لم يعد «التوطين» مجرد شعار اقتصادى أو برنامج حكومي محدود الأثر، بل أصبح عنوانًا لمرحلة جديدة فى مسيرة الجمهورية الجديدة، يضع مصر على طريق امتلاك «القدرات الذاتية» فى شتى المجالات الحيوية، من الصناعات الدفاعية إلى الغذاء والدواء، ومن الزراعة والطاقة إلى السيارات والصناعات التعدينية، وصولًا إلى التكنولوجيا ذاتها، واتخاذ خطوات استباقية فى هذا الإطار تضمن مواكبة مصر لكافة التغيرات الدولية المتسارعة.
وخلال السنوات الأخيرة، تسير مصر بخطوات متسارعة وتضع أقدامها بثبات فى مسار استراتيجى واضح يقوده الرئيس عبدالفتاح السيسى، يتمثل فى توطين مختلف الصناعات باعتباره ركيزة أساسية لتحقيق الأمن القومى والتنمية المستدامة، وتقليل الاعتماد على الخارج فى ظل الاضطرابات الدولية وأزمات سلاسل الإمداد، وهذا ما يتضح جلياً منذ عام 2014، حينما تكررت توجيهات الرئيس بضرورة «امتلاك القدرة» فى قطاعات حيوية مثل المعدات العسكرية، والدواء، والغذاء، والطاقة، لتأمين احتياجات الدولة وتعزيز قدراتها الإنتاجية.
الدكتور بلال شعيب، الخبير الاقتصادى، أكد أن توجيهات الرئيس السيسى بشأن توطين الصناعات المختلفة تمثل ركيزة أساسية فى بناء اقتصاد قوى ومستدام، فهذه التوجهات لا تهدف فقط إلى تقليل الاعتماد على الاستيراد وتخفيف الضغط على العملة الصعبة، وإنما أيضاً إلى زيادة معدلات التوظيف، وتوسيع قاعدة الإنتاج، ودعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وصولاً إلى تعزيز تنافسية المنتج المصرى فى الأسواق الإقليمية والعالمية.
وأوضح أن الحكومة نفذت خلال السنوات الأخيرة جهودًا واسعة فى ملف توطين الصناعة، باعتباره المدخل الأهم لعلاج الخلل الهيكلى المزمن فى الميزان التجارى، إذ إن هذا الخلل ظل واضحًا على مدار ما يقرب من ثلاثة عقود نتيجة تغليب الاستهلاك على حساب الإنتاج، حيث وصلت الفاتورة الاستيرادية لمصر إلى نحو 90 مليار دولار، فى حين لم تتجاوز قيمة الصادرات فى أفضل حالاتها 45 إلى 46 مليار دولار من الصادرات غير البترولية، وهو ما أبرز الفجوة الكبيرة بين الاستيراد والتصدير. وضرب مثلًا بقطاع السيارات وقطع الغيار الذى يستنزف وحده نحو 5.5 مليار دولار سنويًا، أى ما يعادل 6 إلى 7 فى المائة من إجمالى فاتورة الواردات المصرية، لافتًا إلى أن ذلك يعكس ضرورة الإسراع فى توطين الصناعات الحيوية.
وأشار الخبير الاقتصادى إلى أن الدولة بدأت بمعالجة البنية التحتية كخطوة أولى، حيث أنفقت أكثر من 10 تريليونات جنيه لرفع كفاءتها وتحسينها، إلى جانب تبنى البنك المركزى سياسة نقدية جديدة بالتحول من سعر صرف ثابت إلى سعر صرف مرن، الأمر الذى انعكس إيجابًا على موارد النقد الأجنبي، بجانب الإجراءات الحكومية فى مجال تهيئة مناخ الاستثمار، وعلى رأسها تطبيق «الرخصة الذهبية» التى أحدثت نقلة نوعية كبيرة؛ فبعد أن كان المستثمر يحتاج إلى أكثر من عامين للحصول على التراخيص، أصبحت اليوم تصدر خلال 20 يومًا فقط، مضيفا أن «وثيقة سياسة ملكية الدولة» بعثت برسالة طمأنة قوية للمستثمرين الأجانب، إذ أكدت أن الحكومة تعتبر القطاع الخاص شريكًا استراتيجيًا فى التنمية، وهو ما يعزز الثقة فى السوق المصرية، خاصة أن مساهمة القطاع الخاص تتراوح بين 60 و65 فى المائة من حجم الاقتصاد.
