يقول «يوسف» إن الدولة المصرية لطالما تمسكت بمبدأى «استقلال القرار الوطني» و«الاتزان الاستراتيجي» فى علاقاتها الدولية، وهما مبدآن جوهريان فى فلسفة الحكم لدى كل من الرئيس عبدالفتاح السيسى، والرئيس جمال عبد الناصر، فكلاهما رفض الرضوخ للضغوط الخارجية، مع الحفاظ فى الوقت ذاته على علاقات متوازنة ومتعددة المحاور.. وإلى نص الحوار:
بعد 73 عامًا على ثورة 23 يوليو.. هل من قراءة جديدة لها؟
تجربة ثورة 23 يوليو 1952 اكتملت بوفاة الرئيس جمال عبدالناصر، الممارسات التى حدثت بعد وفاته يمكن البحث عن صلتها بالثورة من عدمه، وقد تكون هناك ممارسات مطابقة لمسار الثورة، وممارسات اختلفت سواء لاختلاف الرؤى والتوجهات أو لاختلاف الظروف، إنما عندما أتحدث عن ثورة 23 يوليو فإننى أتحدث عن تجربة وطنية مصرية فى الفترة بين 23 يوليو 1952، و28 سبتمبر 1970، وبهذا المعنى، فمبادئ الثورة ثابتة ومعروفة، ونستطيع أن نتذكرها.
ما يهمنى الآن فى هذا السياق أن أقول إن هذه المبادئ لا تزال صالحة لمواجهة تحديات الحاضر؛ لأن ثورة يوليو كان لها منهج شامل، سواء من الناحية الداخلية، أو الخارجية.
ماذا تبقى من النهج الشامل لـ23 يوليو؟
فى المجال الداخلى نعلم أن الثورة بعد أقل من شهرين على قيامها أصدرت وطبقت قوانين الإصلاح الزراعى، وكانت علامة مهمة على إعلاء مبدأ العدالة الاجتماعية الذى ورد فى المبادئ الستة للثورة، وهذا المبدأ ما زال صالحًا حتى الآن لمواجهة المشكلات المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، ليس فى مصر وحدها، وإنما فى أى بلد ظروفه مشابهة لمصر.
مثال آخر، فثورة يوليو اتبعت سياسة استقلالية عن القوى الكبرى، إذ تعاملت معها جميعًا لكن انطلاقًا من مبدأ الاستقلال. فعبد الناصر مثلًا، بدأ بطلب تسليح الجيش المصرى من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، فلما رفضت هذه القوى تقديم السلاح له إلا بشروط رفضها، توجه إلى الاتحاد السوفيتى عبر وساطة من تشو إنلاي، رئيس وزراء الصين، وبدأ تسليح الجيش المصرى بالأسلحة الشرقية.
ونفس الأمر انطبق على المشروع الوطنى العملاق، السد العالي؛ فقد بدأ عبدالناصر بطلب التمويل من الولايات المتحدة والبنك الدولي، لكن الولايات المتحدة رفضت أو سحبت عرض التمويل لأسباب يمكن وصفها بأنها حجج فارغة، لأنها كانت فى جوهرها سياسية، عندها، أمّم جمال عبد الناصر شركة قناة السويس، تأكيدًا لاستقلال القرار السياسى المصرى، وطلب المعونة «الفنية» من الاتحاد السوفيتي، وتم بناء مشروع السد العالى.
كيف تعمّق مبدأ الاستقلال الوطنى فى السياسة المصرية حتى الآن؟
هذا المبدأ ما زال قائمًا حتى اليوم، فجميعنا نعلم أن الرئيس عبدالفتاح السيسى يركز على مبدأ «الاتزان الاستراتيجى»، وهو بالضبط ما كان عبدالناصر يفعله.. فمصر الآن، مثلًا، لها علاقات طيبة مع الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها لا تتردد فى الاختلاف معها عندما تتباين السياسات، وآخر الأمثلة فى هذا الصدد كان الخلاف الواضح مع طروحات الرئيس ترامب بشأن تهجير سكان غزة، وتحويلها إلى ما يشبه «الريفيرا»، أو شيء من هذا القبيل.
وبالإضافة إلى حرص مصر على الحفاظ على علاقاتها الجيدة مع الولايات المتحدة، فإننا نعلم أن السياسة المصرية فى عهد الرئيس السيسى، وفى ظل مبدأ الاتزان الاستراتيجى الذى يتمسك به، تقوم على علاقات قوية جدًا مع روسيا والصين، بدليل انضمامها إلى تجمع «البريكس»، كما أن لها علاقات قوية أيضًا مع الاتحاد الأوروبي.
ما أريد أن أقوله هو أن مبدأ الاستقلال الوطنى لا يزال منعكسًا فى السياسة المصرية الحالية، والمبادئ التى أرستها ثورة يوليو ليست فقط باقية، بل لا تزال صالحة أيضًا لمواجهة تحديات الحاضر.
