رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

إصلاح المنظومة الضريبية (9) .. الضريبة العقارية.. مورد غائب فى قلب المركزية


26-6-2025 | 23:26

.

طباعة
بقلـم: د. محمد فؤاد

بين ضعف الحصيلة وإمكانات غير مفعّلة: كيف يمكن إصلاح الضريبة العقارية فى مصر؟، واستكمالًا لما طُرح فى سلسلة «إصلاح المنظومة الضريبية»، تبرز الضريبة العقارية كأحد أبرز الأمثلة على الفجوة العميقة بين ما يُفترض أن تحققه من أهداف مالية وتنموية، وبين ما يتحقق فعليًا على أرض الواقع، فرغم أنها ضريبة قائمة منذ عقود، وأُعيد تنظيمها بموجب القانون رقم 196 لسنة 2008، إلا أن مساهمتها فى الحصيلة العامة للدولة لا تزال محدودة إلى حدٍّ لافت، لا يتناسب إطلاقًا مع الإمكانات الكامنة فى اقتصاد يشهد توسعًا عمرانيًا غير مسبوق.

وإشكالية الضريبة العقارية لا يمكن اختزالها فى ضعف التحصيل فحسب، إذ تكشف التجربة عن أزمة أعمق تتعلق بالبنية المؤسسية للنظام الضريبي، وغياب الرؤية الاستراتيجية لتوطين المالية العامة، وتفعيل لامركزية الإيرادات، فضلًا عن تعثر تحقيق العدالة الضريبية التى تمثل الركيزة الأولى لأى نظام ضريبى فعّال.. ومن هنا فإن فتح هذا الملف لا ينبغى أن يكون من منظور جبائى ضيق، بل كمدخل إصلاحى واسع يعيد توظيف الضريبة العقارية كأداة لتعبئة الموارد العامة، وتعزيز العدالة الاجتماعية، فى ظل تفاوتات جغرافية واقتصادية تتطلب استجابات ضريبية أكثر اتساقًا مع الواقع.

وتشير بيانات مشروع موازنة العام المالى «2025/2026» إلى أن الضريبة العقارية لا تزال تمثل موردًا هامشيًا فى هيكل الإيرادات الضريبية، على الرغم من الطفرة الواسعة التى شهدها السوق العقارى خلال العقدين الأخيرين، سواء فى المدن الجديدة، أو المناطق الفاخرة، أو حتى فى الريف الذى خرج جزء معتبر منه عن صورته التقليدية، بعد أن طالته تحولات عمرانية ومعيشية متسارعة.

فالحصيلة الفعلية لهذه الضريبة ما زالت تراوح بين 600 و800 مليون جنيه سنويًا، أى ما يقل عن 0.05 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالي، وهى نسبة شديدة التواضع إذا ما قورنت بمتوسط 1.9 فى المائة فى دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، بل وتتجاوز 2.5 فى المائة فى كل من المملكة المتحدة وكوريا الجنوبية.

وهذا الفارق لا يمكن تفسيره بغياب الأصول العقارية القابلة للضريبة على الإطلاق، بل يُعزى فى جوهره إلى مجموعة من الاختلالات البنيوية، على رأسها ضعف التغطية، وتقادم آليات التقييم، وتجمد التحصيل بفعل قرارات سياسية اتُّخذت لأسباب اجتماعية أو انتخابية أو حتى بدافع مصلحة شخصية، وهى كلها عوامل أضعفت من فاعلية الضريبة ومصداقيتها كأداة عادلة ومستقرة فى تمويل المالية العامة.

وقد حاول بعض أعضاء مجلس نواب 2015، كسر هذا النسق من خلال مقترحات لإعادة هيكلة العلاقة بين الإدارة الضريبية والمحليات، أبرزها مشروع القانون الذى تقدم به النائب أحمد السجيني، رئيس لجنة الإدارة المحلية، والذى نص صراحة على أن تكون الضريبة العقارية «مورداً مباشراً للمجالس المحلية ضمن تصور أشمل للامركزية المالية».

وقد شرفت بأن أكون من بين المتقدمين بهذا المشروع إلى جانب النائب أحمد السجيني، دعمًا لتوجهه الطموح فى هذا الملف، حيث مثل المشروع آنذاك أحد أبرز تحركات لجنة الإدارة المحلية لتكريس مبدأ اللامركزية المالية، وجاء دعمنا – كمجموعة برلمانية عن حزب الوفد وقتها– انطلاقًا من إيمان راسخ بأن تمكين المحليات يبدأ من منحها صلاحيات مالية فعلية على رأسها الضريبة العقارية.

لكن هذا التوجه اصطدم بعقبات جوهرية، ليس فقط بيروقراطية، بل بنيوية، فى دولة مركزية تاريخيًا منذ نشأتها الموحدة فى عهد مينا، وهو ما يفسر الصعوبة البالغة فى تمرير أى نموذج لامركزى حقيقي، سواء فى الإيراد أو الإنفاق، وهو ما قد يساهم فى حالة الرفض المجتمعى لها إذ لا ترتبط بأثر فعلى على المجتمع المحلى.

