كيف استقبلتِ نبأ منحك وسام «جوقة الشرف» من الرئيس الفرنسى؟ وما الذى مثّله لكِ هذا التكريم على الصعيدين الشخصى والمهنى؟
كان نبأ منحى وسام «جوقة الشرف» من الرئيس الفرنسى لحظة امتزج فيها الفرح العميق، وتأكد فيها إيمانى الراسخ بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، وهذا الوسام تتويج لمسيرة طويلة من الجهد المتواصل فى خدمة الثقافة، واحتفاء رمزى بالقيم التى آمنت بها وسعيت إلى تجسيدها، وعلى رأسها الحوار والتفاهم بين الشعوب، وهى القيم التى كانت دوما حاضرة فى مسيرتى المهنية والإنسانية.
فى الحقيقة سمعت كثيرا خلال السنوات الماضية عن ترشيحى لجوائز أوروبية، ومنها فرنسا، لكن بين الأحاديث المتداولة وبين التصديق الرسمى وإدراج اسمى ضمن المكرمين بهذا الوسام النابليونى الرفيع، كانت هناك مسافة من الترقب، لم تبددها سوى لحظة الإعلان الرسمي، التى غمرتنى بفرح عميق وشعور صادق بالتقدير.
فرنسا فى نظرى لم تكن يوما بلدا عاديا فى علاقتها بالشرق، فمنذ عصر النهضة، وتحديدا عام 1587، حين تأسس أول منبر لتدريس اللغة العربية فى «الكوليج دى فرانس»، أبدت اهتماما بالغا باللسان العربى وثقافته، ومن اللافت أن جامعة كمبردج لم تبدأ بتدريس العربية إلا عام 1632، مما يبرز ريادة فرنسا فى هذا المجال.
لكن ما يُميز تلك المؤسسات الفرنسية العريقة هو أنها لم تكن مجرد مراكز لتعليم اللغات، بل منصات فكرية لمواجهة عصور الظلام والانغلاق، ولإعادة تشكيل المعرفة الإنسانية برؤية تجمع بين الفلسفة والعلوم والطب والآداب، لقد كانت بمثابة نهر تتلاقى فيه العقول وتفتح فيه القلوب.
ومع نهاية القرن السابع عشر، برزت حركة علمية جديدة قادها رواد الدراسات الشرقية، ومنهم Barthélemy d’Herbelot، الذى تولى عام 1685 إدارة «المكتبة الشرقية «Bibliothèque Orientale، وكان ممن استوعبوا ذخائر الوثائق والمخطوطات الشرقية الكبرى، واضعا حجر الأساس لما يمكن تسميته «النهضة الثانية» فى الفكر الأوروبى المتصل بالشرق.
وأرى أن الثقافة الفرنسية حية فى كل أرض، إذ انبثقت من رحمها العديد من الحركات الفكرية الكبرى التى أثرت فى أوروبا أولا، قبل أن تمتد إلى مختلف أنحاء العالم، ولولا الدور الريادى الذى اضطلعت به فرنسا، لما بلغت آداب الأمم ذلك القدر من القوة والانتشار فى مشارق الأرض ومغاربها.
حين جاء نابليون إلى مصر عام 1798، لم يأتِ فقط على رأس جيش، بل جاء حاملاً مشروعا علميا وثقافيا، حيث كان فى معيته طائفة من العلماء والأدباء، من أبرزهم مونج (Monge) وبيرتوليه (Bertholet) وما إن بلغ القاهرة، حتى أنشأ بها مؤسسة علمية، أسند إدارتها إلى أولئك العلماء، فكانت فاتحة عهد جديد من الاكتشافات المعرفية أسفر عن تأسيس مركز لدراسة الآثار المصرية فى «الكوليج دى فرانس»، وترسخت العلاقة بين علماء فرنسا ونظرائهم من الشرق، وأصبح هذا التبادل المعرفى نواة لحوار حضارى حقيقي.
وقد نشأ من هذا النمط الجديد من الاحتكاك بين الشرق والغرب شوق متجدد لدى الأدباء والشعراء لزيارة الشرق، وبذلك ازدهرت حركات الرسالات التنويريين، الذين كان لهم الفضل فى تحويل الشرق إلى منبع ثقافى ثري، ألهم أوروبا، وخاصة فرنسا، بأكثر مما نتخيل.
