تسارعت ديناميكية السياسة الخارجية المصرية فى السنوات الأخيرة، بشكل ملحوظ، حيث بدأت القاهرة تعمل على توسيع شبكة شراكاتها مع القوى الاقتصادية العالمية، شرقاً فى آسيا، وغرباً فى أوروبا، وتأتى زيارتا ملك إسبانيا ورئيس سنغافورة إلى مصر، كحدثين بارزين يعكسان هذه السياسة؛ فهما ليستا مجرد زيارات بروتوكولية، بل تؤسسان لمرحلة جديدة من التعاون الاقتصادى والتنموى، بما يفتح آفاقًا واسعة أمام الاستثمار، حجم التجارة، وتبادل الخبرات مع هذه الدول ذات الثقل الكبير دولياً.
تُعدّ المملكة الإسبانية، دولة محورية لدى الغرب، كونها إحدى أهم القوى الاقتصادية الأوروبية، حيث تحتل المرتبة الـ15 عالميًا والخامسة داخل الاتحاد الأوروبى، خاصة أن موقعها الجغرافى الاستراتيجى يجعلها نقطة اتصال فريدة بين أوروبا، أمريكا اللاتينية، البحر المتوسط والشرق الأوسط، هذا الوضع يمنحها ثقلاً اقتصاديًا وسياسيًا دوليًا، وهو ما ينعكس على علاقتها بمصر.
وترتبط القاهرة ومدريد بعلاقات دبلوماسية جيدة، مع توافق فى الرؤى حول قضايا إقليمية ودولية عديدة، خاصة القضية الفلسطينية، هذا التوافق يوفر أرضية مشتركة لتعزيز التعاون الاقتصادى والاستثمارى، حيث تكون الرؤى السياسية عنصر دعم اقتصاديا وليس عائقًا استثماريا.
حجم التبادل التجارى بين مصر وإسبانيا – حتى عام 2024، سجل نحو 3.1 مليار دولار، مقابل 3.2 مليار دولار فى 2023، وبلغت صادراتنا إلى المملكة حوالى 1.5 مليار دولار فى 2024، بينما الواردات من هناك وصلت إلى 1.6 مليار دولار، ما يعكس توازنًا تجاريًا نسبيًا.
وفى النصف الأول من عام 2025 الجارى، بلغ حجم التجارة بيننا نحو 1.5 مليار دولار، فيما سجلت السياحة الإسبانية إلى مصر قرابة 220 ألف سائح سنويًا، وهو مؤشر على ارتفاع الثقة فى المقصد السياحى المصرى، وقُدرت الاستثمارات الإسبانية المباشرة فى السوق المحلية بنحو 900 مليون يورو فى 2024، بينما يبلغ إجمالى الاستثمارات الإسبانية التراكمية حوالى 7 مليارات دولار.
هذه الأرقام تُبرز أن هناك قاعدة اقتصادية متينة يمكن البناء عليها لمضاعفة التبادل التجارى وتوسيع قاعدة الاستثمار، ولعل الزيارة الرسمية للرئيس عبدالفتاح السيسى إلى مدريد فى فبراير الماضى، بداية الانطلاقة الجديدة، وتحريك المياه الراكدة فى العلاقات الاقتصادية والتجارية، حيث تم خلالها الإعلان عن رفع مستوى العلاقات بين البلدين إلى شراكة استراتيجية، وعززت هذه الخطوة التعاون فى المجالات السياسية، الاقتصادية، والثقافية، كما أدت فى الوقت نفسه إلى توقيع عدة اتفاقيات ومذكرات تفاهم.
وبعد 7 أشهر، وتحديداً فى سبتمبر الجارى، جاءت زيارة الملك فيليبى السادس وزوجته الملكة ليتيسيا إلى مصر، لتمثل إشارات قوية ورسائل متعددة، وتوثق أبعادا عديدة على صعيد الشراكات مختلفة الأغراض، فقد تضمنت توقيع اتفاقيات وبروتوكولات تعاون فى مجالات التنمية الاقتصادية والانتقال الأخضر والأمن الغذائى وتمكين المرأة.