إلى جانب «الاستقلال الوطنى».. ما أوجه التشابه والاختلاف بين ثورتى 23 يوليو و30 يونيو؟
بالطبع، هناك أوجه شبه بين ثورة 23 يوليو 1952 وثورة 30 يونيو 2013، لكنهما ليستا متطابقتين.
فمثلًا، ثورة 23 يوليو بدأت بانقلاب عسكرى قادته طليعة عسكرية وطنية مصرية، ثم تحولت لاحقًا إلى ثورة جماهيرية واسعة تحظى بتأييد شعبى عارم.. أما ثورة 30 يونيو، فقد كانت على العكس تمامًا، إذ بدأت كمبادرة جماهيرية ضخمة، حظيت بتأييد القوات المسلحة، فى مشهد تلاحم فيه الشعب مع جيشه.
لكن من أوجه التشابه بين الثورتين، فإن ثورة يوليو كان لها موقف واضح من جماعة الإخوان، ونفس الأمر فى ثورة 30 يونيو، فنحن نعلم أن الرئيس عبدالناصر، فى بدايات ثورة يوليو، عرض على الإخوان المشاركة فى الحكم بوزنهم الطبيعى داخل المجتمع، لكنهم أصروا على الانفراد بالحكم، وبالتالى حدث ما حدث من صدام بين قادة يوليو وجماعة الإخوان بلغ حد محاولة اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر.
وبالمثل، نلاحظ أن الرئيس عبدالفتاح السيسى، حين كان وزيرًا للدفاع، ومع تصاعد إرهاصات ثورة 30 يونيو، دعا لأن تكون هناك محاولة لإصلاح مسار حكم الإخوان، من خلال مقترحات مثل إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، لكن تعنت الرئيس المعزول محمد مرسى، ومن خلفه جماعة الإخوان آنذاك، دفع نحو المواجهة الحتمية مع الشعب، الذى انتصر فى هذه المواجهة بفضل تلاحمه مع القوات المسلحة.
إذن، هناك بالفعل أوجه شبه واضحة بين الثورتين فى بعض المبادئ والسياقات، لكن لا يمكن القول إنهما متطابقتان.
البعض يرى أن 23 يوليو نجحت فى العدالة الاجتماعية ولكن فشلت فى الاستدامة الاقتصادية.. ما تعليقك؟
نحن إذن متفقان على أن سجل ثورة يوليو فى مجال العدالة الاجتماعية كان سجلًا إيجابيًا، فكما ذكرتُ سابقًا، فبعد أقل من شهرين على نجاح الثورة، تم تطبيق قوانين الإصلاح الزراعي، وتوالت بعدها سلسلة من الإجراءات عبر الزمن التى عززت هذا المبدأ، مثل قوانين تعميم مجانية التعليم فى جميع المراحل، وليس فقط حتى المرحلة الثانوية، وكذلك قوانين تخفيض إيجارات المساكن، والقوانين التى منحت العمال نصيبًا فى أرباح المؤسسات الاقتصادية التى يعملون بها.. فنجاح ثورة 23 يوليو فى ترسيخ العدالة الاجتماعية هو أمر مشهود له.
أما فيما يتعلق بالشق الاقتصادي، فقد يكون مستوى النجاح أقل مقارنة بمجال العدالة الاجتماعية، لكن لا يمكن إنكار أن الثورة حققت طفرة اقتصادية ملحوظة، تجسدت مثلًا فى مشروع السد العالي، الذى أسهم فى نقلة نوعية للزراعة والصناعة المصرية، بفضل ما وفره من مياه لزراعة مزيد من الأراضي، وطاقة كهربائية لدعم القطاع الصناعي.
وبالفعل، شهدت مصر فى ظل ثورة يوليو طفرة زراعية وصناعية، وهذه ليست شهادة داخلية فقط، بل أقرتها منظمات دولية.. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن تلك الجهود التنموية الهائلة كانت تواجه تحديات حقيقية، خاصة فى ظل عداء المعسكر الغربى للثورة، وقد تعرض الاقتصاد المصرى لأزمات، ربما بشكل خاص بعد عدوان يونيو 1967، لكن رغم ذلك، ظل الاقتصاد صامدًا طوال الفترة التى نعدها إطارًا زمنيًا لثورة 23 يوليو.
هل المشروع الوطنى والإصلاحى الذى نادت به ثورة 23 يوليو، لا يزال صالحًا للتطبيق الآن؟
لا بد أن ندرك أن ثورة 23 يوليو كانت عام 1952، وكما قلت من قبل، التجربة انتهت بوفاة الرئيس جمال عبدالناصر عام 1970، فإذا اعتبرنا أن 1970 هى نهاية الممارسات التى يمكن أن نطلق عليها بدقة «ثورة يوليو 52»، يكون مر الآن أكثر من نصف قرن على تجربة ثورة يوليو.
