رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

ورطة «الإرهابية» فى الإكوادور.. «غسل الأموال».. حيلة إخوانية لتمويل المخططات الشريرة


25-12-2025 | 17:25

.

طباعة
بقلـم: طارق أبو السعد

لم تُطلق الإكوادور بيانًا ناريًا، ولم تدعُ إلى مؤتمر صحفى مزدحم بالكاميرات، فى صباح هادئ من الأربعاء 3 ديسمبر 2025، كان القرار قد صدر بالفعل: مرسوم رئاسى مُوقَّع من الرئيس دانييل نوبوا، مُدرج فى السجل القانونى للدولة، يُصنّف جماعة الإخوان منظمةً إرهابية. هكذا، بهدوء محسوب، أُغلِق باب كان مفتوحًا طويلًا على جماعة اعتادت العمل فى الظل. للوهلة الأولى، بدا المشهد غير متوقع. فالإكوادور ليست من دول المواجهة التقليدية مع الإسلام السياسي، والمسلمون فيها لا يتجاوز عددهم 20 ألفًا. لكن ما لا يُرى فى العلن غالبًا ما يكون أكثر خطورة ما يظهر على السطح. خلف هذا القرار، كان ثمة تقرير استخباراتى سرى أعدّه المركز الوطنى للاستخبارات، وُضع على مكتب الرئيس، ولم يترك مجالًا للتردد.

التقرير ــ بحسب البيان الرسمى المرافق للمرسوم ــ لم يتحدث عن أفكار عامة أو نشاط دعوى عابر، بل اتهم صراحةً جماعة الإخوان بـ«التدخل فى المجتمع الإكوادورى»، وهى عبارة ثقيلة لا تُستخدم اعتباطًا فى القاموس الأمني. ورغم أن الحكومة امتنعت عن كشف التفاصيل، فإن توصيف الجماعة كـ«تهديد للسكان ولسيادة الدولة» كان كافيًا للإشارة إلى أن المسألة تجاوزت حدود الجدل الفكرى إلى منطقة الخطر الصريح.

 

فى تلك اللحظة، لم تعد الإخوان فى نظر السلطات مجرد تنظيم أيديولوجى عابر للحدود، بل شبكة منظمة تعمل بصمت، وتتحرك وفق منطق التغلغل لا المواجهة، وتراكم النفوذ بدلًا من الإعلان عنه. ومن هنا، تبنّت الإكوادور تعريفًا أوسع للإرهاب، تعريفًا لا يختزل الخطر فى العنف المباشر وحده، بل يراه فى بناء الشبكات، واستغلال البيئات الهشّة، وتهيئة الأرض قبل أن ينفجر المشهد.

السر الذى حملته التقارير المخابراتية

أفادت مصادر قريبة من دوائر صنع القرار، أن القلق داخل أروقة السلطة والأجهزة المعنية فى الإكوادور بدأ يتشكّل أواخر فبراير 2023، عقب إعلان باراجواى تصنيف جماعة الإخوان منظمةً إرهابية تهدد الأمن والاستقرار فى البلاد. لم يكن ذلك الإعلان حدثًا معزولًا، بل مثّل جرس إنذار حقيقياً لدول الجوار، خصوصًا تلك التى تعانى هشاشة فى الرقابة المالية وتحديات أمنية متراكمة.

فى الإكوادور، التقط «المركز الوطنى للاستخبارات» الإشارة سريعًا، وبدأت وحدة الرصد والتحليل فى جمع البيانات المتعلقة بجماعة الإخوان، مع التركيز على احتمالات استغلال الأراضى الإكوادورية كـ«دولة ممر» لعمليات التمويل أو غسل الأموال القذرة، فى منطقة تُعد أصلًا ساحة نشطة لشبكات الجريمة المنظمة.