«شعيب» أوضح أن الحكومة وضعت مستهدفًا استراتيجيًا لزيادة الصادرات المصرية لتصل إلى 100 مليار دولار خلال الفترة المقبلة، وهو ما من شأنه أن ينعكس بصورة مباشرة على خفض معدلات التضخم، من خلال تقليص الاعتماد على الاستيراد وسد فجوة احتياجات السوق المحلية عبر الإنتاج الصناعى الوطنى، وهذا التحول سيعزز قدرة الدولة على دعم الاحتياطى النقدى الأجنبى بفضل تنامى الصادرات، إلى جانب إنهاء أزمة الدولار التى عانت منها مصر لسنوات طويلة، وبالتالى فالصناعة تمثل الرافعة الأساسية لهذا التوجه، ليس فقط من خلال المساهمة فى تحسين مؤشرات الاقتصاد الكلي، وإنما أيضًا عبر خلق فرص عمل واسعة النطاق.
وأشار «شعيب» إلى أن القطاع الصناعى يشغّل حاليًا ما بين 3 إلى 3.5 مليون عامل، بينما تستهدف الدولة رفع حجم التوظيف فى هذا القطاع الحيوى إلى نحو 8 ملايين عامل، بما يضاعف من دوره فى تقليص البطالة وتحسين مستويات المعيشة، لافتا إلى أن الصناعة تسهم حاليًا بنسبة 14 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى، فى حين أن الدول التى تحقق طفرات اقتصادية كبرى غالبًا ما تتجاوز فيها نسبة مساهمة الصناعة 20 فى المائة من الناتج المحلى، ومصر تسير على الطريق الصحيح للوصول إلى هذه النسبة، ما سينعكس إيجابًا على مختلف المؤشرات الاقتصادية والتنموية خلال الفترة المقبلة.
مسار التوطين فى الصعود
ولفت إلى أن مصر قطعت شوطًا ملموسًا فى مسار توطين الصناعات الاستراتيجية، فخريطة الفرص الاستثمارية التى وضعتها الدولة تضم مجموعة واسعة من القطاعات التى تمثل ركيزة أساسية فى تقليص فاتورة الاستيراد وزيادة حصيلة الصادرات، ويأتى قطاع السيارات فى مقدمة هذه الصناعات، لكونه واحدًا من أكثر القطاعات استنزافًا لفاتورة الاستيراد، الأمر الذى يجعل تعميق التصنيع المحلى فى هذا المجال خطوة ضرورية ليس فقط لتلبية احتياجات السوق المحلية، بل أيضًا للانخراط فى سلاسل التوريد العالمية.
«شعيب» أكد أن قطاع الإلكترونيات والصناعات الهندسية يُعد من المجالات الواعدة للتوطين، نظرًا لارتفاع الطلب العالمى وتسارع وتيرة التحول الرقمي، وهو ما يتماشى مع توجه الدولة نحو تعزيز الاقتصاد المبنى على التكنولوجيا والمعرفة.. وفى السياق نفسه، شدد «شعيب» على أهمية القطاع الزراعى، معتبرًا أنه أحد الأعمدة الرئيسية للأمن الغذائى لمضاعفة قدرات مصر التصديرية، وهذه القطاعات مجتمعة ــ السيارات، النسيج، الإلكترونيات، الصناعات الهندسية، والزراعة ــ تمثل رهان الدولة المصرية لتحقيق مستهدفاتها فى مضاعفة الصادرات إلى 100 مليار دولار سنويًا، وتقليص الاعتماد على الاستيراد، بما ينعكس إيجابيًا على النمو الاقتصادى وتوفير فرص عمل واسعة للشباب.