رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

بعد فوزه بجائزة النيل.. د. أحمد زايد: التكريم اعتراف بـ«وجود الإنسان» ولو رضيت عن نفسى أكون فاشلًا


10-8-2025 | 18:54

الدكتور أحمد زايد

طباعة
حوار : صلاح البيلى عدسة: إبراهيم بشير

جاء فوز الدكتور أحمد زايد، بجائزة النيل للعلوم الاجتماعية تتويجا لرحلة من العطاء زادت على نصف قرن، و«د. أحمد» أستاذ علم الاجتماع السياسى فى جامعة القاهرة، ومدير مكتبة الإسكندرية، وصاحب أكثر من عشرين مؤلفا، وعشرة كتب مترجمة، ومؤسس «منتدى القراءة» منذ عشرين سنة، وصاحب المقالات الثقافية فى أكثر الصحف والمجلات شهرة، والمتفاعل إيجابيا مع الحياة الثقافية المصرية والعربية، فهو قامة علمية ومعرفية عربية بجدارة. وفوزه المستحق أثلج صدور كل من عرف قيمته فى حياتنا، فهو مثقف لا يختلف عليه اثنان.

ورغم كل ما سبق، إلا أن «د. أحمد» كشف لنا فى هذا الحوار عن جانب معرفى آخر، فهو غير راضٍ عن نفسه، ويعترف بأنه لو رضى لكان فاشلا، وأنه لا يحب «الشللية» أو خلق «ألتراس الثقافي»، ومن هنا لم يقم بعمل حفل توقيع واحد لأى من كتبه، وهو يعترف بأن النقص سمة كل البشر، والاعتراف بالنقص سمة العالم الحق، وأن الكمال لله وحده، ويعترف بأنه لليوم يعيش القلق الوجودى والمعرفى من أجل الوصول إلى مقام الطمأنينة، بالمعنى الفلسفى والصوفى، وإلى نص الحوار.

 

بداية، كرمتك مصر مؤخرا بمنحك أرفع جائزة عن مجمل مسيرتك، ماذا يعنى هذا التكريم بالنسبة لك؟

التكريم للإنسان هو اعتراف بوجوده، واعتراف بما قدم، ويعنى بالنسبة إلىّ الاندفاع نحو مزيد من العطاء، ومزيد من العمل، ولا يعنى نهاية مرحلة أو نهاية رحلة، ولكن يعنى استمرار العطاء، واستمرار النجاح والتحدى، ودائما لدى أفكار مشروعات، ولدى عقيدة بأننى لم أكمل مسيرتى بعد، وطبيعتى هى الاستمرار فى العطاء، والعمل، والشعور بالنقص، وعدم الاكتمال، ويقينى أننى سوف أقضى كل حياتى دون أن أكون قد تعلمت تعلما كاملا، لا اكتمال للعلم أبدا، ولا اكتمال للشخصية، وكل ما أعرفه لا يساوى شيئا إزاء ما لا أعرفه، ومن زعم أن مسيرته اكتملت، أو أن علمه اكتمل فهو فاشل، فاشل، لا مسيرة ولا عمل يكتمل، ومشروعاتى مفتوحة، ورسالتى العلمية مفتوحة، وإذا كانت المجتمعات تتغير، والدنيا تتغير من حولنا، فنحن كذلك نتغير، فلا شيء ثابت على الإطلاق، لدرجة أن هناك تغيرات حاليا لا نستطيع أن نستوعبها تماما، وكثير منها لم تكن معروفة لنا من قبل، عن الشخصية، وعن المجتمع، وعن العالم كله.

كيف تتذكر مسيرتك العلمية، وبم تصفها اليوم؟

أتذكر حاليا أن مسيرتى العلمية كانت طويلة، وبدأت معى منذ كنت طالبًا فى المرحلة الإعدادية والثانوية، مسيرة طويلة جدا، وتوجت بهذه الجائزة، ويجب أن نتذكر أن المسيرة لم تكن سهلة، ولم يكن الطريق مفروشًا بالورود، لكنه كان مليئا بالعقبات والمشكلات والتحديات.

