في أحد فصول الثانوية الخاصة بشرق مدينة نصر، جلست ياسمين وليد فاروق، طالبة "دمج"، تحل معادلات الرياضيات المعقدة بهدوء، بينما زميلاتها يتهامسن بإعجاب: "هي شاطرة أوي، ومش بتغلط"، ولم تكن تعرف حينها أن لحظات التركيز تلك ستقودها إلى المركز الأول على مستوى الجمهورية في شعبة الرياضيات لطلاب الدمج بالثانوية العامة، بمجموع 305 درجات، وأن اسمها سيتصدر وسائل الإعلام.
النجاح لا يعرف قالبًا واحدًا
هذا العام، لم يكتفِ طلاب الدمج بالمنافسة، وإنما احتلوا القمة؛ ففي شعبة الأدبي، جاء حمزة الشيمي، من القاهرة، في المركز الأول، بـ314 درجة، وفي الشعبة العلمية، تألقت وسام بكري من بني سويف بـ307 درجات.
ولم يكن تصدر قوائم الأوائل حكرًا على المبصرين؛ حيث جاء عبد الله مدحت، من مدرسة طه حسين بنين، بإدارة الزيتون في القاهرة، أول الجمهورية للمكفوفين بمجموع 306 درجات.
هؤلاء الطلاب لم تمنعهم الإعاقات أو التحديات من الوصول إلى قمة الهرم في الثانوية العامة، وجعلوا من الاختلاف مساحة للتفوق، ومن الدمج جسرًا إلى حلهم وحلم أسرهم.
الدمج التعليمي.. استثمار في الإنسان
الدمج التعليمي ليس مقتصرًا على أن يلتحق الطفل المختلف بمدرسة تقليدية، وإنما يشمل منحه الأدوات التي تناسب احتياجاته، وسط بيئة داعمة، إلى جانب أقرانه، وهو تطبيق عملي لمبدأ تكافؤ الفرص، يتيح للطلاب ذوي القدرات الخاصة "الإعاقات البسيطة، صعوبات التعلم، فرط الحركة، الإعاقات السمعية والبصرية والحركية..." أن يتعلموا ضمن مجتمعهم.
رحلة أم ياسمين.. من التشتت إلى الطمأنينة
"في البداية كنا مرهقين ومش عارفين نمشي إزاي، بس لما اتطبق الدمج ارتحنا والدنيا بقت أهدى"، والدة ياسمين، الأولى على شعبة الرياضيات،.
كانت تخشى من الثانوية العامة، لكنها وجدت في المدرسة، وبالأخص مسؤولة صعوبات التعلم، دعمًا حقيقيًا، وفي النهاية، تَركت الأسرة الأمر لله، فجاء النجاح والتفوق.

وفي رسالة لكل الأسر التي تخوض نفس الطريق، تقول والدة ياسمين: "عارفة إنكم قلقانين وخايفين، بس الدعم موجود، والمشوار بينجح لو فيه ثقة وتعاون بين البيت والمدرسة، والأهم نؤمن بأولادنا.. هم يستحقوا الفرصة."
حمزة.. بطل لا يتراجع
314 درجة، وأول الجمهورية – دمج تعليمي "أدبي"، هذا ما حققه حمزة أحمد إسماعيل الشيمي، الطالب بإدارة المقطم التعليمية، الذي لم يعرف التراجع، لا في الدراسة، ولا في الحياة.
منذ صغره، تربى حمزة على الانضباط، يمارس الكاراتيه والكونغ فو، ويذاكر بانتظام دون أن ينتظر من يدفعه.

جده، الدكتور إسماعيل الشيمي، لم يتمالك نفسه من الفرح: "فخور بيه.. حمزة مجتهد وبيعتمد على نفسه تمامًا، ويستحق يكون من الأوائل".
وسام.. 19 عملية لم تحرمها حلم الطب
من قرية "دلاص" في بني سويف خرجت وسام بكري حسن، لتصبح الأولى على الجمهورية – دمج تعليمي "علمي علوم"، بمجموع 307 درجات.
لم تكن الرؤية واضحة، حرفيًا، حيث ولدت وسام تعاني من مياه زرقاء على عينيها، وخضعت لـ19 عملية جراحية دون جدوى، لكن كانت لديها رؤية من نوع آخر.. رؤية داخلية لحلم اسمه كلية الطب – جامعة القاهرة.

التفوق لم يكن رد فعل، بل كان قرارًا وراءه فتاة صغيرة تحمل حلمًا وأملًا في فرض التغيير على واقعها، بالإصرار والعزيمة والإيمان بقدراتها.
عبد الله.. صاحب البصيرة
لم يكن يرى الكلمات المطبوعة، لكنه رأى مستقبله بمنتهى الوضوح؛ عبد الله مدحت نجيب، الأول على الجمهورية - فئة المكفوفين، صاحب قلب يقظ، وعقل منظم، وإرادة لا تعرف التراخي.

وأعانه على قطع طريق التفوق، حلمه بالجامعة الأمريكية، ومتابعة دروسه أونلاين، وجدوله الصارم، إلى جانب حفظه لكتاب الله.
عقول واعدة.. تحتاج لمن يؤمن بها
الدمج لا يصنع من الطالب معجزة، لكنه يزيل الحواجز أمام قدراته، فهناك من يحتاج وقتًا أطول، أو طريقة شرح مختلفة، أو بيئة هادئة.. لكنه قادر، والقادر حين يُمنح فرصة، يثبت أن النجاح لا يُقاس بالدرجات وحدها، وإنما يظهر في الخطوات التي يقطعها البطل في طريقه للوصول، ليجعل من الاختلاف مصدرًا للفخر.
قصة كل طالب دمج متفوق هذا العام، تجسد حكاية تحدٍ، وإيمان أسرة، واحتضان مدرسة، وتكشف عن رؤية مسؤول يضع الإنسان أولًا، مبرهنًا على أن كل اختلاف نعمة تبحث عمن يؤمن بها.