رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

مَن يحكم المال؟.. عن استقلالية البنوك المركزية


17-7-2025 | 18:22

.

طباعة
بقلـم: د. محمد فؤاد

فى بيانه الصادر مؤخرًا، أعلن البنك المركزى المصرى أنه سيتريث فى خفض أسعار الفائدة، رغم بوادر تباطؤ التضخم، معللاً ذلك بالحاجة إلى تقييم الآثار التضخمية المحتملة الناتجة عن التعديلات الضريبية الأخيرة، وبالأخص تعديل ضريبة القيمة المضافة، التى تمثل إحدى أدوات التوسع المالى فى موازنة الدولة.

وفى المقابل، تستهدف وزارة المالية فى موازنة «2025/2026» متوسط فائدة على أدوات الدين بنحو 16 فى المائة، فى محاولة لاحتواء أعباء خدمة الدين العام، عبر خفض تدريجى لتكلفة التمويل المحلى، وهو يحمل نوعًا من الانفصال -غير المعتاد- عن نوايا البنك المركزى.

 

اللافت فى هذا المشهد أن البنك المركزى، خلافًا لما جرت عليه العادة، لم يتفاعل تلقائيًا مع الإشارات المالية، ولم يُبدِ مرونةً نقديةً متعجلةً، بل تحرّك بناءً على تقييم مستقل، واضعًا نصب عينيه الالتزام باستهداف تضخم أحادى الرقم بحلول عام 2026.

وهنا، تطرح اللحظة سؤالًا أعمق من مجرد «قرار سعر فائدة»: مَن يحكم المال فى مصر؟ وهل نشهد بداية فصل مؤقت بين الجناح المالى المسئول عنه الحكومة من ناحية والجناح النقدى المختص به البنك المركزى من ناحية أخرى؟

وهذا النقاش لا يخص مصر وحدها، بل يعيد إحياء جدل فكرى ممتد بين اثنين من أبرز اقتصاديى القرن العشرين، أولهما جون ماينارد كينز، الذى رأى أن السياسة النقدية لا تنفصل عن السياسة المالية، بل تُدار ضمن منظومة تنسيقية تحقق التشغيل الكامل والنمو المتوازن، ومن هذا المنظور، لم تكن استقلالية البنك المركزى هدفًا فى حد ذاته، بل أداة مرنة لتحقيق الأهداف الكلية للدولة.

فى المقابل، اعتبر ميلتون فريدمان، زعيم مدرسة شيكاغو، أن التضخم «ظاهرة نقدية دائمًا وأبدًا»، داعيًا إلى أن تعمل البنوك المركزية بمعزل عن السلطة التنفيذية، ملتزمة بضبط عرض النقود وفق قواعد ثابتة ومحايدة.

لكن التحولات العالمية الكبرى – من أزمة 2008، مرورًا بجائحة كورونا، وصولًا إلى موجة التضخم ما بعد 2021 – أضعفت هذا الفصل الكلاسيكى، ودفعت البنوك المركزية إلى أدوار تتجاوز مهامها التقليدية، حتى باتت تُشبه «سلطات اقتصادية فوق حكومية».

فى يوليو الماضي، طالب الرئيس الأميركى دونالد ترامب بخفض أسعار الفائدة ثلاث نقاط مئوية دفعةً واحدة، قائلاً: «سنوفر تريليونات!»، وعلى الرغم من الطابع الشعبوى للتصريح، إلا أنه أعاد طرح سؤال ظل مطمورًا لسنوات: لماذا تظل أدوات النقد والسيولة بيد مؤسسة غير منتخبة؟

المفارقة أن الانتقادات لم تقتصر على الساسة، بل جاءت أيضًا من داخل المؤسسات النقدية ذاتها، ففى محاضرة شهيرة، صرّح ميرفين كينج، محافظ بنك إنجلترا الأسبق: «لقد منحنا البنوك المركزية سلطات تُشبه الحكومات، دون مساءلة ديمقراطية حقيقية».

«كينج»، الذى كان من أبرز المدافعين عن استقلالية البنوك المركزية، أقر بأن هذه المؤسسات -البنوك- باتت تمارس سلطات اقتصادية حقيقية، دون أن تخضع لأدوات الرقابة التقليدية المفروضة على الحكومات المنتخبة.

