رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

جـحـيــم «القـطاع»


11-7-2025 | 09:31

.

طباعة
تقرير: إيمان السعيد

 

داخل قطاع غزة، لم تعد المأساة حدثًا عابرًا، بل تحولت إلى «نمط حياة»، فالغارات تتوالى وأبواب المساعدات لا تزالمغلقة، ويضيق الخناق على أكثر من مليونى إنسان تُركوا فى العراء. لا تمر ساعة إلا وتُسجل فيها أسماء جديدة فى قوائم الشهداء، من أطفال لم يعرفوا شيئًا من الحياة سوى «صوت الطائرات الحربية» و«الركام»، إلى أمهات يُنتزعن من بين الأنقاض.. مستشفيات خرجت عن الخدمة.. مدارس تحولت إلى مقابر جماعية أو ملاجئ مكتظة، ومراكز توزيع الإغاثة باتت فخاخ موت.

 
 
 

تصاعدت خسائر الأرواح والإصابات بين المدنيين فى غزة بشكل مأساوى، وأفادت وزارة الصحة فى غزة أن ما لا يقل عن 142 شهيدًا وصلوا إلى المستشفيات خلال اليومين الأولين من يوليو الجارى، ما رفع إجمالى الوفيات إلى ما يقرب من 60 ألف شهيد؛ إذ تحولت نقاط توزيع المساعدات الأمريكية إلى مصائد وحشية لآلاف المجوعين من قِبل الاحتلال الذى يصطاد قناصته الفلسطينيين بعدسات أسلحتهم بلا رحمة؛ إذ وثقت تقارير الأمم المتحدة استشهاد 38 مدنيًا أثناء محاولتهم الحصول على الطعام، أغلبهم من النساء والأطفال، إلى جانب الارتفاع الكبير فى عدد الإصابات بين الطواقم الطبية والمدنيين بالقرب من نقاط الإغاثة.

وشهد قطاع غزة سلسلة من المجازر والانتهاكات التى طالت المدنيين بشكل مباشر، فى انتهاك واضح لكل قواعد القانون الدولى الإنسانى. ففى مارس الماضى، ارتكبت القوات الإسرائيلية مجزرة بحق الطواقم الطبية فى رفح، حيث استهدفت خمس سيارات إسعاف وسيارة تابعة للأمم المتحدة، ما أدى إلى استشهاد 15 مسعفًا، بعد تعذيب بعضهم ميدانيًا. وفى أبريل الماضي، استُشهد أكثر من 35 مدنيًا فى قصف مبنى سكنى مكتظ فى حى الشجاعية، من بينهم أطفال ونساء، دون وجود أى هدف عسكرى واضح. 

وتكررت هذه النمطية فى مايو الماضى، حين استهدفت غارات سوقًا شعبيًا ومطعمًا فى شارع الوحدة، أسفرت عن استشهاد 33 مدنيًا، تلتها مجزرة لعائلة النجار فى خان يونس، راح ضحيتها تسعة أطفال ووالدهم. ولم تسلم المدارس والمستشفيات من القصف، كما استهدفت مدرسة فهمى الجرجاوى فى حى الدرج أثناء لجوء عشرات العائلات إليها، ما أدى إلى استشهاد 36 شخصًا. وفى يونيو الماضى، ألقت طائرة إسرائيلية قنبلة وزنها 500 رطل على مقهى ساحلى فى غزة، فاستُشهد أكثر من 41 مدنيًا، بينهم طلاب وصحفيون، كما وثقت الأمم المتحدة استشهاد أكثر من 600 مدنى أثناء محاولتهم الوصول إلى نقاط توزيع المساعدات، نتيجة إطلاق النار المتكرر من قِبل القوات الإسرائيلية أو متعاقدين أمريكيين، وكذلك، استُشهد عدد من الأطباء والعاملين الصحيين، من بينهم مدير المستشفى الإندونيسى الدكتور مروان سلطان، وهو ما يعكس استهدافًا واضحًا للبنية التحتية المدنية والطواقم الإنسانية والطبية فى غزة.

وفى وصف يلخص حجم المأساة، قالت رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ميرجيانا سبوليارك إيجر: إن «غزة تحولت إلى جحيم على الأرض»، محذرة من أن النقص الحاد فى الإمدادات الطبية والغذائية يهدد بانهيار كامل للمنظومة الصحية. 

وأعرب المفوض السامى للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فولكر تورك، عن صدمته من حجم المعاناة، داعيًا حكومات العالم إلى «الاستفاقة من صمتها المريب»، فيما وصف المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، الأوضاع الإنسانية بأنها «كارثة يصعب تصورها»، مؤكدًا أن مئات الآلاف من الفلسطينيين باتوا يفتقرون إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة. 

