وزارة الداخلية، لم تكن غائبة عن المشهد، بل على العكس تمامًا، كان حضورها مطمئنًا لقطاع كبير من الشارع المصرى، بعدما شنت _ خلال الأيام الماضية _ حملات مكثفة لضبط عددٍ من صانعى المحتوى الذين تجاوزوا الخطوط الحمراء، ونشروا مقاطع فيديو تتضمن ألفاظًا خادشة للحياء، وانتهاكًا صارخًا للقيم والتقاليد المصرية.
حملات «الداخلية»، لا يجب التعامل معها من خلال «الإجراء الأمنى» فحسب، بل من الواجب الإشارة إلى أنها معركة وجودية تخوضها الأجهزة الأمنية للحفاظ على هوية مصر الأخلاقية فى العصر الرقمى، وقد أسفرت هذه الحملات عن ضبط عدد من المتهمين فى محافظات مختلفة، وسط إشادة من القيادات الأمنية بدور الوزارة فى تحقيق الردع العام والخاص.
كذلك، فإن الحملات الأمنية ليست فقط رد فعل على تجاوزات فردية لجرائم إلكترونية ارتقت لجرائم منظمة كغسيل الأموال وتجارة الأعضاء البشرية، ولكنها دفاع عن الأمن القومى المصرى، فى مفهومه الشامل الذى يضم الأمن المجتمعى والأخلاقى، وتصديه لظواهر باتت تهدد نسيجنا الاجتماعى.
التحرك الأمنى جاء استجابةً لبلاغات متعددة وتحركات رصد ومتابعة دقيقة كشفت عن حجم التجاوزات فى المنصة الإلكترونية، لتتنوع الاتهامات التى وُجهت إليهم ما بين نشر محتوى خادش للحياء العام والتحريض على الفسق والفجور، وانتهاك قيم الأسرة المصرية، هى فى حقيقتها مجرد قمة جبل الجليد لظاهرة قد تكون أعمق وأخطر بكثير.
«أم سجدة»، «أم مكة»، «مداهم»، «سوزى الأردنية»، و«علياء قمرون»، الأسماء السابقة، باتت مألوفة لدى قطاع عريض من مستخدمى منصة التواصل الاجتماعى الأشهر «تيك توك»، فهم أشهر من أُلقى القبض عليهم فى حملة أمنية موسعة فى الفضاء الإلكترونى.
وأشاد اللواء رأفت الشرقاوى، مساعد وزير الداخلية الأسبق والمحاضر بكلية الشرطة، بالدور الحيوى الذى تقوم به وزارة الداخلية فى تحقيق الردع العام والخاص، من خلال حملاتها المستمرة لضبط صانعى المحتوى الهابط الذى يَمس قيم وأخلاقيات المجتمع المصرى.
«الشرقاوى»، أكد أن «الحملات الأمنية لن تتوقف، وكل مَن يروج لهذا النوع من المحتوى ليس بمنأى عن يد العدالة»، مشددًا على أن «مصر محمية برجالها الذين يتصدون لكل من تسول له نفسه المساس بالقيم والأعراف والتقاليد الراسخة».
وكشف اللواء «الشرقاوى»، أن «القبض على التيك توكر جاء بعد تقدم 32 محاميًا ببلاغات فى أقسام شرطة العجوزة والدقى والوراق وإمبابة، ضد عددٍ من صانعى المحتوى، شملت اتهامات بالتعدى على القيم المجتمعية، وانتهاك حرمة الحياة الخاصة، والتأثير السلبى على النشء، والتربح من الخارج، والاتجار بالبشر، وتشويه صورة المرأة المصرية، واستخدام ألفاظ خادشة للحياء، ومن أبرز الأسماء التى وردت فى البلاغات البلوجر هبة أرملة شيكا، سوزى الأردنية، ليلى الشبح، منار ميك أب، مداهم، قمر الوكالة، أم سجدة، سلمى الرحالة، وشاكر محظور».
كما لفت إلى أن «بداية سقوط هؤلاء جاءت بعد بلاغ تقدمت به إحدى الفنانات ضد سيدة ادعت انتسابها لعائلة معروفة، واتهمتها بالتشهير والاتجار فى الأعضاء البشرية. وبعد تقنين الإجراءات، تم ضبط المتهمة بمحافظة الإسكندرية، وبحوزتها هاتف يحتوى على محفظة مالية بها تحويلات من الخارج، وقد أقرت بأنها اختلقت الادعاءات بهدف رفع نسب المشاهدات وتحقيق أرباح مالية، كما تم ضبط التيك توكر المقيم بالقناطر الخيرية، وبحوزته مبالغ مالية بعملات محلية وأجنبية، ومشغولات ذهبية، وكمية من مخدرى الحشيش والأفيون، وقد اعترف بنشر المحتوى المسيء بهدف الربح، وحيازته للمواد المخدرة بقصد التعاطى».