لذا فإن كل الجوائز التى حصلت عليها كان لها علاقة بتعزيز قيم السلام والتفاهم بين الشعوب وخدمة الثقافة والدبلوماسية، ولعل أهمها «الوردة البرونزية» من إيطاليا والتى تسلمتها عام 2015 فى قصر الكامبيدوليو الأثرى فى احتفال مهيب للنسخة الـ46 فى هذا الأوسكار، والذى يعرف أيضا بـأوسكار الكامبيدوليو لتعزيز قيم التواصل بين الشعوب، وأيضا حصلت على «درع الثقافة والدبلوماسية» من منظمة «الإيكروم الشارقة» والذى تسلمته عام 2017 أثناء رئاستى للأكاديمية المصرية للفنون بروما، وأيضا حصلت على «وسام الاستحقاق الوطني» بدرجة فارس وتسلمته عام 2009 بعد زيارة رئيس فرنسا ساركوزى إلى مصر، لنجاح ملفات تعاون مشتركة بين مصر وفرنسا فى مجال التراث الثقافى والعمل الأثري.
إذن ما الفرق بين وسام فارس عام 2009 من الرئيس نيكولا ساركوزى، ووسام اليوم «جوقة الشرف»؟
بالفعل حصلت على وسام فارس فى يوليو 2009 فى وقت ولاية الرئيس نيكولا ساركوزى... ويمكننى أن أقول إن هناك عاملا مشتركا بين الوسامين - الاستحقاق الوطنى فى يوليو 2009 وجوقة الشرف فى يوليو 2025.
هو أنهما تم منحهما بعد زيارة رئاسية، فأنا أتذكر أنه فى ديسمبر 2008، اصطحبت الزيارة الرسمية للرئيس الفرنسى ساركوزى وزوجته «كارلا بروني» فى المناطق الأثرية، وأتاحت لهذه الزيارة تبادل الأحاديث الثقافية والمتعمقة والأزمات التى تسعى لها المنطقة العربية فى التواصل مع الغرب.
ومرت الأيام، وفى آبريل الماضى تلقيت دعوة من الرئيس الفرنسى لحضور حفل استقبال عشاء مع نخبة من المفكرين والمثقفين الفرانكفونيين، تبادلنا خلاله أطراف الحديث عن الوقت الدقيق الذى يمر به الشرق الأوسط وتقدير «أزمة حصار غزة».. لعل لقاء الرئيسين ساركوزى وماكرون فى إطار زيارات رئاسية هو العامل المشترك بين الوسامين.
كيف تُسهم الثقافة فى رأيك فى بناء جسور التواصل بين الشعوب، خاصة فى ظل التحديات الدولية الحالية؟
فى العقد الثالث من الألفية الثالثة، وفى ظل عالم يتسارع إيقاعه وتتزايد تعقيداته، تبرز الثقافة كواحدة من أقوى الأدوات القادرة على بناء الجسور بين الشعوب، فبينما تتفاقم النزاعات السياسية، وتنتشر المعلومات المضللة وتتسع الهوة بين المجتمعات، تبقى الثقافة نافذة أمام الإنسان، تنير طريق التفاهم، وتُعيد تشكيل مساحات التواصل على أسس أكثر إنصافا وإنسانية.
إن الثقافة، بكل تجلياتها من أدب وفن وشعر وموسيقى وسينما، ليست مجرد مظاهر حضارية، بل هى أداة فاعلة تحمل القدرة على اختراق الحواجز، وتجاوز الصور النمطية، وتصحح المفاهيم المغلوطة التى طالما غذت مشاعر التعصب والانقسام، ومن خلالها يمكن للإنسان أن يطل على الآخر لا كخصم أو نقيض، بل كشريك فى التجربة الإنسانية، مختلف فى مظهره وخلفيته، لكنه متشابه فى جوهره واحتياجاته وأحلامه.
