوا أمام سفارتنا فى «تل أبيب»، والذين حاولوا إثارة الشغب العام أمام عدد من سفاراتنا فى الخارج.

ثالثا: مطلوب موقف عربى موحد قوى، وهو حادث الآن، بين مصر والأردن وبين مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر، هذا الموقف سوف يدفع العالم دفعًا نحو مساندة الحق الفلسطينى وحماية الشعب الفلسطينى من الآلة الجهنمية للإسرائيليين.

رابعًا: بات ملحا ضرورة وجود موقف فلسطينى موحد، يعلو على صراعات الفصائل وخلافاتها البينية، فلا يُعقل أن تتفاوض حماس عبر وسطاء مع إسرائيل وتتفاوض مع الولايات المتحدة، ولا تجلس بالمرة مع السلطة الوطنية، ولا يكون بينهما غير العداء والرفض.

وكما تحررت الجزائر ونجحت جنوب إفريقيا فى إسقاط نظام «الأبارتيد» سوف تقوم الدولة الفلسطينية المستقلة، على حدود الرابع من يونيو سنة 1967.

أما ادعاءات نتنياهو وغيره بخصوص مصر، فقط نقول: «ياما دقت على الراس طبول».

أخبار الساعة