وأسفرت زيارة ملك إسبانيا، عن عقد لقاءات مكثفة بين رجال الأعمال المصريين والإسبان لتعزيز الاستثمارات المشتركة، كذلك اشتملت على زيارات لمواقع سياحية وتاريخية مثل الأهرامات وخان الخليلى والأقصر، ما يعكس رسالة واضحة بأن مصر بلد آمن وقادر على استقبال السياح.
ليس هذا فحسب، بل أسست الزيارة مرحلة جديدة فى تاريخ العلاقات الثنائية بين البلدين؛ إذ تؤكد أن العلاقات لم تعد محصورة فى الجانب السياسى، ولكن أصبحت تشمل التنمية الاقتصادية والاستثمار المشترك، وهو ما ظهر جلياً فى توقيع اتفاقية الشراكة التنموية 2025–2030، التى تعد الأولى من نوعها بين مصر وإسبانيا فى مجالات التنمية الاقتصادية، الانتقال الأخضر، الأمن الغذائى، وتمكين المرأة، وتمثل هذه الاتفاقية إطارًا يمكن أن يُبنى عليه فى السنوات القادمة لتعزيز التبادل التجارى والاستثمار المشترك.
ولاشك أن وجود ملك إسبانيا وزوجته فى مصر وزيارتهما لمناطق أثرية وسياحية كبرى، هو فى حد ذاته حملة دعائية مجانية للسياحة المحلية لدى أوروبا والغرب والعالم أجمع، ويجب استثمار هذه الصورة عبر حملات إعلامية موجهة للأسواق الأوروبية للترويج للمقاصد السياحية المصرية، وتحفيز شركات الطيران ومنظمى الرحلات على زيادة رحلاتهم إلى مصر، مع تقديم حزم سياحية خاصة تجمع بين التاريخ والثقافة والطبيعة.
وهناك العديد من المجالات الواعدة للتعاون المصرى الإسبانى منها صناعة السيارات والأجهزة الكهربائية وتوطين التكنولوجيا الإسبانية فى هذه القطاعات داخل مصر، ومجالات الأدوية والتكنولوجيا الحيوية والاستفادة من خبرة إسبانيا فى الصناعات الدوائية ونقل التكنولوجيا، كذلك فى قطاع السفن والخدمات البحرية والاستثمار فى قناة السويس والموانئ المصرية لتعزيز خدمات الشحن والصيانة، وضرورة استغلال الزيارة فى قطاعات الطاقة المتجددة خاصة أن إسبانيا دولة رائدة فى مجالات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ويمكن لمصر استغلال هذه الخبرات لتطوير مشروعاتها فى الطاقة النظيفة.
ومن عملاق أوروبا إلى أحد النمور الآسيوية، حيث زيارة رئيس سنغافورة، الشريك الآسيوى الصاعد فى الأسواق الاقتصادية المصرية.. فدولة سنغافورة تُعتبر نموذجًا عالميًا فى الاقتصاد الحديث، حيث تمتلك واحدة من أكبر الموانئ وأكثرها تطورًا فى العالم، إضافة إلى مركز مالى عالمى، هذا يجعلها شريكًا استراتيجيًا لمصر خاصة فى مشروعات النقل البحرى والمناطق الاقتصادية.
والزيارة الرسمية التى قام بها رئيس سنغافورة ثارمان شانموغاراتنام إلى مصر واستمرت لعدة أيام من 19 إلى 22 سبتمبر الجارى، هى أول زيارة له إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ توليه المنصب، وقد رافقه وفد حكومى وتجارى رفيع المستوى، وتم إطلاق منتدى أعمال مصر–سنغافورة.
وخلال الزيارة تم توقيع سبع مذكرات تفاهم شملت: النقل البحرى والموانئ، الزراعة والأمن الغذائى، الصحة والتكنولوجيا الطبية، دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتدريب الكوادر الحكومية.
كما قام الوفد السنغافورى بزيارة المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وهو ما يعكس اهتمام الدولة الواقعة أقصى شرق آسيا، بموقع قناة السويس الاستراتيجى، كمركز لوجيستى عالمي.
