«معسلة أوى يا بطاطا».. «الترمس.. بلدى ومسكر».. ينادى بها شاب فى أوائل العشرينيات، يتجول بين العائلات على الشاطئ، يحمل فوق كتفه جردلًا صغيرًا مغلفًا بقطعة قماشى ليحفظ حبات الترمس من حرارة الشمس. يمر بين شماسى قماشية وأسر تجلس على الأرض، وسط ضحكات الأطفال ورائحة البحر المختلطة برائحة الكشرى والسندويتشات المحفوظة فى علب بلاستيكية.
على شواطئ المحروسة ما زالت الحياة تنبض بشكل مختلف. فى رأس البر وجمصة وبلطيم وفايد والإسكندرية، تتدفق الأسر من كل المحافظات، حاملين معهم أطعمة البيت، والكراسى القماش، وشمسية قديمة تُنصب على عجل، فى محاولة لحجز موضع قريب من البحر. الأطفال يركضون على الرمل، والباعة الجائلون يملؤون المكان بنداءاتهم المميزة، منهم مَن ينادى على البطاطا، وآخر ينادى على الذرة المشوى، وسيدة تشترى من بائع البشاكير والفوط، والبهجة تُصنع بالإمكانات المتاحة.
ورغم ارتفاع الأسعار وتكاليف النقل والإقامة، فإن البحر ما زال هو المتنفس الأول لملايين المصريين من الطبقة المتوسطة والبسيطة. هنا، لا تُقاس المتعة بمستوى الخدمة أو رفاهية الشاطئ، بل بضحكة طفل، ونسمة هواء، ورغيف فول يؤكل على الأرض مع الصحبة واللمة الحلوة.
فى هذا التقرير، نرصد واقع المصايف الشعبية أو «مصيف الغلابة» كما هو: حياة يومية صيفية مليئة بالحركة، والحنين، والكفاح من أجل لحظات استجمام بسيطة.
رأس البر.. حكاية صيف لا تنتهي
«اللى مجربش رأس البر، مجربش المصيف على أصوله»، الجملة دى بتتكرر كتير على لسان الناس عشاق هذه المدينة. بمجرد أن تصل إلى رأس البر، تشعر وكأنك داخل حكاية قديمة ما زالت محتفظة ببهجتها. مدينة صغيرة، بسيطة، لكن بها روح ترد الروح، حتى وسط الزحام المعتاد فى الموسم. الوجهة الأولى لمعظم الزائرين هى «اللسان»، النقطة الشهيرة التى يحتضن فيها البحر المتوسط نهر النيل، ويتحول وقت الغروب إلى مسرح مفتوح للتصوير والتنزه والاسترخاء فى نسيم لا يشبه غيره.
يقول أمجد عويس، بائع غزل بنات: «من ساعات الصباح الأولى، تبدأ الأسر فى التوافد بعربيات خاصة أو مواصلات عامة، شايلين كل مستلزمات اليوم: شماسى وكراسى قماش وبطاطين وشنط أكل من البيت. يتجه أغلبهم إلى محيط شارع 101، أحد أشهر أماكن التجمع على الشاطئ، ويفرشون أماكنهم فى صمت منظم، وكأن كل أسرة تعرف مكانها من سنين».
حسن أشرف، عضو بأحد فرق الإنقاذ، يقول إن الشاطئ واسع، وفيه مساحات برسوم رمزية وأخرى مجانية، وكل فئة تجد لنفسها موطئ قدم. الأطفال يلعبون فى الرمل، ويوجد مَن يؤجر عوامات.
الباعة الجائلون فى كل مكان: درة، ترمس، بليلة، وآيس كريم بلدى بينده عليه شاب بصوت مميز: «ساقع يا لمون».
يضيف: «رغم الزحمة، المكان ما فيهوش دوشة خانقة، فيه حركة، فيه حياة، لكن كلها بطعم مختلف، بطعم مصيف الناس اللى بتدور على البساطة والونس، مش الرفاهية».
يمر أحمد بائع ترمس ما بين الشماسى بصينية كبيرة، يقول إنه يشتغل فى نفس المكان منذ أكثر من 20 سنة. «الناس بتتغير، بس البحر هو هو.. والفرحة هى هي. المصايف دى مش بس شواطئ، هى فسحة قصيرة للهروب من الغُلب، ومساحة صغيرة للفرح رغم الضغوط. والناس اللى بتجيلها كل سنة... عارفة كويس هى جاية ليه».
جمصة.. مصيف العائلات
من رأس البر ننتقل إلى جمصة، المصيف الذى يعرف بأنه الأرخص فى مصر. لكن على الرغم من هذا، فإنه يعانى من إهمال واضح فى بعض المرافق والخدمات، خاصة وقت المواسم والزحام. ومع ذلك، تستقبل جمصة كل سنة آلاف المصيفين من محافظات الدلتا، مثل الدقهلية والغربية وكفر الشيخ، لأن أسعارها بسيطة، سواء فى السكن أو الأكل أو حتى الشواطئ.
المدينة بها طابع شعبى واضح، الشوارع واسعة لكن بعضها يحتاج إلى تنظيم، والشاطئ ممتلئ بعائلات تفترش الأرض، وأمامهم عربات فول وسندويتشات سريعة. فى الخلفية صوت المراجيح الشعبية يملأ الجو بأغانٍ قديمة وأصوات أطفال يضحكون من قلوبهم، فى مشهد يجمع بين البساطة والعشوائية، لكن به فرحة.
عربات الفول والبطاطا والفشار منتشرة حول البحر، وصوت الباعة الجائلين لا يتوقف. وفى الخلفية، صوت المراجيح الشعبية التى يحبها الأطفال، بأغانٍ قديمة وأضواء تبرق فى المساء.
ورغم أن جمصة يمكن أن تبدو فوضوية أو غير منظمة، فإنها بالنسبة للكثيرين مكان يجمع ذكريات الطفولة والمصيف الأول، والبحر الذى يزورونه دون تكلفة أو حسابات. هنا، المتعة بسيطة، لكن حقيقية. البحر لا يحتاج إلى تذكرة غالية، ولا فندق خمس نجوم. «شمسية وشوية سندوتشات وهدوم غيار... كفاية جدًا».
فايد.. مصيف الهدوء و«الونس» العائلى
مَن يذهب إلى فايد، هو مَن يريد أن يرتاح. لا صخب أو زحمة شواطئ. المكان بسيط وهادئ، وبدلا من البحر، توجد بحيرة التمساح الواسعة التى تشعرك أنك فى رحلة نيلية مريحة أكثر من مصيف.
من القاهرة أو الإسماعيلية أو السويس، يأتى الناس إلى فايد فى رحلات يومية، «شيلة اليوم كله فى شنطة»، يجلسون بجوار المياه، يأكلون، يصطادون أو يركبون مركبا صغيرا فى البحيرة. البعض يستأجر شاليهات بسيطة أو استراحات تابعة للقوات المسلحة أو المصايف الشعبية، وسعر الليلة غالبًا فى المتناول.
المنطقة حول البحيرة بها كافيهات ومطاعم بسيطة، وشواطئ نظيفة وهادئة، وبها خصوصية تجعل العائلات تشعر بالأمان والراحة.
فايد ليست «مصيفا تقليديا»، لكن لها جمهورها الذى يذهب إليها خصيصا من أجل الهدوء والمياه الصافية، لقضاء يوم بسيط دون رفاهية، لكن بكثير من الونس.
بلطيم.. متعة بدون صخب
على الضفة الثانية من المشهد، تظل بلطيم محتفظة بمكانتها كمصيف للبسطاء خصوصًا عند أهل كفر الشيخ والدقهلية. مصيف ليس للصخب أو الشهرة، لكنه يقدم أجمل ما يبحث عنه المصرى فى الصيف: «راحة البال». يقول حسين العمرى بائع الذرة: «البحر هنا ناعم، والرملة نظيفة، والجو عائلى جدًا. الأسر بتوصل من بدري، يفرشوا بطاطينهم، وينزلوا البحر، والكبار يقعدوا يحكوا أو يشربوا شاى فى كوبايات زجاج من البيت. مفيش حفلات، ولا موسيقى صاخبة، لكن فيه دفء إنساني، وونس حقيقي».
الشاليهات بسيطة ورخيصة، كثيرون يحجزونها بالأسبوع أو الشهر ويمكن باليوم، البعض ينام على الشواطئ، وهناك مَن يفرش بطاطينه فى البلكونات ليكمل السهرة هناك، على ضوء البحر وسكون الليل.
حكايات بسيطة تلخّص لماذا يظل للمصايف الشعبية جمهورها.. «بنستنى الصيف ننسى الهم»، قالتها أم رقية لديها أربعة أطفال وهى تراقبهم أثناء لعبهم فى الرمل وهم يصنعون طرابيش من ورق الجرائد. جاءت من المنوفية ليوم واحد، لكنها تراه كافيا لكى تفرحهم و»تفك زنقة الشتا».
مطروح.. مياه بلون السماء
ختامه مسك، مرسى مطروح وجمال بحرها ونعومة رمالها.. ورغم كل التطوير الذى شهده كورنيش مطروح، فإنه لم يلقَ إعجاب عم جمال وأسرته من رواد مطروح الأصليين، فهم يريدون البحر والرمال لا الألسنة التى حجبت الرؤية وملأت البحر بالصخور، ومع ذلك فالمصطافون الذين يبحثون عن مياه رائقة بلون السماء جاءوا إلى شواطئ مطروح وتحديدا شاطئ الهنا وروميل وشاطئ على حميدة، فالدخول إلى هذه الشواطئ بالمجان والبحر للجميع.