وفى هذا السياق تكتسب الثقافة بعدا محوريا فى ترسيخ قيم التعايش والتسامح وقبول الآخر، خاصة فى عالم يعانى من التوترات العابرة للحدود، إنها تمكن الأفراد من فهم الخلفيات التاريخية والمعتقدات والعادات التى تشكل هوية الشعوب، وتفتح أمامهم أفقا رحبا لفهم أعمق وأشمل.
الاختلاف الذى كثيرا ما يُنظر إليه كعامل للفُرقة، يمكن أن يكون عنصرا للثراء الإنسانى إذا ما أُدير بوعى ثقافي، فالاختلاف فى اللغة أو اللون أو العرق أو المكان أو الانتماء الاجتماعي، لا ينبغى أن يكون مدعاة للانقسام، بل فرصة للاكتشاف والتعلّم والتقارب، وأيضا الثقافة حين تفعل فى هذا الإطار تسهم فى تعزيز الوحدة ضمن التنوع، وتمهد لبيئة من الاحترام المتبادل المثمر.
إننا اليوم بحاجة ماسة إلى ثقافة تُعلى من قيمة الإنسان، وتُعيد الاعتبار للمشترك الإنساني، وتسهم فى تفكيك الأفكار المسبقة، وبناء وعى عالمى جديد يقوم على الانفتاح والاحترام والتقدير المتبادل، وبالتالى هى ليست ترفا، بل ضرورة لمواجهة عالم متغير، متشابك، ومتقلب.. لعل الثقافة، بما تمتلكه من قدرة على التأثير العابر للحدود، تُعيد إلينا بعضا من توازننا الإنساني، وتضعنا من جديد أمام المرآة الكبرى: مرآة الإنسانية الواحدة فى تنوعها الخلاق!
ما الدور الذى يمكن أن تلعبه المرأة العربية، وخصوصا المصرية فى مجالات الفكر والدبلوماسية الثقافية؟
فى ظل التحولات الاجتماعية والسياسية التى تشهدها منطقتنا العربية، برزت المرأة العربية، ولاسيما المصرية كلاعب محورى فى مجالات الفكر والدبلوماسية الثقافية، مثبتة قدرتها وكفاءتها فى بناء جسور الحوار والتفاهم بين الشعوب والثقافات.
لم يعد حضور المرأة فى هذه المجالات حضورا تكميليا، بل غدا ضرورة حيوية، لما تمتلكه من مهارات فكرية ووجدانية تؤهلها لقيادة مبادرات ثقافية تتسم بالعمق والتأثير.. فقد أسهمت المرأة المصرية فى إثراء الفكر العربى عبر مجالات متعددة مثل الرواية والشعر والمسرح والسينما، حيث نقلت من خلالها نبض المجتمع، وطرحت قضايا المرأة والإنسان من زوايا متجددة، عمّقت من خلالها النقاشات الثقافية داخل مصر وخارجها، فالإبداع النسائى لم يكن يوما منغلقا على الذات، بل انفتح على قضايا المجتمع، وأسس لمسارات فكرية جديدة.
إلى جانب ذلك، فإنى أود أن أذكر أن المرأة تؤدى دورا متزايدا فى تمثيل مصر فى المحافل الدولية، عبر مشاركاتها فى الفعاليات الثقافية والمعارض الفنية والمهرجانات الموسيقية، حيث تجسد صورة مشرقة للهوية المصرية، وتقدم نموذجا حيا للقوة الناعمة المصرية بكل تنوعها وثرائها.. هى سفيرة غير رسمية لبلدها، تحمل معها رسالة حضارية تنطلق من عمق التاريخ وتتجه نحو آفاق المستقبل.
ولا يمكننى وأنا أرد على هذا السؤال، إغفال حقيقة أن المرأة بحكم تكوينها الإنساني، تمتلك قدرة فطرية على بناء العلاقات وتعزيز الحوار، وهى صفات تجعلها مؤهلة لقيادة المبادرات الثقافية ذات الطابع المجتمعي، خاصة تلك التى تقوم على التبادل الشعبى والتواصل الإنساني، بما يعزز من دور مصرى الساحة الإقليمية والدولية.