ماذا تقصد بالتحديات التى واجهتك، وما نوعها؟

أغلبها تحديات معرفية، بمعنى أن تفتح مجالات جديدة فى العلم، بوصفى أستاذا لعلم الاجتماع، فقد آمنت دائما أنه لا سبيل إلى تكوين عالم اجتماع متميز إلا بمعارف أخرى بخلاف علم الاجتماع، على رأسها الفلسفة، أن تقرأ الفلسفة قراءة عميقة، وعلى رأسها قراءة النقد الأدبى، ومعرفة التطورات الحادثة فى مجالات الشعر والرواية، والسرد بشكل عام، وطبيعة النظريات التى تناقش المستويات المتعددة من النقد، وأن تعرف علم الأنثروبولوجيا، وأن تقرأ فيه، وفى علم النفس أيضا، فلكى تكون أستاذا متميزا فى علم الاجتماع، لابد وأن تقرأ فى كل شيء، خاصة إذا أردت أن تكون متخصصا فى نظرية علم الاجتماع السياسى مثلى، فأنت بحاجة إلى أن تنفتح على العلوم الأخرى، ومن بينها علم السياسة، وعلم الاقتصاد، وعلم الإحصاء، وعلم الجغرافيا، وعلم التاريخ، وتصبح متعمقا أكثر، لتفهم طبيعة المجتمع ـ وطبيعة العمران البشرى، وطبيعة النظريات الاجتماعية وأصولها الفكرية، هذا هو التحدى الأساسى الذى كان أمامى.

هل تغلبت على التحديات؟

الحمد لله استطعت أن أتغلب على كثير من التحديات، ولذلك أسست «مقرأة»، أو «منتدى قراءة» منذ عشرين سنة مضت، حيث أجلس ومجموعة من الأصدقاء والتلاميذ مرة كل أسبوع، لنقرأ كتابا ونناقشه، وبدأت المشروع من داخل جامعة القاهرة، ومستمر لليوم، وأصبح يوم الإثنين من كل أسبوع، و«أون لاين»، ومتاح متابعته للجميع من أى مكان أو توجه أو تيار.

ماذا قصدت من تأسيس هذا المنتدى للقراءة؟

حاولت تطبيق نظريتى المعرفية والشمولية فى العلم على أصدقائى وتلاميذى، وكونت مجموعة من الأصدقاء نقرأ ونتعلم معا، لأن الجائزة بالنسبة لى تعنى أيضا أن العلم له أفق مفتوح وبلا نهاية، وكل ما قدمته خلال مسيرتى العلمية يؤكد أن حياتى المستقبلية لن تكتمل إلا بمزيد من العلم والعمل.

أى دروس مستفادة تقدمها لشباب الباحثين والمثقفين؟

الدروس المستفادة للشباب، والباحثين الصغار متعددة، وبعد النقد الذى وجه إلىّ من بعضهم، كتبت مقالات عن «العلاقات الجيلية»، وناديت بعلاقات جيلية مستقرة، لأنها يشوبها اليوم قلق وتوتر، وقد لاحظت أن أجيال الشباب لم تؤسس فى تكوينها جيدا، كما أن بعض الكبار لم يتم تكوينهم جيدا أيضا، وعلينا أن نعترف بوجود مشكلات حدثت فى التنشئة الاجتماعية داخل الأسرة، ومشكلات فى التعليم، والتأطير، ومشكلات طالت فكرة الاحترام بين الأجيال، وفى فهم الأدوار المختلفة للأجيال، ونحتاج أن يفهم الجيل الأصغر أن الطريق إلى المجد صعب، وأن الطرق السهلة فى تحقيق المكاسب تنتهى بسرعة، ولا تبقى مهما أدت من نتائج، وأن الطرق المستدامة المستقرة هى الطرق الصعبة، والتى بذل صاحبها فيها جهدا كبيرا، وامتلك رغبة من داخله للتميز والاختلاف، وليس مجرد الوصول لسلطة، أو نيل الشهرة فى عالم الثقافة، دون إلمام بالعلم، ولا بالثقافة، وأندهش جدا اليوم من مؤلفين ومبدعين، إذا سألت أحدهم عن سقراط لا يعرفه!.. وإذا سألتهم عن كتاب أفلاطون لا يعرفونه!.. إنهم يريدون الشهرة السهلة دون تعب أو بذل مجهود، ويريدون أن يبدوا كمثقفين، وهم لا يعرفون شيئا، حتى فى حدود تخصصهم لا يعرفون شيئا، والثقافة تحتاج لعلم ونضال وقراءة وعمق، فالثقافة لا تطال بسهولة، ولا تطال بالطموح الذى لا يرتبط بإمكانيات الشخص وقدراته، فغالبية الشباب يمتلك الطموح العالى جدا، فإذا نظرت لقدراتهم تجدها محدودة، نعم هناك شباب ممتاز.