وتبرهن تجارب الدول على أن الاستقلال النقدى ليس قضية تقنية محضة، بل معادلة سياسية ومؤسسية حساسة، ففى تركيا، قد مارس الرئيس رجب طيب أردوغان ضغوطًا متكررة على البنك المركزى لخفض الفائدة، ما أدى إلى قرارات نقدية غير مبررة، كانت نتيجتها انهيار الليرة وارتفاع التضخم إلى مستويات غير مسبوقة.

وفى المقابل، ورغم تدخل البنك المركزى الأوروبى فى شراء السندات الحكومية عقب أزمة الديون السيادية، إلا أن هذا التدخل تم ضمن إطار حوكمى صارم، يضمن الشفافية والمساءلة، مما حافظ على ثقة الأسواق فى استقلاليته.

كما تظهر التطورات فى التجارب الدولية، أنه لم يعد استقلال البنك المركزى يُفهم على أنه فصل تام بين السياسة النقدية والمالية، بل أصبح يُقاس بحدود التداخل والوظيفة.

فمع صعود أدوات التيسير الكمى وتوسّع البنوك المركزية فى شراء أدوات الدين، أصبحت الفجوة بين من «يطبع النقود» ومن «يموّل الدولة» فرقًا فى التوصيف، لا فى الوظيفة، حتى النماذج الفنية مثل «قاعدة تايلور» قد فقدت أهميتها، مع تحوّل السياسة النقدية إلى إدارة للتوقعات وتوجيه للأسواق، أكثر منها التزامًا بمستهدفات رقمية تقليدية.

وقاعدة «تايلور» هى معادلة وضعها الاقتصادى جون تايلور لتحديد سعر الفائدة المناسب من البنك المركزى بناءً على معدلات التضخم والناتج المحلى، بحيث تربط سعر الفائدة المستهدف بمستوى التضخم والفجوة بين الناتج الحقيقى والمحتمل، لتحقيق استقرار الأسعار والنمو.

وبهذا المعنى، أصبحت السياسة النقدية سلطة سيادية متنكرة فى زى تقنى، تُشارك فعليًا فى تمويل الحكومات وتوجيه توزيع الموارد، دون أن تخضع للأطر الديمقراطية والمحاسبية التقليدية.

فى هذا السياق المتشابك، يمكن القول إن مصر تمر بلحظة تحليلية نادرة، لا كنموذج مؤسسى مكتمل، ولكن كمؤشر على تغيّر نسبى فى موقع القرار النقدى، فلأول مرة منذ سنوات، يتخذ البنك المركزى المصرى قرارًا فنيًا متمايزًا، رافضًا ضغوطًا ضمنية للتماشى مع أولويات السياسة المالية الحكومية.

إذ إن رفضه تخفيض الفائدة رغم مستهدف حكومى يبلغ 16فى المائة لم يكن تعنّتًا، بل رسالة واضحة بأن القرار النقدى لن يُختزل فى معادلة تمويلية ضيقة، وهو موقف يُحسب لفريق المركزى، ويعكس وعيًا فنيًا وإداريًا بحدود التداخل بين أدوات السياسة، لكنه يظل – حتى اللحظة – استثناءً مؤسسيًا، لا تحولًا هيكليًا.

خاصة أن هذا الفصل بين السياسة النقدية والمالية غير متاح فى أحيان كثيرة.. بالضبط كما يشير الدكتور محمود محيى الدين، أحد أبرز الخبراء الدوليين فى هذا المجال، إلى أن: «السياسة النقدية فى الدول النامية مشتقة بالأساس من السياسة المالية العامة وأنه ومهما أوتى البنك المركزى من قوة، إذا ما انفلتت المالية يصعب عليه السيطرة على التضخم أو تحقيق الاستقرار المالى».

وعليه، فما شهدناه مؤخرًا فى مصر لا يمكن اعتباره «نموذجًا»، بل «لحظة».. وقد تكون تلك اللحظة بداية وعى مؤسسى جديد إذا ما أحسنّا قراءتها واستخدامها. لحظة تحدث فى ظل عالم بات يراجع أصول الأمور وما استقرت عليه.

الاكثر قراءة