فى العشرينيات من القرن الماضى تأسس هذا المبنى ليكون مقرًا لمصلحة التليفونات، افتتحه الملك فؤاد الأول، كانت التليفونات صيحة ذلك العصر، وكانت مصر فى العشرينيات قد نالت استقلالها، وإن كان مشروطًا، بعد ثورة سنة 1919، وحصلنا على دستور سنة 1923، وفى سنة1925 اشترت الحكومة المصرية الجامعة الأهلية، لتصبح جامعة القاهرة حاليًا، وتأسست العديد من مؤسسات الدولة مثل بنك مصر وغيرها، وكانت مصر تخطو سريعًا نحو الحداثة، فكانت مصلحة التليفونات.. وصار شارع رمسيس حيويًا، قبل مبنى السنترال مباشرة تأسس فيما بعد معهد الموسيقى العربية، وبعده مباشرة مبنى الإسعاف ومبنى جمعية الاقتصاد السياسى وقبالتها دار القضاء العالى ثم نقابة المحامين ونقابة الصحفيين.. الكثير من المؤسسات الحيوية فى الدولة تأسست فى تلك المرحلة وفى ذلك الشارع.. ولما قامت الجمهورية سنة 1953 حافظت الدولة على تلك المؤسسات والمبانى إلى يومنا هذا، فى تواصل يعكس استمرارية المؤسسات فى هذه الدولة، حتى وإن تغيرت سياسات الحكم وشكل النظام.
حين تأسس السنترال، كانت الاتصالات التليفونية محدودة، خدمة خاصة بعلية القوم وسراة المجتمع، فضلًا عن مؤسسات الدولة، كان التليفون فى مكتب المدير العام فقط، وفى القرى فى دوار العمدة فقط.. لكنها مع الوقت صارت خدمة شعبية، ولم يعد يستغنى عنها بيت، وبعد أن كانت الاشتراكات تقدر فى البداية بالمئات، صارت الآن بعشرات الملايين صار لكل فرد فى الأسرة تليفون على الأقل، وليس تليفون لكل الأسرة.
ومع ثورة الاتصالات فى العالم، صارت الشبكة مصدرًا للحصول على المعلومات والتعاملات البسيطة اليومية عبر البنوك وحجز تذاكر الطيران والقطارات، فضلًا عن المشتريات والتعامل بالفيزا حتى فى المطاعم، وصولًا إلى الدفع للتاكسى، وهكذا حين وقع الحريق اهتزت بعض الخدمات.. ويجب القول إنها لم تنقطع بالكامل، وهذا يُحسب لرجال ومسئولى الاتصالات فى مصر.
مفاجأة الحريق غير المتوقع مع اكتشاف أهمية المبنى وما يضمه من خدمات ترتبط بمصالح المصريين اليومية -دفع الكثيرين إلى التساؤل حول معنى هذا الحريق فى ذلك التوقيت وسببه وتداعياته، وكنا بإزاء وجهتى نظر أو فريقين.
الأولى: ذهبت إلى نظرية المؤامرة، وأن الحريق تم تدبيره عن عمد، بقصد خلق مشكلة فى حياة المصريين وتحريضهم على الحكومة، داخل هذا الفريق تعددت الاجتهادات، ما بين رأى علّق الجرس فى رقبة «خلايا نائمة زرعتها الجماعة الإرهابية»، ورأى آخر وصل إلى أنها مؤامرة مخابراتية كبرى من طرف أو أطراف لا تحب مصر ولا تريد لها الخير، سواء فى المنطقة أو من خارجها، وأن الدولة المصرية تُعاقب على موقفها الرافض لتهجير سكان غزة وتصديها للمشاريع الإمبريالية تجاه غزة والشعب الفلسطينى.
والحقيقة أن كل وجهة نظر هنا لها وجاهتها، لكن فى نفس الوقت هناك ما يمكن أن ينقضها أو يرد عليها، اتهام الجهات الأجنبية مردود أن لدينا أجهزة قوية قادرة على كشف المتلاعبين والإمساك بأى محاولات للتخريب، السوابق فى ذلك كثيرة وعديدة، تشهد باليقظة والحنكة والكفاءة لأجهزتنا الوطنية فى مواجهة محاولات تجنيد عناصر أو زرع عناصر للتخريب داخل مصر.