إذن أنت تعترف بوجود شاب جاد؟

نعم، وسعيد جدا لأن هناك نسبة كبيرة من الشباب تكتب الشعر والرواية، ويقرؤون بشمول وإحاطة، ولكن بالمقابل هناك شباب يريد تحقيق أهدافه بسرعة وسهولة، وبمجرد أن يرتدى ثيابا فاخرة، أو يقتنى أشياء ثمينة، وهذا ما نرفضه، ولذلك نشجع الشباب القارئ، والشباب الذى يكتب عن علم وثقافة جادة، وهؤلاء موجودون، وقد درسنا هؤلاء فى معرض الكتاب، وقمنا بإحصائية حسابية فاكتشفنا وجود أعمال شبابية متميزة لا نعرفها أيضا، ولا نلم بها، وهذا ما نحتاج إليه اليوم، هؤلاء يحتاجون منا التشجيع، وفى مقابلهم يوجد شباب يتكلم كثيرا، ويريد أن يصبح مثقفا بسهولة، وأن يظهر، ويصبح مشهورا، وهؤلاء ينتقدون كثيرا، وجرابهم فارغ !

لكن الفرز عملية مستمرة وجدلية لتمييز الأصيل من المزيف، أليس كذلك؟

نعم الفرز موجود فى كل وقت، والتاريخ يفرز، ولا أحد يحدد مستواه بطريقته، والتاريخ هو من يحدد لاحقا، ماذا أنجز كل واحد منا، إذا أردت أن تعرف من أنت كمثقف قل لى ماذا كتبت، وماذا فعلت، وماذا قدمت من إنتاج ثقافى، ومن إدارة ثقافية، ومن حضور فى العالم الثقافى.. المثقف الحقيقى لا يقول إنه مثقف، والذى يكشف عن وجوده الحقيقى جهده وفعله، ولذلك أنا شخصيا لم أقم حفلات توقيع لكتبى، رغم أنى وضعت أكثر من عشرين كتابا، وترجمت أكثر من عشرة كتب.

لماذا، هل حفلات توقيع الكتب ظاهرة مشينة؟!

حفلات توقيع الكتب تخلق «ألتراس ثقافي»، وأنا لا أحب «الألتراس الثقافي»، حتى أن «منتدى القراءة» الذى أسسته قبل عشرين سنة لا وجود للألتراس فيه، ووضعت له مبادئ عامة ودقيقة ومحددة تؤطر العمل فيه دون خلق ألتراس أو شللية.

لكن كثيرين بالمقابل يعقدون حفلات توقيع لكتبهم، وأنت حضرت حفل توقيع كتاب د. ريم بسيونى الأخير وقدمته بنفسك؟!

جميل جدا، هى لها أسلوبها، وأنا لى أسلوبى، أنا لا أقيم حفلات توقيع، بل ألقى فكرى فى الحياة، وأتركه للتفاعل، وهناك نظرية عن «موت المؤلف»، وحفلات التوقيع تعنى أن المؤلف مصمم ومصر على أنه لم يمت، ونظرية «موت المؤلف» تعنى عندى أن الكتاب يكمل فى الحياة، والتاريخ هو الذى يحكم عليه، والقراء هم من يحكمون عليه، ولكن حفلات التوقيع تعنى الإلحاح، وفرض الذاكرة المستمرة على القراء، وجذبهم جذبا لكتابى، وكأنى أربطهم برباط حديدى لكتابى، ولكننى مع ترك الكتاب يتفاعل حرا مع القراء والحياة، وإذا لم يقرأ فى حياتى، سوف يقرأ لاحقا بعد وفاتى، فكثير من الكتب والأعمال لم تلق قبولا فى حياة أصحابها، ثم تميزت واشتهرت ولاقت القبول الحسن بعد رحيل أصحابها بعقود، وربما مئات السنين.

