كافح رئيس الوزراء البريطانى كير ستارمر لتقديم زيارة دولة ثانية للرئيس الأمريكى دونالد ترامب، فى خطوة غير مسبوقة بهدف تعزيز سلطته وإطراء الزعيم الأمريكى أملًا فى تخفيف مشاكله السياسية فى الداخل، وتلاشى الخلافات مع ترامب حول عدد من القضايا الشائكة. وفى تناقض صارخ مع الترحيب الملكى الفخم، جاء احتشاد المتظاهرين أمام قلعة وندسور ليؤكد عدم شعبية ترامب فى بلد تزدهر فيه «الترامبية».
استقبال ملكى فاخر حظى به الرئيس الأمريكى دونالد ترامب خلال زيارته إلى المملكة المتحدةـ وهى المرة الأولى فى تاريخ البلاد التى يحظى فيها زعيم أجنبى بهذا الشرف مرتين. حيث تم استقباله فى قلعة وندسور، موطن العائلة الملكية البريطانية لما يقرب من ألف عام. وشارك حوالى 1500 جندى فى الفعاليات الاحتفالية طوال اليوم - أى ما يقارب ضعف عدد الجنود خلال زيارة الدولة الأخيرة للرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، وسعت العائلة الملكية إلى جعل ترامب يشعر بأقصى درجات الترحيب، الذى انعكس على اللقاء الذى جمع بين ترامب وستارمر فى اليوم التالى حيث وقعا على اتفاقية للازدهار التكنولوجى، والتى قالا إنها ستساعد الولايات المتحدة وبريطانيا على قيادة العالم فى مجال الذكاء الاصطناعى وغيره من الابتكارات التكنولوجية المتقدمة.

واختتم الرئيس ترامب زيارته الرسمية إلى بريطانيا بمؤتمر صحفى مشترك مع رئيس الوزراء البريطانى أقر فيه كلاهما بوجود خلاف حول الاعتراف بالدولة الفلسطينية، كما كان رئيس الوزراء يأمل فى إقناع ترامب باتباع نهج أكثر حزمًا تجاه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بشأن الحرب فى أوكرانيا، لكن ترامب اكتفى بقوله: «لقد خذلني» فى إشارة إلى بوتين، ولم يتطرق مباشرة إلى أسئلة الصحفيين حول الإجراءات التى قد يتخذها للضغط على الرئيس الروسى أكثر.

وفقًا لاستطلاعات الرأى، لا يحظى الرئيس الأمريكى بشعبية فى بريطانيا. وقد تدفق آلاف من المتظاهرين للاحتجاج ضد زيارته. ومع ذلك فإن نزعته القومية اليمينية المتشددة لا تحظى بمثل هذا الاستقبال العدائي. بل على العكس، إنها تزدهر. ويتجلى هذا من خلال الصعود المذهل لحزب الإصلاح فى المملكة المتحدة، وهو حزب مناهض للهجرة بقيادة اليمينى المتطرف، نايجل فاراج، حليف ترامب. حيث استغل تراجع شعبية حزب العمال الحاكم الذى يرأسه ستارمر رافعًا شعار «لنجعل إنجلترا عظيمة مرة أخرى» على غرار السياسة «الترامبية»، التى تبنت نهجاً يقوم على الحمائية القومية. وقد استقطبت مسيرة يمينية متطرفة تحت شعار «وحدوا المملكة» بقيادة تومى روبنسون، وهو محتال مُدان ذو سجل إجرامى عنيف، مؤخرًا أكثر من 100 ألف شخص إلى شوارع العاصمة لندن للمطالبة بترحيل المهاجرين إثر مقتل الناشط اليمينى الأمريكى تشارلى كيرك وارتدى بعض المحتجين قبعات الرئيس الأمريكى التى تحمل شعار «لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً »، هاتفين بشعارات تنتقد الحكومة البريطانية الحالية.
فى سياق متصل، تم فصل سفير بريطانيا فى واشنطن، بيتر ماندلسون، بعد الكشف عن مراسلاته التى استمرت لسنوات مع جيفرى إبستين، الممول والمدان الراحل بجرائم جنسية، وقد وُصف تعيين ماندلسون بأنه خطوة ذكية تهدف إلى كسب ودّ ترامب، لكنها بدلًا من ذلك انفجرت فى أخطر أزمة فى رئاسة ستارمر للوزراء حتى الآن - مما أدى إلى تفاقم الإحباطات من فترة ولايته التى استمرت عامًا، كما عاد الأمير أندرو إلى عناوين الأخبار بفضل التغطية المتجددة لقضية إبستين، علاوة على ذلك، استقالت نائبة ستارمر، أنجيلا راينر، بعد اعترافها بأنها دفعت ضرائب عقارية أقل من قيمتها الحقيقية. لذلك حرص ستارمر على تأكيد الروابط الوثيقة بين بريطانيا والولايات المتحدة من خلال زيارة ترامب التاريخية والوقوف جنبًا إلى جنب فى مشهد بدا فيه أن الحليفين التقليديين ينحيان خلافهما جانبًا لشراكة تجارية مثمرة.