ويتجلى ضعف التركيز على الضريبة العقارية فى الواقع المصرى من خلال مجموعة من الأبعاد المؤسسية التى تراكمت عبر الزمن، وأفرزت نظامًا هشًّا عاجزًا عن مواكبة التطورات العمرانية والاقتصادية.

فى الوقت ذاته، يعانى النظام من قصور واضح فى أدوات التقييم العقاري، إذ لم يتم تفعيل آلية التقييم الجماعى الآلى (Automated Mass Appraisal) التى تتيح تحديث القيم السوقية للعقارات وفقًا لمعايير ديناميكية مثل الموقع والنشاط والمساحة، وهى أداة معتمدة فى العديد من الدول لتحسين الكفاءة والشفافية.

ويُفاقم هذا الضعفَ تعددُ الجهات المنوط بها إدارة وتحصيل الضريبة، حيث تتوزع الصلاحيات بين مصلحة الضرائب العقارية، والمحافظات، ومجالس المدن، فى ظل غياب تنسيق فعّال أو إطار مؤسسى موحد، ما يؤدى إلى تآكل الكفاءة وتكرار الإجراءات وخلل فى التوجيه.

وفى تقديرى، فإن إحداث تحوّل فعلى فى أداء الضريبة العقارية لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال مسار إصلاحى متكامل يسير على ثلاثة محاور مترابطة، أولها، تفكيك المركزية المالية جزئيًا، عبر إعادة توجيه الجزء الأكبر من حصيلة الضريبة - بنسبة لا تقل عن 80 فى المائة - إلى المجالس المحلية، بما يتيح لها الاستجابة المباشرة لاحتياجات المواطنين، ويُعزز من العلاقة بين الضريبة والخدمة، على أن يتم ذلك وفق معايير توزيعية عادلة تراعى الفوارق التنموية بين المناطق.

المحور الثانى يتعلق بإصلاح أدوات التقييم العقاري، وهى الحلقة الأضعف فى المنظومة الحالية، من خلال تبنّى نظام تقييم جماعى دورى يعتمد على قواعد بيانات محدثة، ويستفيد من تقنيات الذكاء الاصطناعى فى تقدير القيم السوقية، ويتطلب هذا الإصلاح أن تُدار منظومة التقييم من خلال جهة مستقلة تتمتع بالكفاءة والشفافية، بما يضمن تحييد المصالح ويمنع التلاعب أو التقديرات المجحفة وأيضا يغلق باب المحسوبية أو الرشاوى.

أما المحور الثالث، فيتمثل فى ضبط الإعفاءات وتوسيع الوعاء الضريبي، وذلك عبر مراجعة شاملة للإعفاءات الحالية التى باتت تفرغ الضريبة من مضمونها، لا سيما تلك الممنوحة لوحدات غير مستخدمة أو لأصول ذات طابع تجارى مصنفة على أنها سكنية، وكل هذا بالطبع مع الإبقاء على الإعفاء الكامل للسكن الأساسى للفئات المتوسطة ومحدودة الدخل، حفاظًا على البعد الاجتماعى للضريبة.

وتشير التقديرات الدولية، بما فى ذلك نماذج البنك الدولى وتجارب الدول ذات الأوضاع الهيكلية المماثلة لمصر، إلى أن تطبيق ضريبة عقارية فعالة - تقوم على تقييم دورى وربط محلى لحصيلة الإيراد - يمكن أن يولد عائدًا يتراوح بين 0.8 فى المائة إلى 1.2 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالي.

وبالاستناد إلى التقدير الرسمى للناتج المحلى الإجمالى للعام المالى «2025/2026»، والذى يقترب من 20 تريليون جنيه، فإن هذه النسبة تعنى إيرادات سنوية محتملة تتراوح بين 160 إلى 240 مليار جنيه، أى ما يعادل نحو 200 إلى 300 ضعف الحصيلة الحالية، وهو ما يكشف بوضوح عن حجم الفاقد الضريبى الناجم عن غياب التفعيل المؤسسى الحقيقى لهذه الأداة.

ختامًا، فإن الضريبة العقارية لم تعد مجرد وسيلة لتحصيل موارد إضافية، بل غدت مدخلًا سياسيًا وتنمويًا لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة ومواطنيها، وبين المركز والأطراف، وبين الممول ومتلقى الخدمة، ويكتسب هذا البُعد أهميته فى السياق المصرى تحديدًا، حيث يمكن لتطبيق فعّال وعادل لهذه الضريبة أن يحقق العدالة الضريبة، ويُمكّن الوحدات المحلية من قيادة مسارات التنمية، وتحمل مسئولية تقديم الخدمات على نحو أكثر قربًا وارتباطًا بالاحتياجات الفعلية للسكان.

فى المقال القادم من السلسلة، نتناول «ضريبة الدخل التصاعدية»: من حيث حدودها الدستورية، قدرتها على معالجة التفاوت، وتجارب الدول فى تعزيز دورها دون الإضرار بالحوافز الإنتاجية.

 
 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة