وهذا النوع من الضريبة لا يعنى فقط زيادة النسبة على الشرائح العليا من الدخول، بل تشمل أيضًا توسيع الوعاء الضريبى ليضم الأرباح غير التشغيلية، والتراكمات العقارية والمالية التى لا تقع حاليًا ضمن نطاق الخضوع الضريبى الفعّال، وهو ما يعنى أن ضريبة الثروة ليست بديلًا عن الضريبة التصاعدية، بل مكملة لها.
إذ إن ضريبة الثروة تعبّر عن الوجه طويل الأجل للمقدرة المالية، بينما تتابع ضريبة الدخل التدفقات السنوية قصيرة الأجل، ومن ثم، فإن تطوير النظام التصاعدى يعنى بالضرورة إدماج أدوات أشمل وأكثر عدالة وتطورًا.
من بين هذه الأدوات، فرض ضريبة أرباح رأسمالية تصاعدية على الأرباح الناتجة عن بيع العقارات، والأصول المالية غير المدرجة، والأسهم غير المقيدة، خاصة فى حالات البيع غير الإنتاجى أو التداول الاحتكارى، وذلك بما يضمن توزيعًا أكثر إنصافًا للعوائد الرأسمالية، التى غالبًا ما تتكدس فى يد قلة من المستثمرين دون مساهمة حقيقية فى توسع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد.
ويأتى كذلك ضمن هذه الأدوات فرض مساهمة تضامنية دورية على صافى الثروات الكبيرة – كما طُرحت فى المادة (7) من مشروع «الضريبة الموحدة» – بحيث ترتبط هذه المساهمة بمستوى الخدمات العامة التى تستفيد منها هذه الفئات، مثل دعم الطاقة أو تسهيلات السوق العقارى وغيرها من الخدمات التى تخلق بيئة مستقرة وآمنة تحمى هذه الثروات وتعزز قيمتها السوقية.
وتشمل هذه الأدوات أيضًا إدراج الثروة العقارية والتجارية غير المستغلة ضمن الوعاء الضريبى، بدلًا من الاكتفاء بفرض الضرائب على الدخل الإيجارى أو التنازل فقط، وذلك بما يساهم فى مواجهة ظاهرة حجز الأراضى والمبانى لأغراض المضاربة ورفع الأسعار دون توظيف حقيقى، ويحفز فى المقابل الاستخدام الأمثل للأصول العقارية ضمن النشاط الاقتصادى المنتج.
فما قيمة العدالة الضريبية إذا لم تكن قادرة على التمييز بين من يعيش براتب محدود، ومن يحتفظ بثروات هائلة لا تدر دخلًا يُذكر لكنها تحتكر فرص السوق وتضغط على موارد الدولة؟.. وما معنى «الدخل الخاضع للضريبة» إذا كنا نستثنى منه الدخول غير المُعلنة، والثروات المكتنزة، والأرباح الرأسمالية التى تهرب من الرصد والتقييم؟.
الدولة المصرية – خلال الفترة الحالية – تقف عند مفترق طرق مالى واضح: إما الاستمرار فى تمويل العجز عبر أدوات قصيرة الأجل تزيد أعباء الدين وتُنهك الموازنة، أو إعادة هيكلة الموارد العامة بطريقة أكثر عدالة واستدامة، وفى مقدمتها الضريبة التصاعدية، التى تعد إحدى الأدوات القليلة المتاحة أمام صانع السياسة المالية دون الإضرار بالقاعدة الأوسع من المواطنين، خاصة مع استهداف الحكومة تحصيل 2.6 تريليون جنيه ضرائب فى موازنة 2025/2026 دون فرض ضرائب جديدة كما ورد نصًا فى وثائق الموازنة.
لكن لا بد من الحذر؛ إذ كما أن تعطيل الضريبة التصاعدية بالكامل يخدم الأقلية الأكثر ثراءً على حساب تماسك المجتمع، فإن تطبيق الضريبة التصاعدية بشكل عشوائى أو مسيّس قد يؤدى إلى نتائج عكسية تمامًا، تقوّض الثقة فى النظام الضريبى وتدفع رءوس الأموال نحو الهروب أو التحايل، بدلًا من توجيهها إلى الأنشطة الإنتاجية التى يحتاجها الاقتصاد بشدة فى هذه المرحلة.
ويعنى ذلك أن تطبيق نظام ضريبى تصاعدى فعّال فى مصر يستلزم بالضرورة توفر ركيزتين أساسيتين، أولاهما الشفافية؛ فلا يمكن مطالبة أصحاب الدخول والثروات بالمساهمة بنسب أعلى إذا لم يكن هناك وضوح كامل حول كيفية استخدام هذه الموارد وأين تذهب وما هو أثرها المباشر على جودة الخدمات العامة، إذ يظل غياب الشفافية بيئة خصبة لغياب الثقة وشعور الممولين بالظلم، بينما يخلق الوضوح فى توجيه الحصيلة الضريبية نحو الصحة والتعليم والبنية التحتية إحساسًا عامًا بالعدالة والمسئولية المشتركة.
أما الركيزة الثانية فهى الثقة؛ فالجهاز الضريبى لا يمكنه إدارة نظام تصاعدى معقد دون بناء علاقة ثقة حقيقية مع المجتمع الضريبى، تقوم على تقليل التقديرات الجزافية، وضبط أسلوب الفحص والمراجعة، والتدرج فى التطبيق بما يمنح الممولين الوقت الكافى للتكيف مع القواعد الجديدة ويقلل من آثارها السلبية على النشاط الاقتصادى، ليصبح النظام التصاعدى أداة لتحقيق التنمية وليس مجرد وسيلة لجمع الإيرادات.
حاولتُ خلال سلسلة «إصلاح المنظومة الضريبية» تسليط الضوء – دون تهويل أو تبرير – على الأعطاب الهيكلية التى أصابت النظام الضريبى المصرى لعقود طويلة، فأضعفت موارده، وقلّصت عدالته، وعمّقت فجوة الثقة بين المواطن والنظام الضريبي.
وما طرحته فى هذه السلسلة لم يكن استعراضًا نظريًا أو ترديدًا للمألوف، بل محاولة لتقديم طرح عملى بالآليات والبدائل، لتصحيح المسار عبر محاور متكاملة: من إعادة تعريف الوعاء الضريبى، إلى تفعيل ضريبة الثروة، وتوسيع القاعدة الضريبية، ودمج الاقتصاد غير الرسمى، وتحديث أدوات الحصر والتقييم، وصولًا إلى الضرائب التصاعدية باعتبارها أداة لتحقيق التوازن لا العقوبة.
ذلك أن إعادة بناء المنظومة الضريبية فى مصر لا تحتمل مزيدًا من التجميل أو التدرج البطيء، بل تتطلب رؤية واضحة، وإطارًا قانونيًا مرنًا، وهيئة إدارية محترفة، إلى جانب نقاش مجتمعى صريح يعيد تعريف مفهوم «العقد الضريبى مع المواطن».
وفى تقديرى، فإن الإصلاح الضريبى فى حالتنا ليس ترفًا مؤسسيًا ولا خيارًا مؤجلًا، بل هو شرط أساسى لبقاء الدولة الحديثة وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما حاولت تحديد آلياته عبر هذه السلسلة، بوضع بعض من أفكار الإصلاح الممكنة، لعلها تسهم فى بلورة طريق أو تهدى إلى نقاش أكثر صدقًا وفاعلية، فى قضية تمس حياة الجميع.