شهور طويلة من العمل الصامت، تكدّست خلالها التقارير السرية وخرائط التدفقات المالية، قبل أن يصل العقيد جورج كوستا بالاسيوس، مدير المركز الوطنى للاستخبارات (CIES)، إلى قناعة حاسمة: ما يجرى ليس نشاطًا فكريًا عابرًا، بل بنية تنظيمية خطيرة، تتسلل ببطء وتتحرك كدبيب النمل، دون أن تُثير ضجيجًا، لكنها تترك أثرها العميق فى البنية الاقتصادية والأمنية للدولة.

كان الزمن، فى نظر كوستا، عنصرًا حاسمًا. فكل تأخير يعنى اتساع دوائر التغلغل. وبعد استكمال ما اعتبره «الحد الأدنى الكافى لاتخاذ قرار استباقي»، حسم أمره. فى مساء الثلاثاء 3 ديسمبر، توجّه إلى قصر كارونديليه فى ساحة الاستقلال، مقر الرئاسة فى قلب العاصمة «كيتو»، حاملًا معه تقريرًا من سبع صفحات، وُضع بعناية داخل مظروف أحمر، كُتب عليه بخط واضح: (سرى للغاية – لا يطلع عليه سوى رئيس الدولة) وطلب لقاء الرئيس دانييل نوبوا على الفور.

داخل القصر، لم يحتج رئيس الاستخبارات إلى خطاب مطوّل، شرح الأمر فى جُمل قصيرة ومباشرة: جماعة الإخوان تنظيم سرى أيديولوجى عابر للقارات، بدأ يتسلل إلى أمريكا اللاتينية مستغلًا السيولة الأمنية وضعف الرقابة المالية، الخطر، كما هو واضح لا يكمن فى هجمات إرهابية محتملة، بل فى ما هو أخطر: شبكات غسل أموال تعمل عبر عصابات متخصصة، تنشط فى باراجواي، والإكوادور، ودول أخرى فى الإقليم.

أكّد كوستا أن الجماعة لا تمتلك نشاطًا سياسيًا ظاهرًا داخل البلاد، لأنها بطبيعتها تنظيم يعمل فى الظل. غير أن جوهر التهديد يكمن فى مساراتها المالية، وقدرتها على استغلال الثغرات القانونية، والتقاطع المحتمل بين بنيتها التنظيمية السرية وبيئات غسل الأموال التى تنشط بالفعل فى الإكوادور، بفعل تمدد العصابات وشبكات الجريمة المنظمة.. عند هذه النقطة، لم يعد السؤال مطروحًا حول إن كان يجب التحرك، بل متى.

لم يكن رئيس الاستخبارات فى حاجة إلى شرح مطوّل ليُدرك الرئيس أن اعتماد الإكوادور على الدولار الأمريكى عملةً رسمية منذ عام 2000 – فيما يُعرف بسياسة «الدولرة» – قد صنع بيئة اقتصادية مستقرة نسبيًا، لكنها فى الوقت نفسه فتحت ثغرات خطيرة أمام عمليات غسل الأموال. فالأموال غير المشروعة، حين تتحول إلى دولار، تفقد جزءًا كبيرًا من «رائحتها الجنائية»، وتصبح أكثر قابلية للاندماج داخل النظام المالى العالمى دون إثارة الشبهات.

كيف يغسل الإخوان أموالهم فى أمريكا اللاتينية؟

بحسب ما كشفه التقرير الاستخباراتى، استغل تنظيم الإخوان الإرهابى ثغرات واضحة فى منظومات الرقابة المالية بعدد من دول أمريكا اللاتينية، من بينها الإكوادور. البداية تكون بمرحلة الإيداع (Placement)، حيث تُنقل الأموال النقدية إلى داخل البلاد مستفيدة من انتشار السيولة، واعتماد التعاملات اليومية على الدفع النقدي، ما يجعل تتبع المصدر الحقيقى للأموال مهمة شبه مستحيلة.

ثم تأتى مرحلة التمويه (Layering)، عبر إنشاء شركات واجهة أو جمعيات خيرية صورية، يسيطر عليها عناصر أو واجهات مرتبطة بالجماعة داخل الإكوادور. فى هذه المرحلة، تُودَع الأموال فى حسابات تلك الكيانات، وتُجرى عليها سلسلة من التحويلات والمعاملات المصطنعة لإخفاء أصلها الحقيقى.