وعلينا أن نستغل هذه الزيارة لتوسيع حجم التجارة بيننا، خاصة أن التبادل مع سنغافورة منخفض للغاية، وبلغ فى النصف الأول من 2025 نحو 137 مليون دولار مقابل 316.9 مليون دولار فى نفس الفترة من 2024، ورغم انخفاض قيمة التبادل، إلا أن الصادرات المصرية إلى سنغافورة قد ارتفعت إلى 12.2 مليون دولار، فى الوقت الذى هبطت الواردات من سنغافورة إلى 124.8 مليون دولار.
وبلغ الاستثمار السنغافورى المباشر فى مصر نحو 210.3 مليون دولار فى النصف الأول من السنة المالية 2024/2025، ويقدر إجمالى الاستثمارات السنغافورية فى مصر بحوالى مليار دولار على مدار السنوات الماضية، ولدى الدولة المصرية القدرة على جذب المزيد من الاستثمارات.
وهناك فرص للتعاون المصرى – السنغافورى، منها على سبيل المثال: النقل البحرى واللوجستيات والاستفادة من خبرة سنغافورة فى إدارة الموانئ والخدمات البحرية، التكنولوجيا والتعليم وتبادل الخبرات فى الإدارة الحكومية والتعليم الفنى والمهنى، الاستثمار الزراعى وتصدير الخضروات والفواكه المصرية وتطوير سلاسل الإمداد والتخزين المبرد، والمشروعات الصغيرة والمتوسطة واستغلال برامج سنغافورة لدعم ريادة الأعمال فى مصر.
ويبقى السؤال الملح، كيف تستفيد مصر من هذه الزيارات الرسمية لكبار بلدان العالم؟.. وهنا تكمن الإجابة فى كيفية البناء على هذه الزيارات فى جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث تُمثل هذه الزيارات رسالة ثقة للمستثمرين بأن السوق المصرى مستقر وآمن، ويمكن البناء على ذلك عبر حوافز ضريبية وتسهيل الإجراءات الإدارية.
والإجابة الثانية تتمثل فى أهمية تعزيز الصادرات المصرية، حيث ينبغى للقاهرة التوسع فى المعارض والبعثات التجارية إلى إسبانيا وسنغافورة للتعريف بالمنتجات المحلية، مع التركيز على المنتجات الزراعية والصناعية عالية الجودة.. وثالثاً ضرورة تطوير البنية التحتية اللوجستية والاستفادة من خبرات سنغافورة فى إدارة الموانئ والخدمات البحرية، بما يعزز دور قناة السويس كمركز عالمى للتجارة.
ولا نغفل دور الترويج السياحى وتوظيف الصور الإيجابية الناتجة عن زيارات القادة لتكثيف الحملات السياحية فى أوروبا وآسيا، كذلك العمل على نقل التكنولوجيا وتوطين الصناعات والتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية مثل الأدوية، السيارات الكهربائية، السفن، والطاقة المتجددة.
فى حين أن التحديات التى ينبغى معالجتها – فوراً، تنفيذ الاتفاقيات وتحويل مذكرات التفاهم إلى خطط عمل واقعية، وتسهيل البيئة الاستثمارية وتبسيط أكثر للإجراءات، والارتقاء فى ترتيب المنافسين الإقليميين، خاصة أن جذب الاستثمارات الإسبانية والسنغافورية يحتاج إلى حوافز قوية فى ظل المنافسة من دول أخرى.
وعليه، فإن زيارات ملك إسبانيا ورئيس سنغافورة إلى مصر، رغم أنه ظاهرياً يعتبر حدثا سياسيا، ولكن هما زيارتان تمثلان نقطة تحول استراتيجية فى علاقات القاهرة الدولية، والأرقام تشير إلى وجود قاعدة اقتصادية يمكن البناء عليها، لكن الاستفادة الحقيقية تتوقف على قدرة الدولة والقطاع الخاص على تفعيل هذه الشراكات وتحويلها إلى مشروعات ملموسة.
وبالتالى إذا نجحت مصر فى ذلك، ستتمكن من مضاعفة صادراتها، جذب استثمارات كبرى، نقل التكنولوجيا، وتوطين الصناعات، ما يضعها فى موقع أفضل على الخريطة الاقتصادية العالمية، ويجعل من شراكاتها مع إسبانيا وسنغافورة نموذجًا يحتذى به فى إدارة العلاقات الاقتصادية الدولية.