طبعًا، فى هذا النصف قرن لا بد أن تكون هناك أمور قد تغيرت، وبالتالى لا يمكن أن تتكرر نفس ممارسات ثورة يوليو، وإن بقيت المبادئ على ما هى عليه، وهذا التطوير بدأ حتى فى عهد الرئيس عبدالناصر، ولو من حيث المبدأ، فعندما نتأمل فى بيان 30 مارس 1968، الذى أعقب هزيمة يونيو 1967، نجد أنه كان بداية للإشارة إلى أنه قد آن الأوان لأن تسلك ثورة يوليو طريق الديمقراطية، وليس الطريق الذى كان يقوم على فكرة التنظيم السياسى الواحد، وما إلى هذا.
وهناك تغيرات فى الصيغة السياسية الملائمة لفترة يفصلها عن ثورة يوليو أكثر من نصف قرن، ونفس هذه الأمور تنطبق على المجالات الأخرى، فى التفاصيل وليس فى المبادئ.. فلن نختلف على مبدأ العدالة الاجتماعية، ولن نختلف على مبدأ الاستقلال الوطنى، ففى العدالة الاجتماعية، بالنظام الاقتصادى المصرى الآن مغاير لما كان عليه الحال فى ظل ثورة 23 يوليو، لكن الدولة من جانبها تحاول أن تستمر فى عمل توازن اجتماعي، كما نرى فى مشروعات مثل مشروعات «حياة كريمة» لتطوير الريف المصرى، وما يماثلها.
وكما سبق وأشرت، ما زالت أسس السياسة الخارجية المصرية الحالية مطابقة لأسس السياسة الخارجية لثورة 23 يوليو، وبينها الكثير من العوامل المشتركة، وبخاصة «مبدأ الاتزان الاستراتيجي» الذى يرفعه الرئيس السيسى.
هل تسهم التسجيلات المتداولة مؤخرًا للرئيس عبدالناصر فى تقديم قراءة مختلفة له ولمشروعه الوطنى؟
على الإطلاق، هذه التسجيلات تؤكد سياسة الرئيس جمال عبدالناصر فى إدارة الصراع مع إسرائيل لم تكن، كما أرادت بعض المصادر أن تُصوّر، وكأنها سياسة ذات وجهين، بل كانت المسألة واضحة؛ فقد كان هناك تمسك ثابت بالمبادئ، وإن تنوعت التكتيكات.
وعلى سبيل المثال، قبوله لمبادرة روجرز فى يونيو 1970 كان لأسباب واضحة: السبب الأول، أن عبدالناصر كان بالفعل يضغط على الولايات المتحدة لتتقدم بمبادرة.. والسبب الثاني، كما يعلم الجميع، أن وقف إطلاق النار أو بالأدق الساعات القليلة التى سبقت وقف إطلاق النار، وأظن أنها كانت فى 8 أغسطس 1970 -كانت هى الساعات التى أنجزت فيها مصر، بعمل أشبه بالإعجاز، بناء حائط الصواريخ الأخير على الضفة الغربية لقناة السويس، وهو الحائط الذى عبرت تحت غطائه القوات المصرية فى حرب أكتوبر 1973.
الثورة لا تزال حاضرة فى الوجدان المصرى وتلهم الأجيال الجديدة.. لماذا كل هذا الحضور والارتباط؟
لأن ثورة يوليو 1952 كانت من الشعب وإليه، فالنخبة التى قامت بالثورة كانت كلها من الطبقة المتوسطة، وكل قيادات الثورة كانت تشعر بآلام الشعب وأوجاعه ومشاكله، ولذلك كانت هناك محاولات جادة لحل هذه المشكلات.
كما كان هناك حرص شديد فى الحركة الوطنية المصرية على مفاهيم مثل الكرامة الوطنية والاستقلال، وكل هذه المعانى الرفيعة، فجاءت ممارسات ثورة يوليو لترجمة هذه المبادئ إلى واقع ملموس، كما فى جلاء القوات البريطانية، وتأميم شركة قناة السويس، وغير ذلك. وكانت هناك مشكلات خطيرة تمس أوضاع الطبقات الوسطى والدنيا فى المجتمع المصري، فعملت الثورة على معالجتها، وبالتالى، عندما تتعرف الأجيال الجديدة على هذه الممارسات، فإنها ترتبط بها.. لا أزعم أن كل الأجيال الجديدة مطلعة على ميراث ثورة يوليو، لكن ما أعنيه هو أنه عندما تتاح الفرصة لمعرفة هذه الممارسات والسياسات، فإنها تلقى قبولًا وحماسًا شديدين لدى الأجيال الجديدة.
بعد 73 عامًا.. ما العنوان الذى يمكن أن يُلخص ما حققته ثورة 23 يوليو وتأثيرها الممتد حتى الآن؟
أفضل أن أستخدم تعبير «ثورة 23 يوليو.. نداء الحاضر والمستقبل»، بمعنى أنها ما زالت صالحة لحل مشكلات الحاضر والمستقبل.