أما المرحلة الأخيرة، فهى الدمج (Integration)، حيث تُدرج هذه الأموال ضمن ميزانيات تبدو قانونية، وتتحول من أموال قذرة إلى موارد «شرعية» قابلة للاستخدام أو التحويل دون إثارة الانتباه.

وتُسهم سياسة الدولرة فى تسهيل الربط مع النظام المالى الأمريكي، ما يجعل التحويلات إلى بنوك أمريكا الوسطى، والولايات المتحدة، ومنطقة الكاريبى أكثر سلاسة وأقل خضوعًا للتدقيق. وهو الأسلوب ذاته الذى يستخدمه تنظيم الإخوان فى الإكوادور، كما فى عدد من دول أمريكا اللاتينية.

وكشف التقرير أن الجماعة تعتمد على تحويلات مالية صغيرة ومتفرقة، يصعب ربطها بمصدر واحد أو إخضاعها لأنظمة الإنذار المصرفي. وهو نمط مطابق تقريبًا للأساليب المعروفة لدى شبكات غسل الأموال الدولية، خاصة حين يتقاطع مع غطاء العمل الخيرى أو الاجتماعي. عند هذه النقطة، لا تعود المسألة نشاطًا فكريًا أو دعويًا، بل تتحول إلى مخاطرة مالية وأمنية مركبة.

الأخطر، وفق التقديرات الاستخباراتية، أن هذا النمط من غسل الأموال لا يحتاج إلى إدارة تنظيمية معقدة، ولا إلى هياكل معلنة داخل الدولة. يكفى وجود نقطة اتصال واحدة، تربط الداخل الإكوادورى بشبكات خارجية، لتتحرك الأموال فى صمت، مستفيدة من بطء القوانين، وثغرات الرقابة، لتتحول البلاد إلى محطة عبور أو إعادة توزيع داخل منظومة مالية عابرة للحدود.

هنا تحديدًا يتقاطع الخطر الأيديولوجى مع الجريمة المنظمة، لا فى الشعارات أو الشكل، بل فى آليات العمل والتمويه. ومن هذا التقاطع، جاء القرار الإكوادورى ليقطع الطريق على استخدام الدولة كـ«مساحة رمادية» فى خريطة التمويل الدولي. فلم تنظر السلطات إلى الإخوان بوصفهم حالة سياسية معزولة، بل كتنظيم شبكى يمتلك خبرة تاريخية فى العمل السري، ويتكيف بمرونة مع بيئات الجريمة المنظمة، سواء بقصد مباشر أو عبر استغلال متبادل للمسارات نفسها.

وفى دولة تخوض صراعًا مفتوحًا مع العصابات، فإن السماح بوجود أى شبكة إضافية تعمل خارج الرقابة الصارمة لا يُعد مخاطرة محسوبة، بل ثغرة سيادية لا يمكن تجاهلها فكان القرار الحاسم إعلان جماعة الإخوان تنظيمًا إرهابياً.

ماذا بعد التصنيف؟

لم يتوقف المرسوم الرئاسى عند حدود الإعلان السياسي، بل تجاوز ذلك إلى أوامر تنفيذية مباشرة وملزمة للمركز الوطنى للاستخبارات، عكست بوضوح جدية القرار وامتداده العملى على الأرض. فقد كُلِّفت أجهزة الاستخبارات بسلسلة من المهام المحددة، فى مقدمتها تحليل تأثير التنظيم داخل الأوساط الاجتماعية والدينية، ورصد أى تقاطعات محتملة مع الجماعات المسلحة أو شبكات الجريمة المنظمة، إلى جانب تصنيف أى ارتباطات محتملة وفقًا لقوانين مكافحة الإرهاب المعمول بها داخل الدولة.

كما نصّ المرسوم على التنسيق مع أجهزة استخبارات أجنبية، بهدف المقارنة واستكمال البيانات، فى خطوة تعكس انفتاح الإكوادور على تبادل المعلومات خارج الدائرة الإقليمية التقليدية.