أصحاب هذا الموقف لا ينطلقون من فراغ، بدون شك يتابعون ما يجرى فى المنطقة منذ أكتوبر سنة 2023 وحتى يومنا هذا، سواء فى فلسطين أو سوريا ولبنان واليمن وإيران يجعل الكثيرين يشعرون بالقلق، وهو شعور محمود ويجب أن يكون موضع تقدير، خاصة أن الحريق تزامن مع الاحتفالات بذكرى ثورة 30 يونيو / 2 يوليو 2013، وكأن هناك تعمدا سحب الناس من لحظة البهجة إلى لحظة الحريق.
فى الخبرة والذاكرة المصرية هناك حالات لتدبير الحرائق، قد لا يكون السبب سياسيًا، فى بعض شركات القطاع العام كانت الحرائق تنشب فى بعض المخازن ليلة الجرد، وهنا يذهب الفكر إلى رغبة فى إخفاء سرقات أو منهوبات تحت مسمى الحريق.. وفى بعض المنشآت الخاصة تقع الحرائق ويذهب التفسير إلى أنها الرغبة فى الحصول على مبلغ محترم من شركة التأمين، خاصة إذا كانت المنشأة على وشك الإفلاس.. بل منذ عامين نشب حريق فى غرفة الكونترول بإحدى المدارس المتوسطة وتبين أن وراءها اثنين من التلاميذ الأشقياء خوفًا من الرسوب.. فى الذاكرة أيضًا أن حريق القاهرة فى يناير 1952 كان مدبرًا انتقامًا من الحكومة ورغبة فى هز الثقة بالملك والنظام كله، بسبب صمود رجال الشرطة فى الإسماعيلية أمام قوات الاحتلال البريطانى.. الشكوك الآن لا تأتى من فراغ وليست ولعا بنظرية المؤامرة.
لكن فى مقابل القول بالتدبير، هناك مَن يرى أن الإهمال وضعف صيانة المبانى والأجهزة الكهربائية فى أشهر الصيف، تقود إلى الأعطال والحرائق.. كم من مآسٍ كبرى وقعت بسبب انعدام الصيانة والإهمال فى عمليات التأمين.. مصانع كبرى احترقت، منشآت أصابها العطب والسبب غالبًا يتركز فى الإهمال وتجاهل قواعد الصيانة، سواء صيانة المبانى أو الأجهزة داخلها.. منذ سنوات تسع احترق مسرح البالون بالكامل وتبين أن أحد السكان فى عمارة مجاورة ألقى بالسيجارة من الشرفة فى الشارع فنزلت بالمسرح، وتكرر الأمر فى أحد مبانى أكاديمية الفنون وهكذا الحال فى الكثير من الوقائع.
نعرف أن حكاية «الماس الكهربائى» خلف كل حريق منذ سنوات الستينيات لم تعد تجد قبولًا لدى الرأى العام وتثير تندر البعض، لكن الحقيقة أن الإهمال وانعدام أو تراجع قواعد التأمين تقود إلى كوارث كبرى فى حالات عديدة، سواء فى مصر أو فى خارجها.
حريق مدينة ميت غمر فى مطلع القرن العشرين، وقد دمر المدينة الجميلة بأكملها، وكتب شاعر النيل حافظ إبراهيم قصيدة فى مواساة أهل المدينة ويدعو أهل الخير ويحث الحكومة على إعادة بنائها، كان بسبب الإهمال.. تابع الحرائق التى تنشب بسبب خطأ فى تركيب أنبوبة البوتاجاز، وغير ذلك كثير.. وحتى لا نثقل على أنفسنا تقع حرائق كبرى من هذه النوع فى مختلف بلدان العالم، لا فارق هنا بين العالم الأول والعالم الثانى أو الثالث.
المثل المصرى يقول «بيت المهمل يخرب قبل بيت الظالم».
ليس من باب التهوين مما جرى، لأن الحريق كان كبيرًا ومؤلمًا، فإن أشهر الصيف فى مصر كانت تاريخيًا مواسم الحرائق، أجران القمح فى القرى كانت تشتعل فيها النيران، أحدهم يلقى سيجارة دون أن ينتبه، أو جار يشعل النار ليعد كوبا من الشاى وتتطاير شرارة واحدة منه، فتشعل الدنيا، ويضيع المحصول، وكم من مآسٍ عاشها الريف المصرى صيفًا بسبب اشتداد الحر ونشوب الحرائق لألف سبب.