أما المقرر الأممى المعنى بحقوق الإنسان، فرانشيسكا ألبانيز، فدعت بشكل مباشر إلى قطع العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع إسرائيل، معتبرة أن «ما يجرى هو حملة إبادة جماعية ممنهجة ضد سكان غزة»، فى وقت يتواصل فيه تجاهل معظم الآليات الدولية لهذا الواقع الكارثى.

وتظهر الأدلة التى جمعتها منظمة العفو الدولية كيف واصلت إسرائيل استخدام تجويع المدنيين سلاح حرب ضد الفلسطينيين فى قطاع غزة، من خلال فرض ظروف معيشية قاسية تهدف إلى إنهاك السكان جسديًا كجزء من عملية إبادة مستمرة. 

وقالت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أغنيس كالامار: بينما انشغلت أنظار العالم بالأعمال العدائية الأخيرة بين إسرائيل وإيران، استمرت الإبادة فى غزة بلا توقف، من خلال خلق مزيج قاتل من الجوع والمرض يدفع السكان إلى حافة الانهيار، ففى الشهر الذى تلى فرض إسرائيل برنامج مساعدات عسكريا تديره مؤسسة «غزة الإنسانية»، استشهد المئات من الفلسطينيين وجرح الآلاف، إما بالقرب من مواقع التوزيع وإما أثناء محاولتهم الوصول إليها. ومنعت إسرائيل دخول بعض المواد الأساسية التى توزعها الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية، مثل الطرود الغذائية والوقود والمأوى. وبدلًا من تسهيل وصول المساعدات، تم تحويل طلب الطعام إلى فخ قاتل. المساعدات التى سمح بدخولها أقل بكثير من الحد الأدنى المطلوب لسكان يعيشون تحت القصف منذ أكثر من عشرين شهرًا.

حتى قبل فرض الحصار الكامل فى مارس الماضى، والذى تم تخفيفه جزئيًا دون أن يكون كافيًا، كان الحصار له أثر مدمر، خاصة على الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات. فمنذ أكتوبر 2023، تُوفى ما لا يقل عن 66 طفلًا نتيجة مباشرة لسوء التغذية، ولا يشمل هذا الرقم الأطفال الذين ماتوا نتيجة أمراض كان يمكن علاجها لولا سوء التغذية.

والآن يكافح القطاع الصحى فى غزة للتعامل مع تدفق الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية. ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، نُقل إلى المستشفيات منذ بداية العام حتى 15 يونيو أكثر من 18,700 طفل بسبب حالات سوء التغذية الحاد، ومع ذلك، فإن الغالبية العظمى من الأطفال المرضى لا يصلون إلى أى منشأة صحية بسبب القصف المستمر وأوامر النزوح التى تعوق الحركة. فى الوقت ذاته، فقدت الحياة اليومية كل ما يشبه الحياة فى غزة. الطعام إن وجد، فهو نادر وغالٍ جدًا، فسعر البيضة الواحدة بات يعادل ثمن اثنتى عشرة بيضة قبل الحرب. والدقيق يُعامل كما يُعامل الذهب، ومياه الشرب تُجلب فى صفوف طويلة، حتى الاستحمام صار ترفًا من الماضي. 

التعليم انهار أيضًا، فلم تعد هناك جامعات، والمدارس تحولت إلى ملاجئ، وتحاول بعض الجامعات تقديم التعليم عن بُعد، وتتوفر بعض المساحات المؤقتة للتعليم، لكنها لا تعوض ما فقد. ويقضى الرجال فى غزة معظم يومهم خارج الملاجئ، بحثًا عن الطعام أو الوقود، أو مجرد إحساس بأن هناك حياة تستحق أن تُعاش.

فالمدينة التى كانت تنبض بالحياة، أصبحت ذكرى موجعة عن حياة طبيعية لم تعد ممكنة.

الدكتور صلاح عبدالعاطى، رئيس الهيئة الدولية للدفاع عن الشعب الفلسطينى، أكد أن الوضع الإنسانى فى قطاع غزة بلغ درجة كارثية غير مسبوقة بعد أكثر من 330 يومًا من العدوان الإسرائيلي، الذى تحول إلى حرب إبادة جماعية متواصلة. 

وأشار إلى أن الأشهر الثلاثة الأخيرة شهدت تشديدًا خطيرًا فى الحصار ومنع المساعدات الإنسانية، بالتوازى مع فرض نموذج جديد للمساعدات عبر مؤسسة «غزة الإنسانية» الأمريكية - الإسرائيلية، التى جاءت -بحسب وصفه- لتقويض دور مؤسسات الأمم المتحدة، وعلى رأسها وكالة الأونروا. هذه المراكز التى وضعت تحت عنوان المساعدة تحولت فى الواقع إلى فخاخ موت، حيث استُشهد فيها أكثر من 650 فلسطينيًا، وأُصيب أكثر من 5,000 آخرين، إضافة إلى فقدان العشرات.