تعليقًا على ما سبق، قال الدكتور إدموند غريب، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جورج تاون فى واشنطن، إن هناك علاقة صداقة تاريخية تجمع بين بريطانيا والولايات المتحدة على الرغم من وجود نقاط خلاف. وظهر ذلك جليًا فى استقبال ملكى كبير. وإن كان وجه إلى ترامب بعض الانتقادات. لكونه ترك الملك خلفه وصار يتحدث مع الحرس الملكى. وهذا بروتوكوليًا غير عادى. وكان ترامب يهدف إلى تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين فى ظل التوترات العالمية والمصالح الاقتصادية المشتركة. وهو ما حققه من خلال توقيع اتفاقيات استراتيجية وشراكات ضخمة فى مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى والطاقة النووية، والدفع باستثمارات أمريكية. من جانبها، تأمل الحكومة البريطانية فى تحسين المستوى الاقتصادى المحلى وتخفيض الرسوم الجمركية التى فرضها ترامب على الصلب والألومونيوم البريطاني. ومن الواضح أنه صار تقليص فى هذا الشأن.
وفيما يتعلق بنقاط الخلاف، أوضح «غريب» أنه فيما يتعلق بالحرب فى أوكرانيا، تدعم بريطانيا كييف بقوة، بينما واشنطن تتردد فى فرض عقوبات جديدة على موسكو. والأوروبيون، ومنهم ستارمر، يرون أن الرئيس ترامب يجب أن يأخذ موقفا أكثر صرامة فى موضوع أوكرانيا. أما النزاع فى غزة، فبريطانيا اعتزمت الإعلان بالدولة الفلسطينية، وهى خطوة انتقدها الرئيس الأمريكى.
«غريب» أشار أيضًا إلى التظاهرات التى اندلعت خارج قلعة وندسور. حيث تم وضع شاشة عملاقة مناهضة لترامب تضم صوره مع إبستين. مما أظهر أن منتقدى الرئيس فى بريطانيا لم يريدوا له الاستمتاع باحتفالات زيارته الرسمية. من ناحية أخرى، يواجه ترامب غضبًا فى واشنطن بسبب قراره عدم الكشف عن ملفات وزارة العدل المتعلقة بجرائم جنسية ارتكبها إبستين. وقد سحبت بريطانيا سفيرها لأنه كان أحد أقرب أصدقائه. كذلك عشرات المظاهرات التى خرجت ركزت على غزة وموقف ترامب من الرسوم الجمركية والعنصرية والإجهاض وموضوع تغير المناخ. هذه المواقف أوضحت أنه رغم وجود مصالح مشتركة؛ هناك خلافات فى الرؤية الجيوسياسية للبلدين. فترامب محافظ جمهورى شعبوى؛ لكن ستارمر يمثل حزب العمال، وهو حزب يسارى.

من جانبه، أوضح الدكتور عادل درويش، صحفى معتمد بمجلس العموم البريطانى، أن زيارة ترامب تكونت من شقين؛ الشق الأول المتمثل فى كونه أول رئيس يقوم بزيارة دولة مرتين، حيث طغى الجزء العاطفى كون والدته إسكتلندية. بجانب المفارقة مع الزيارة الأولى حيث تمتع ترامب بأكبر مأدبة عشاء فى العالم فى قاعة الاحتفالات بقلعة «وندسور»، كذلك ركوب العربة الإيرلندية الملكية. هذا كله وضع ترامب فى مزاج جيد، وهو مكسب شخصى له. والشق الآخر، هو الشق السياسى الذى جمع بين ترامب وستارمر. أما مسكب بريطانيا، فقد وصلت الاستثمارات المتبادلة لـ380 مليار دولار. ثلثا هذه الأموال ستستثمرها أمريكا فى بناء مفاعلات نووية وتوليد الكهرباء وفى مجال الذكاء الاصطناعى والأمن السيبرانى.
كما أكد «دوريش» أن هناك نقاط خلاف بين ستارمر وترامب بشأن غزة. وقد خان ستارمر التوفيق فى الإجابة على السؤال الأول فى المؤتمر عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بعدم ذكره مطالبة الإفراج عن الرهائن التى تحتجزهم حركة «حماس». وهى نقطة بينت أنه لا يوجد نقاط تلاقٍ بينهما. لكن لحسن الحظ تم توجيه السؤال لترامب الذى أنقذ ستارمر بقوله إن هناك نقطة مشتركة فى ضرورة رفع المعاناة. كذلك عندما تدخل ستارمر قائلًا إن هجوم السابع من أكتوبر هجوم إرهابى كبير، ولا وجود لحماس فى دولة فلسطينية عند حل الدولتين. هنا ربت ترامب بيده اليسرى على كتف ستارمر الأيمن. مما أنقذه من الموقف المحرج الذى وضع نفسه فيه. بشكل عام الزيارة كانت إيجابية بالنسبة لبريطانيا والرئيس ترامب الذى أكد موقفه الداعم لحرية الرأى والتعبير. وهى كانت نقطة خلاف أخرى بينهما.