وفى سياق متصل، تم ضبط «مداهم» أو محمد خالد، لنشره مقاطع تتضمن ألفاظًا خادشة للحياء، وكذلك علياء قمرون بسبب محتوى يتضمن إيحاءات غير لائقة، كما كشفت وزارة الداخلية حقيقة مقطع فيديو لسيدة تدعى قدرتها على تسهيل إجراءات استخراج رخص القيادة، وتم ضبطها بدائرة قسم شرطة ثالث أكتوبر، واعترفت بنشر الفيديو بهدف زيادة المشاهدات، وتم ضبط صانعة محتوى أخرى بدائرة قسم شرطة المطرية، بعد نشرها مقاطع خادشة للحياء، وكذلك صانع محتوى ومدير أعماله، بحوزتهما مواد مخدرة وسلاح نارى غير مرخص، وقد اعترفا بنشر المحتوى المسيء لتحقيق أرباح مالية، وتواصل «الداخلية» جهودها فى ضبط كل من يُسيء استخدام مواقع التواصل الاجتماعى، ويعتدى على القيم والمبادئ الأسرية، فى إطار الحفاظ على النسيج الأخلاقى للمجتمع المصرى.
«ما وراء كواليس المحتوى الهابط شبهات تصل حد الجريمة المنظمة»، جملة صادمة بدأ بها الدكتور هيثم طارق، خبير الذكاء الاصطناعى والأمن السيبرانى، قبل أن يُضيف: النظر إلى هؤلاء المشاهير باعتبارهم مجرد باحثين عن الشهرة بطرق ملتوية هو تبسيط مخلٍ لأوجه الاتهام، فالتحقيقات الأولية وفحص هواتف بعض المتهمين بدأت تكشف عن خيوط متشابكة تقودنا إلى شبهات جرائم أشد خطورة، تُهدد ليس فقط الأخلاق العامة، بل الأمن الاقتصادى والاجتماعى للدولة.
غسيل الأموال تحت ستار الهدايا تأتى على صدارة الاتهامات الموجه لهؤلاء المشاهير _ حسبما أوضح «د. هيثم»، فمنصة «تيك توك» وغيرها من منصات البث المباشر بها خاصية «الهدايا الافتراضية» التى يرسلها المتابعون لصانعى المحتوى، والتى يمكن تحويلها لاحقًا إلى أموال حقيقية، هذه الآلية، رغم بساطتها الظاهرية، تفتح بابًا واسعًا أمام عمليات غسيل الأموال.
خبير الذكاء الاصطناعى، لفت إلى أنه يمكن لمصادر أموال غير مشروعة أن تستخدم هذه المنصات لتمرير مبالغ ضخمة عبر شبكة معقدة من الحسابات والمستخدمين، لتبدو فى النهاية كأرباح شرعية من «دعم المتابعين»، ورأينا كيف تمكنت عصابات دولية من استغلال التحويلات الرقمية لإخفاء أثر ملايين الدولارات فى قضايا مشابهة، فالمبالغ الطائلة التى تظهر فجأة فى حوزة بعض هؤلاء المشاهير تُثير تساؤلات مشروعة حول مصدرها الحقيقى، وتجعل من الضرورى تتبع مساراتها المالية بدقة لكشف أى عمليات غسيل أموال محتملة.
«د. طارق»، أضاف: قد يبدو الحديث عن ارتباط منصة ترفيهية بجرائم بشعة مثل الاتجار بالأعضاء أمرًا صادمًا، ولكن الاتهامات ظهرت بالفعل فى إحدى القضايا الأخيرة، ألقت الأجهزة الأمنية القبض على «بلوجر» قامت بالتشهير بفنانة معروفة واتهامها بالضلوع فى تجارة الأعضاء البشرية، بغض النظر عن صحة هذا الادعاء المحدد، فهو قيد التحقيق من الجهات الأمنية، لكن الأمر يسلط الضوء على حقيقة مُرعبة، وهى أن هذه المنصات يمكن أن تتحول إلى سوق سوداء إلكترونية، يتم فيها استدراج الضحايا، خاصةً من القُصّر والشباب الباحث عن المال السريع، تحت وعود وهمية بالثراء أو الشهرة، واستغلال حاجة البعض وعرض مبالغ مالية كبيرة مقابل «خدمات» غير واضحة هو أسلوب معروف فى عالم الجريمة المنظمة.
كما أوضح أن «المحتوى الهابط هو سلاح تدمير ممنهج، فهو لا يتوقف عند «ذوق عام» منحدر، بل هو أداة تهدف إلى تطبيع الانحراف وتفريغ عقول الشباب من أى محتوى قيمى أو هادف، فعندما يصبح «التريند» مبنيًا على السباب المتبادل، أو الرقص المبتذل، أو استعراض الثراء الفاحش والمفاجئ، فإننا أمام عملية ممنهجة لتسطيح الوعى وتغييب الأجيال الصاعدة عن قضاياها الحقيقية، وتحويلهم إلى مجرد مستهلكين للابتذال، وهو ما يخدم فى النهاية أجندات خارجية تسعى لإضعاف المجتمعات من الداخل».
خبير الذكاء الاصطناعى، حذر من أن خطورة «تيك توك» تتجاوز المحتوى السلبى لتصل إلى صميم الأمن القومى، فالمنصة، المملوكة لشركة صينية، تجمع كميات هائلة من بيانات المستخدمين، بما فى ذلك مواقعهم، واهتماماتهم، وشبكة علاقاتهم، وحتى بياناتهم البيومترية (بصمة الوجه)، هذه البيانات تمثل كنزًا استراتيجيًا يمكن استخدامه فى عمليات التجسس، أو التأثير على الرأى العام وتوجيهه خلال أوقات الأزمات، أو حتى استهداف شخصيات بعينها بعمليات ابتزاز إلكترونى.
ووصف المنصة بـ«الشريان المعلوماتى»، وقال: ترك هذا الشريان المعلوماتى مفتوحًا دون ضوابط ورقابة صارمة هو بمثابة التخلى طواعية عن جزء من سيادتنا الرقمية.
لـ«تيك توك وجهًا آخر»، أمر ثانى تحدث عنه «د. طارق»، مشددًا على أنه «فكما من الظلم شيطنة المنصة بالكامل، فهى فى النهاية أداة محايدة يمكن استخدامها فى الخير أو الشر، كما أن الحملة الأمنية لا تستهدف «تيك توك» كتطبيق، بل تستهدف أولئك الذين أساءوا استخدامه»، مضيفًا أنه «هناك آلاف من الشباب المصرى يستخدمون المنصة بطرق إيجابية ومبتكرة لتحقيق دخل مشروع وبناء مستقبلهم. من المهم تسليط الضوء على هذه النماذج لتكون هى القدوة الحقيقية».
وتابع: تحقيق الربح من «تيك توك» بطرق شرعية أمر مقبول ومطلوب، وهناك عدد من الطرق، منها صندوق المبدعين (Creator Fund)، حيث يكافئ هذا البرنامج صانعى المحتوى ماليًا بناءً على عدد المشاهدات والتفاعل الذى تحققه فيديوهاتهم، شريطة الالتزام بمعايير المجتمع وتقديم محتوى أصلى، والتسويق والشراكات مع العلامات التجارية، فيمكن للمؤثرين الذين بنوا قاعدة جماهيرية محترمة التعاون مع الشركات للترويج لمنتجاتها وخدماتها بشكل احترافى وأخلاقى، البث المباشر الهادف فيمكن استغلال البث المباشر لتقديم ورش عمل تعليمية، أو جلسات نقاشية ثقافية، أو حتى عرض المواهب الفنية الراقية، والحصول على دعم مالى من المتابعين المهتمين، وبيع المنتجات والخدمات الخاصة فرواد الأعمال وأصحاب الحرف اليدوية «تيك توك» كمنصة تسويقية فعالة لعرض منتجاتهم والوصول إلى شريحة واسعة من العملاء.
«د. طارق»، أكد على أن «المعركة ضد المحتوى الهابط والجريمة الرقمية ليست مسؤولية وزارة الداخلية وحدها، بل هى مسؤولية مجتمعية متكاملة، يجب على الأسرة أن تلعب دورها فى الرقابة والتوجيه، وعلى المؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية أن تكثف من حملات التوعية بمخاطر هذه المنصات وكيفية استخدامها بشكل آمن، فالمسؤولية تقع على عاتقنا كمستخدمين فكل «لايك» أو «شير» لمحتوى تافه هو بمثابة تصويت باستمراره وانتشاره، فعلينا أن ندعم بوعى صناع المحتوى الإيجابى، أولئك الذين يقدمون علمًا، أو فنًا راقيًا، أو مهارة مفيدة، أو حتى مجرد ابتسامة نظيفة، على أن نستخدم خاصية «الإبلاغ» بفاعلية ضد كل محتوى نراه ضارًا، كما أن تحرك الدولة الأخير هو جرس إنذار وبداية لمرحلة جديدة من الحوكمة الرقمية، مرحلة تؤكد أن الفضاء الإلكترونى ليس غابة بلا قانون، وأن حرية التعبير لا تعنى أبدًا الحق فى هدم قيم المجتمع وتهديد أمنه».
وفى نهاية حديثه، دعا خبير الذكاء الاصطناعى، الجميع للتصدى لهذه الظاهرة قائلًا: «فلنعمل جميعًا، دولةً وشعبًا، على بناء جدار حماية قوى، ليس فقط لحجب المواقع الضارة، بل لبناء وعى مجتمعى قادر على الفرز والتمييز، ودعم الخير فى مواجهة الشر».