لا يعنى ذلك أننا نريد التعامل مع الحدث باعتباره قدرًا لا يمكن الإفلات منه، وأيًا كان الأمر هناك تحقيقات تجرى الآن، تقوم بها النيابة العامة ومن المؤكد أن نتائج التحقيق سوف تعلن فور انتهائها، والمؤكد أيضًا أن كافة الأجهزة والجهات المسئولة تتابع عن كثب أيضًا وتقوم بتحقيقاتها ومتابعاتها لاكتشاف خبايا الحريق والوصول إلى الإجابة القاطعة على كثير من تساؤلات المواطنين أو شكوك البعض حول ما إذا كان الحادث مدبرًا بقصد إحداث خلخلة لأجهزة الدولة والخدمات المقدمة للمواطنين.
وبات الأمر يقتضى أن تقدم جهة بحثية ما، من وزارة الداخلية أو وزارة التضامن الاجتماعي، المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية فضلًا عن المراكز المتخصصة فى الجامعات، على إجراء إحصاء لمعدلات الحرائق سنويًا فى مصر، شهور تزايدها وأسبابها ونتائجها، وهل هى مدبرة أم لا؟ هذه الدراسة يمكن أن تكون كاشفة ودالة، مثلًا حين كانت تحدث الحرائق فى أجران القمح أو شون القطن صيفًا، كان البعض يتصور أن من خلفها عمليات ثأر وانتقام، يتداول بين بعض العائلات.. مثل هذه الدراسة سوف تكون منيرة وكاشفة.
ما حدث فى السنترال، أيًا كانت أسبابه وتوصيفه النهائى، يضعنا أمام مسألة بالغة الأهمية وهى ما يمكن أن نسميها «تفكيك سنترال رمسيس» على غرار ما جرى فى «مجمع التحرير»، حتى وقت قريب كانت كل الوزارات أو معظمها وكثير من المصالح بالدولة المصرية كلها وليست العاصمة فقط مركزة فى مبنى المجمع، كان يدخله يوميًا حوالى مليون ونصف المليون مواطن.. ثم جرى التخفيف شيئًا فشيئًا، مثلًا مصلحة الجوازات توزعت على المحافظات وعلى سائر مناطق القاهرة، والآن باتت عملية استخراج الجواز تتم «أون لاين»، لمَن يريد وهكذا الحال فى أمور التربية والتعليم التى كانت تتركز فى المجمع، بسبب أحد مكاتب التربية والتعليم وُلدت فكرة وحيد حامد وعادل إمام فيلم «الإرهاب والكباب» كانت فكرة عبقرية.
ومنذ أكثر من عشر سنوات تتجه الدولة نحو تفكيك المركزية فى قطاع الخدمات تحديدًا، ضمانا لوصول الخدمة لأبناء المحافظات أسرع وأكفأ وبمعاناة أقل، وقد نجحنا فى أمور وقضايا عديدة.
لكن فاتنا سنترال رمسيس والمركزية التى يمثلها.. المبنى تقابله فى نفس الشارع محال تجارة قطع غيار السيارات والميكانيكا، وقد شهدت هذه المحال خلال العام الأخير حريقين كبيرين، وفاتنا جميعًا أن تلك الحرائق تشكل خطورة على مبنى السنترال، ومن السهل أن تصل إليه، فضلًا عن احتمال أن يحدث به حريق، لأى سبب كان وقد حدث.
فى كثير من الحالات كانت الدولة تفكر فى البدائل باستمرار، مثلًا حين تأسست الإذاعة المصرية سنة 1934، أقيمت فى عهد الملك فاروق وليس عهد جمال عبدالناصر، كما يتصور البعض محطة إرسال بديلة «سرية» تعمل تلقائيًا إذا تعرض مقر الإذاعة لأى توقف أو عطل.. فى حالة حريق السنترال أكد وزير الاتصالات أن هناك بدائل للسنترال وهذا ما حال دون انقطاع تام للخدمة، كما حدث فى بعض العواصم الأخرى فى مواقف متشابهة، لكن كما تبين لنا لم تكن البدائل بنفس الكفاءة لذا وقعت أعطال فى البنوك وتوقفت البورصة المصرية يومًا عن العمل، وتدخل البنك المركزى المصرى لحل الأزمة المالية.
وقد صرح د.مصطفى مدبولى، رئيس الوزراء، أن مبنى السنترال لن يكون صالحًا للعمل لفترة طويلة، وهذا يعنى أنه لا بد من بديل فورى، لكن المهم حين يعود المبنى للعمل، لا يكون محملًا بكل هذه الخدمات.
المركزية الشديدة فى هذا القطاع لها مخاطرها.. مهما كانت عوامل التأمين الذكية.
هل نكرر تجربة مجمع التحرير مع مبنى السنترال؟!
الوقائع تؤكد أن ذلك ما يجب أن نقوم به.