ذكر المعمارى العبقرى حسن فتحى أن تغيير بيئة الإنسان للأفضل تغير سلوكه للأفضل، فكيف تنظر لما يقوم به الرئيس عبد الفتاح السيسى من تنمية وعصرنة على ضوء ذلك المبدأ؟

بالطبع ما يفعله الرئيس السيسي حاليا سوف يغير الناس للأفضل، فالناس إذا عاشت فى بيئة نظيفة، مؤكد حياتهم سوف تتحسن للأفضل، فالبيئة المحيطة بك عامل مهم فى توجيه السلوك، وكان العلامة (ابن خلدون) يربط بين الإنسان، وبين البيئة التى يعيش فيها، وقال إن أهل البداوة فيهم خشونة، وأهل الحضر عندهم رقة، ووفقا لهذا المبدأ الذى وضعه «ابن خلدون»، فتحديث حياة البشر وجعلها ميسرة ومريحة، وسهلة ونظيفة، وبها طرق عصرية، كل ذلك يجعل الحياة أفضل، ومن هنا تولد الرغبة لدى المواطن فى تحسين سلوكه، وزيادة العمل والإنتاج، واحترام الآخرين.

هل أنت راضٍ عن نفسك، وعما وصلت إليه من أرفع جائزة، وإدارة مكتبة الإسكندرية؟

لست راضيًا عن نفسى أبدا، لو رضيت عن نفسى وعن إنجازى أكون فاشلا، لا وجود لعمل مكتمل، ولا وجود لإنجاز مكتمل، ومن يتحدث عن اكتمال الإنجاز فهو فى رأيى فاشل، وحديثه علامة فشل.

كيف؟!

الإنسان الواثق من نفسه لا يزعم أنه اكتمل، أو يزعم أنه العارف العالم الكامل، ويصبح مثل الطاووس، ورأيى أنه كلما زدنا معرفة وعلما، امتدت جذورنا فى الأرض واقتربنا منها أكثر، فكأننا نمشى عليها بقلوبنا، وليس بأرجلنا، ولا نطاول عنان السماء برقابنا، فننتكس ونقع، والوصول يعنى الطمأنينة، لا الانزعاج، والطمأنينة تبعث الثقة فى النفس، ولا يعنى أننى أفضل إنسان لأننى أدير مكتبة الإسكندرية، أو أننى اكتملت بعد فوزى بـ «جائزة النيل»، لا أحد يقدر أن يزعم هذا الزعم، لست أفضل عالم، ولست أفضل مدير، ولست أفضل إنسان، بل أنا فى سعى مستمر للتحقق، ولو شعر الإنسان بأنه اكتمل سوف يجلس ويستريح، ويتكئ بظهره على الحائط، لابد للمثقف والباحث الحقيقى من قلق دائم، قلق وجودى من أجل النجاح، قلق وجودى من أجل الاكتمال، والذى لا يكتمل ولن يكتمل أبدا، فأنا أسعى للوصول إلى مقام الاطمئنان.

هذا تصوف بمعناه المعرفى، أليس كذلك؟

نعم تصوف، مقام الاطمئنان مهم لفهم الذات فهما عميقا، والخروج للحياة بانفتاح أكثر، والبحث عن محاولات للاكتمال، وأنت تعلم أنه لا كمال إلا للخالق المبدع، الله جل جلاله، إننى إذا حاورت شخصا وأعطانى انطباعا بأنه يعلم كل شيء أنقبض وأحذر منه، لا كمال فى الحياة نهائيا، الله تعالى هو الكامل وحده، وطالما نعترف بذلك، فنحن نسعى لكماله، ونظل دائما فى حالة نقص، هى فلسفة صوفية لحد ما، ولكنها علمية ومنطقية أيضا، وهذا ديدن أصحاب الرسالات، وذوى الهمم العالية.

الاكثر قراءة