«عبدالعاطى»، أوضح أن «ما يجرى يتجاوز مجرد استهدافات فردية أو أخطاء فى العمليات العسكرية، بل هو نهج مدروس لتدمير كل ما يضمن الحد الأدنى من الحياة، فإلى جانب المجازر اليومية، يجرى قصف المنشآت المدنية بشكل ممنهج، واستهداف الطواقم الطبية، كما حدث مع اغتيال الدكتور مروان سلطان، مدير المستشفى الإندونيسى، واستهداف مستشفى شهداء الأقصى، وإخراج عدد كبير من المستشفيات من الخدمة بالكامل. كما أجبرت آلاف العائلات على التهجير القسري، وتعرضت مناطق بأكملها للتدمير شبه الكامل بعد خروج سكانها منها، ما يشير إلى عملية تهجير مقصودة تترافق مع تدمير البنية التحتية للحياة».

وأضاف أن «ما يحدث هو إبادة على مستويين متوازيين: إبادة مباشرة بالقصف الجوى والبري، وإبادة بطيئة عبر سياسات التجويع والعطش، وحرمان السكان من المياه والأدوية والغذاء، وانتشار الأوبئة فى بيئة باتت غير صالحة للعيش»، معتبرًا أن «هذه الأفعال تندرج ضمن جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، وفقًا للقانون الدولي.

وأكد أن تقارير حقوقية محلية ودولية عديدة وثّقت استخدام التجويع سلاح حرب، ومنع دخول المساعدات كأداة عقاب جماعى للسكان المدنيين، وهو ما يخالف بشكل مباشر اتفاقيات جنيف والقانون الدولى الإنساني»، وأشار إلى أن هذه الممارسات تظهر إسرائيل كدولة مارقة تتنصل من جميع التزاماتها الدولية، داعيًا إلى ملاحقتها على هذه الجرائم رغم اختلال موازين القوى.

ولفت إلى أن ملفات الجرائم أُحيلت بالفعل إلى المحكمة الجنائية الدولية، والتى أصدرت مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت، متضمنة اتهامات باستخدام التجويع أداة حرب. كما أشار إلى الدعوى المقدمة من جنوب إفريقيا بشأن الإبادة الجماعية، والتى انضمت إليها دول أخرى، بالإضافة إلى عشرات الشكاوى المرفوعة استنادًا إلى مبدأ الولاية القضائية الدولية.

وعن دور المجتمع الدولى ومنظمات حقوق الإنسان، أوضح «عبدالعاطى» أن الرصد والتوثيق لا يكفى وحده، بل لا بدّ من تدخل حقيقى لحماية المدنيين ووقف جرائم الإبادة، وضمان تدفق المساعدات بشكل آمن ومنتظم. إلا أن المجتمع الدولى، وفقًا لرأيه، لا يزال عاجزًا أمام حجم الجرائم، فى ظل الغطاء الأمريكى الممنوح لإسرائيل، واستخدامها المتكرر لحق النقض (الفيتو)، مما أعاق تحرك مجلس الأمن، وقلّص فاعلية النظام الدولى.

ورغم ذلك، أشار «عبدالعاطى»، إلى أن «الحراك الشعبى العالمى والفعاليات التضامنية والمسيرات فى عدة عواصم، بالإضافة إلى المواقف المتقدمة من بعض الدول -ساهم فى فضح جرائم الاحتلال، وأعاد تسليط الضوء على القضية الفلسطينية، والمطلوب اليوم هو الاستمرار فى الضغط السياسى والقانونى من أجل محاسبة المسئولين الإسرائيليين، وفرض عقوبات جدية على دولة الاحتلال، بما يضمن احترام القانون الدولي، وإنصاف الضحايا، ووقف سياسة الإفلات من العقاب».

«المصوّر»، حاولت التواصل مع القيادى الفلسطينى اللواء محمد أبو سمرة، غير أن الرد جاء بأنه «فقد عائلته». فقد كان «أبو سمرة» يودّع عائلته التى فقدها دفعة واحدة فى قصف إسرائيلى استهدف الحى السكنى لعائلته فى حى الزيتون. العشرات من النساء والأطفال والرجال استُشهدوا فى لحظة واحدة، بعضهم ما زال تحت الأنقاض. فما كان يُفترض أن يكون تصريحًا صحفيًا، تحول إلى مرآة لما يعيشه كل فلسطيني. فلم تعد المجازر خبرًا يُنقل، بل واقع يتكرر فى كل بيت، فالحداد أصبح جماعيًا لا يستثنى أحدًا.

    كلمات البحث
  • غزة
  • فلسطين
  • القاهرة
  • مفوضية
  • توزيع

أخبار الساعة

الاكثر قراءة