فلم تكن المرأة المصرية شريكة فقط فى العمل الثقافى والدبلوماسي، بل كانت ولا تزال من أبرز محركاته، وبالاستثمار فى طاقاتها الفكرية والإبداعية، يمكن تعظيم دورها فى ترسيخ مكانة مصر كقوة ناعمة ذات تأثير يمتد من الإقليم إلى العالم، حيث تُصبح الثقافة أداة للتأثير الإيجابي، والمرأة إحدى أبرز أدواتها.
ما الذى يميز العلاقة الثقافية بين مصر وفرنسا فى رأيك، وكيف يمكن تعميق هذا التعاون؟
تعد العلاقة الثقافية بين مصر وفرنسا من أعرق وأغنى الروابط فى منطقة البحر المتوسط؛ إذ تمتد جذورها عميقا فى التاريخ، وتتميز بطابع حضارى يقوم على التبادل والتأثير المتبادل.. كما شهدت تفاعلا عميقا ومستمرا بين الشعبين فى مجالات الفكر والفن والتعليم والآداب.
حيث تأثرت مصر بالثقافة الفرانكفونية فى مجالات متعددة، كما أبدت فرنسا اهتماماً كبيراً بالحضارة المصرية القديمة والحديثة على حد سواء.
دعنى أذكّر بأن هذه الروابط بدت جلية قبل الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، حينما أراد فرانسوا الأول أن يأتى بإشراقة من نوع آخر، إشراقة «ثقافية» تخفف وطأة البرد الفرنسى القارس بنور ودفء المعرفة القادمة من بلاد الشمس، إشراقة نابعة من إيمانه بضرورة معرفة الآخر ووجوب مدّ جسور علمية مع الشرق، فراح يصنع نورا يبدد به غيوم السماء الباريسية التى كانت معبأة بالسحب الكثيفة انطفأ معها وهج الحياة، وباتت القلوب منقبضة والأرواح باهتة.
وفى 24 مارس 1529 أقام الملك فرانسوا الأول منبرا لتدريس اللسان العربى فى الديار الغربية، وقد حمل اسم الـ«الكوليج دى فرانس» والذى لقب بـ«هيكل المعارف البشرية»، وهو أول مؤسسة أوروبية أدركت أهمية إدراج الدراسات الشرقية فى مناهج التعليم بباريس، ومن بعدها جامعة كمبردج التى لم تبدأ فى إنشاء قسم اللغة العربية إلا فى عام 1632 ثم أوكسفورد التى كلف إدوارد بوكوك عام 1636 بتدريس اللغة العربية بها.
ورغم الطابع العسكرى للحملة الفرنسية، إلا أنها أسفرت عن نتائج ثقافية هائلة، من أبرزها إصدار كتاب «وصف مصر» الذى وثّق الحياة المصرية فى ذلك الوقت من منظور علمى دقيق، كما لعب العديد من الشخصيات دوراً محورياً فى ترسيخ هذه العلاقات الثقافية، من بينهم العالم الفرنسى جان فرانسوا شامبليون، الذى فك رموز حجر رشيد، وساهم فى تأسيس علم المصريات، مما عمّق اهتمام الغرب بالحضارة المصرية القديمة.
كما كان رفاعة الطهطاوى من أوائل المبعوثين المصريين إلى فرنسا فى القرن التاسع عشر، وعاد إلى مصر حاملاً معه مفاهيم التنوير والعلم والتحديث، وأسس نهضة ثقافية حديثة، أثرت فى تطور الفكر والتعليم فى مصر.
استمر هذا التواصل الفكرى والوجدانى فى العصر الحديث من خلال التعاون الأكاديمي، وتبادل البعثات العلمية، والمراكز الثقافية مثل المعهد الفرنسى بالقاهرة، والمشاركة المستمرة فى الفعاليات الفنية والمعارض، مما جعل من العلاقة الثقافية بين مصر وفرنسا نموذجاً حياً لتكامل الحضارات وتلاقى الشعوب، ففرنسا ما زالت تستقبل طلبة ومبدعين مصريين فى مجالات الترميم، الفنون، والتوثيق وما زلنا نحتفظ بتعليم اللغة الفرنسية كلغة ثانية فى النظام التعليمى المصرى، كما أن فرنسا تعتبر شريكا أساسيا فى المشروعات القومية المصرية فى كل المجالات.