ويحمل هذا البند الأخير دلالة استراتيجية مهمة؛ إذ يشير إلى رغبة واضحة فى بناء شبكة تعاون أمنى دولى لا تقتصر على أمريكا اللاتينية أو الولايات المتحدة، بل تمتد إلى دول فى الشرق الأوسط، وعلى رأسها دول العربية، التى تمتلك خبرة طويلة ومتراكمة فى التعامل مع تنظيمات الإسلام السياسي.

اللغة الصارمة التى استخدمها المرسوم لم تأتِ من فراغ، بل عكست قناعة متزايدة داخل دوائر صنع القرار فى كيتو بأن الخطر الحقيقى لا يكمن فقط فى الخطاب الأيديولوجى لجماعة الإخوان، وإنما فى قدرتها على استغلال البيئات القانونية الهشّة، وتحويل دول بعيدة عن بؤر الصراع إلى محطات آمنة للتمويل وغسل الأموال، تحت غطاء العمل الاجتماعى أو الاستثمارى.

فالإكوادور، رغم بعدها الجغرافى عن مناطق التوتر التقليدية، لا تزال عرضة للاختراق، فى ظل منظومة استثمارية تسمح بتدفقات مالية معقّدة، باتت هدفًا مغريًا لتنظيمات عابرة للحدود تبحث عن ملاذات قانونية أقل صخبًا وأكثر أمانًا.

لم تُصنِّف الإكوادور جماعة الإخوان بسبب ما فعلته علنًا، بل بسبب ما يمكن أن تفعله إذا تُركت تعمل وفق نمطها المعروف. وهو منطق أمنى بات حاضرًا بقوة لدى دول قررت ألّا تكرر أخطاء غيرها، وأن تتعامل مع التنظيمات العابرة للحدود بوصفها تهديدًا مركبًا، يبدأ بالفكرة، ويمرّ بالشبكة، وقد ينتهى بالأمن والسيادة.

تأثير القرار على الجماعة الإرهابية

لا يقتصر تصنيف جماعة الإخوان منظمةً إرهابية على حظر الاسم أو الشعار، بل يفرض تحولًا شاملًا فى تعامل الدولة مع أى نشاط مرتبط بالجماعة. إذ يتيح تجفيف مصادر التمويل، وتشديد الرقابة على الشبكات المتصلة بها، وحلّ الواجهات القانونية أو المجتمعية التى قد تُستخدم غطاءً لنشاط تنظيمى أو مالي، فضلًا عن تجريم أى ارتباط فكرى أو تنظيمى مثبت، ووضع المعنيين به تحت رقابة أمنية مباشرة.

وعلى المستوى الدولي، يعزز القرار التعاون الاستخباراتي، ويُدرج الجماعة ضمن ملفات المتابعة المشتركة، ما يضيّق الخناق على تحركاتها وأموالها ومساراتها العابرة للحدود، ويسحب منها ادعاءها الكاذب والعمل تحت شعار « الدعوة السلمية» الذى طالما استخدمته للتمويه لأنشطتها الإرهابية.

تحول دولى ودلالة تتجاوز الإكوادور

القرار الإكوادورى لا يعبّر عن خصوصية محلية بقدر ما يعكس تحولًا دوليًا فى التعامل مع الجماعة الإرهابية، باعتبارها تنظيما عابرا للحدود ذات أنماط تنظيمية متكررة يبرز الفهم الشبكى للجماعة كتنظيم يتكيف مع البيئات المختلفة دون تغيير جوهره.

لم تنتظر الإكوادور خطرًا مكتملًا، بل أغلقت باب الخطر المحتمل مبكرًا. فالقرار أمنى ووقائى فى جوهره، يستهدف منع تشكّل التهديد بدل التعامل مع نتائجه لاحقًا. وفى دولة تواجه تمدد العصابات وتشابك الشبكات الإجرامية، فإن السماح لأى تنظيم شبكى يعمل خارج الرقابة لا يُعد مخاطرة محسوبة، بل ثغرة سيادية لا يمكن تجاهلها.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة