هذا كتاب تاريخى، طبعته هيئة الكتاب، دار النشر الرئيسية فى مصر والوطن العربي والعالم الثالث لجمال الغيطانى سنة 2016، أى منذ تسع سنواتٍ مضت. ويهدى كتابه إلى من استشهدوا لكى نبقى وتبقى مصر.
ويعترف جمال «9 مايو 1945 – 18 أكتوبر 2015» فى أول كتابه أنه بعد يونيو 1967 تعرَّض المقاتل المصرى العظيم لحملة نفسية واسعة. كانت في حقيقتها موجهة للإنسان المصرى ذاته بتاريخه ومكوناته الحضارية.
انطلقت هذه الحرب فى شكل أكاذيب مزعومة لوجهات نظر زائفة. وكانت الأكاذيب فى هذه الحملة لا علاقة لها بالواقع على الإطلاق. لأن من طمعوا فى مصر استيقظوا بعد النكسة، وقاموا بما قاموا به. وثبت أن التاريخ خير مُعلمٍ للجميع. وأن وقائعه قادرة على الرد على الكُل.
خلال الفترة الواقعة بين 1967 وأكتوبر 1973 كانت عناصر الوطنية المصرية تتبلور بوضوح، وتعمل بشكل جوهرى لتُشكِّل سلوك الإنسان المصرى وظروفه خلال هذه الفترة الحاسمة من تاريخنا. وكما يقول المؤرخ صلاح عيسى فى كتابه: محاولة لفهم المقاتل المصري، أنه قد تعرَّض إنسانُنا المصرى دوماً لمحاولات التشويه، كان هناك إلهام خبيث لدى أعدائه يجعلهم يدركون الخطر الذى يمكن أن يحيق بهم ما لم يعملوا بكل ما فى استطاعتهم لتشويهه.
إلهامٌ ينطلق من ذكاء بارع بما فى حضارة شعبنا من قيم إنسانية، تجعل جزءاً من جبهة العداء الممتدة عبر التاريخ بأشكال الاستغلال والاستنزاف جزءاً يتميز إلى هذا بخاصية المقاتل العنيد الذى يملك قدرة العطاء اللا محدود حِرصاً على استمرارها وتخليصها من الظُلم والطُغيان.
ويؤكد «الغيطانى» أنه من خلال وقائع التاريخ المدوَّن نكتشف حقيقة موضوعية. ولأن المقاتل المصرى أقدم من حمل السلاح فى التاريخ البشري، الحضارة المصرية تُمثِّل فجر الإنسانية وأقدم مجتمع بشرى. وهذا يعنى أنه أقدم المجتمعات المستقرة، ولكن الاستقرار كان يواكبه عامل آخر هو العامل الحربي.
فالمجتمع الزراعى لم يخلق فى مصر مجتمعاً مستقراً. وإنما اقتضى هذا صراعاً طويلاً استغرق آلاف السنين. أضعاف تاريخنا الحديث. والإنسان المصرى يحارب الطبيعة القاسية، يحاول أن يُروِّض النيل الوحشي، ومحاولة الترويض هذه استمرت طوال حقبات تاريخنا.
وكان مؤلف هذا الكتاب المهم الروائى جمال الغيطانى قد قضى ست سنوات على الجبهة المصرية مراسلاً حربياً لمؤسسة أخبار اليوم. كان يواجه الموت كل ساعة. ولذلك فإن حكايات الغيطانى على الجبهة عديدة، متنوعة، إنسانية. تدور عن البشر المنسيين. حكايات عن الموت الذى كان ينتظره المقاتلون فى كل لحظة. عن الموت الذى قد تنجو منه مرة ومرة. ولكنه يُطاردك.
عندما قرأ جمال عبد الناصر تحقيقات جمال الغيطانى الإنسانية عن الجبهة قال للمقربين منه: هذه نوعية الكتابة التى نُريدُها. إنها كتابة إنسانية.
وفى هذا الكتاب المهم بعض حكايات المصريين عن الحرب.
وتحت عنوان: مقاتل من أعماق سيناء يكتُب الغيطاني: أصدقائى الأعزاء، هناك حقيقة موضوعية تتجسد هنا فوق أرض سيناء. فى كل لحظة بين هدير الانفجارات وتناثر الشظايا حقيقة لابد أن تظل ماثلة فى وعينا كلما استمعنا إلى بيان عسكرى يزف إلينا بُشرى جديدة للنصر. هذه الحقيقة أن كل شبرٍ جديدٍ تتقدمه قواتنا المسلحة إلى الشرق. كل خطوة جديدة تحرر جزءاً من أرضنا المحتلة. كل دورة لجنزير دبابة أو عربة مدرعة تُقرِّبنا من يوم النصر النهائى.
هنا فوق سيناء يجود أغلى أبناء مصر بأثمن ما يملكون بأعمارهم. هنا يضحى زهرة شباب مصر بأغلى ما لديهم. هنا معارك ترقى إلى مستوى المُعجزات. هنا ينفض الشعب آلامه وجراحه عبر مخاضٍ وعر قاسٍ وطويل.
إننى سأكتب لكم عن بعضٍ من زملائى ومن أصحابى. تعرفت عليهم تحت السلاح، ونمت بيننا علاقات فوق الزمان والمقاييس العادية التى تعرفونها. خلال الحرب يعرف الإنسان أخاه أكثر، تتفتح السُبل بين القلب والإنسان المصرى. لا توجد موانع، إنما يُفسح المجال لأنقى ما فى البشر.
المقاتل المصرى يشدنى إليه بهدوء، وجهه بسيط، وعيناه دائماً تتطلعان إلى الأمام، كأنه يحاول استيضاح تفاصيل شيء ما. عام 1969 اشترك فى الإغارة على أحد المواقع الحصينة بخط بارليف، رفع العلم المصرى لأول مرة فوقه بعد يونيو 1967.
وفى بداية هذا الأسبوع استسلم نفس الموقع، تقدم المقاتل عبد الوهاب حاملاً العلم بهدوء، غرسه، ثبَّت الصاري، قام واقفاً، أدى التحية العسكرية بخشوعٍ وجلال، رُحت أرقب وجهه الهادئ وعينيه الخضراوين بعد أن هتف ثلاثاً: تحيا مصر. تفجَّر هدوؤه فى موجاتٍ متعاقبة وانحنى فوق الرمال يُقبِّلها. يُهيلها فوق وجهه ولمحت دموعاً خافتة فى عينيه.
فجأة استدار إلى الخلف حاملاً سلاحه. عاد إلى هدوئه. هذا الهدوء ما هو إلا وجه واحد. أما الوجه الثانى فيبرُز خلال الاشتباك عندما نهاجم العدو، نلتحم بجنوده بفولاذ مدرعاته، وجه مقاتلنا يندفع فى المقدمة. يرفض نزول الإجازات الميدانية الصغيرة. لا يريد الغياب ثانية واحدة عن ميدان القتال.
خلال لحظات الهدوء قال لى عبد الوهاب بعد صمتٍ طويل اعتدته منه أنه يشكر ظروفه التى أتاحت له الانضمام إلى القوات المسلحة الآن. فى هذه الظروف تمكَّن أن يُعايش الجهاد، ثم رأى النصر يُشارك فيه. وأعظم ما فى حياته أنه مر بتجربة الحرب العظيمة، حرب التحرير الكُبرى.
