فى شقة أنيقة بعمارة حديثة فى حى الزمالك، استقبلنا الشيخ مصطفى إسماعيل، وزوجته السيدة فاطمة عمر وجلس المقرئ الكبير يروى قصته.. من أولها.. قال:
نشأت فى قرية ميت غزال بمديرية الغربية وحفظت القرآن الكريم فى كتّاب القرية، ولم يكن فى أسرتى مَن اشتغل مقرئًا من قبل، ولم تخطر لى هذه الفكرة من قبل، حتى انتقلت إلى معهد طنطا الدينى، وبينما كنت أستذكر دروسى ذات يوم فى الجامع الأحمدى، جعلت أقرأ بعض آيات الذكر الحكيم، وإذا بالحاضرين ينتبهون لى، ويطلبون منى أن أرتّل القرآن ترتيلا.. وفى النهاية نصحنى الجميع بأن أحترف تلاوة القرآن.. وكان هذا فى سنة 1935، وكنت قد حصلت على الشهادة الابتدائية والشهادة الثانوية.. واختمرت عندى الفكرة، وبدأت أعمل مقرئًا، وكانت أول مرة دُعيت للقراءة فيها، احتفالا بذكرى السيد حسين القصبى فى طنطا، وسمعنى هناك الشيخ درويش الحريرى والشيخ سيد موسى، فأشارا علىّ بالذهاب إلى مصر، حيث أنال حظّى فيها.. وفى مصر أصبت نجاحًا كبيرًا ذاع معه اسمى، وظفرت بحظ كبير بعد أن قرأت فى الإذاعة سنة 1944، وعُينت مقرئًا لمسجد الأزهر سنة 1945.
وكيف تسير بك الحياة الزوجية؟
- لست أجامل زوجتى فيما سأقول، لأنها تجلس معنا، وإنما هى الحقيقة أذكرها.. فزوجتى سيدة قانعة صابرة، ليست من أولئك اللواتى ينكرن على أزواجهن اهتمامهم بعملهم وانصرافهم إليه فى أكثر أوقاتهم، فكثيرا ما كنت أضطر لقضاء شهر رمضان كله بعيدا عن البيت، فكانت لا تظهر الضيق أو التبرم، وإنما كانت تشجعنى وتشدّ من عضدى.
متى تزوجتما؟
سنة 1935 وكنت فى الرابعة والعشرين من عمرى وهى من مدينة دمياط.. ولذلك فهى مدبرة و”ست بيت” بمعنى الكلمة، وقد أنجبنا ستة أولاد، أكبرهم اسمها “إنجى” وهى فى الثانية والعشرين من عمرها، متزوجة من الصاغ أركان حرب حسنى طاهر الضابط بالقوات المسلحة، وهى تقيم معه الآن فى منطقة غزة، ولى ولدان فى جامعات ألمانيا.. أحدهما يدرس الطب والثانى يتعلم الهندسة، ولى ابنتان أخريان فى الجامعة الأمريكية، وطفل فى المرحلة الإعدادية.
هل سافرت إلى الخارج؟
سافرت إلى سوريا ولبنان والسعودية. وأحمل نيشان الأرز من لبنان، والاستحقاق من سوريا.
كم يبلغ دخلك الشهرى؟
بلاش السؤال ده.. ربنا يجعل كلامنا خفيفا على مصلحة الضرائب.
هل تسبب لك الشهرة نوعًا من المضايقات؟
وهنا أجابت السيدة حرمه.
تسبب لى أنا.. فبين الحين والحين يدقّ جرس التليفون، وإذا واحدة تحدثنى قائلة “أنتى نايمة فى العسل.. دا جوزك اتجوز عليكى.. هو مش كان بايت بره إمبارح؟.. أهو كان بايت عند العروسة”.
وهكذا لا تنقطع مثل هذه المخابرات عنى.. مع أننى على تمام الثقة من زوجى.. ولذلك فإنه يسمع هذا الحادث لأول مرة معكم الآن.
وعدت أسأل الشيخ:
ما هو أطرف حادث وقع لك؟
كنت فى بيروت عندما دعانى أحد الأصدقاء اللبنانيين لتناول طعام العشاء فى بيته.. وهناك كانت إحدى السيدات تراقبنى طول الوقت، وكأنما تريد أن تقول لى شيئًا، ولكنها تحجم كثيرا.. ولكنها فجأة اقتربت منى، وقالت لى همسًا: “أرجوك يا سيدنا الشيخ.. كبّسنى.. وسال العرق باردا على وجهى، وظننت أن السيدة قد أصابها مسّ من الجنون.. إذ كيف تسأل رجلا أجنبيا مثلى أن يكبّسها (بتشديد الباء) أى يدلّكها.. وحرت ماذا أفعل، ولم يخرجنى من حيرتى إلا مضيفى فقد همست فى أذنه بما قالت السيدة، وإذا هو ينفجر ضاحكا، ويقول: “كبّسنى عندنا يعنى ارقينى.. إنها تريدك أن تقرأ على رأسها بعض الآيات الكريمة للتبرك”.
ما هو أجمل يوم فى حياتك؟
كانت ساعة.. وليست يومًا.. ساعة الصفر .. عندما أعلنت الثورة سنة 1952، فقد كنت أطرق باب الاستديو فى الإذاعة لأقرأ القرآن الكريم كالعادة، عندما فوجئت بالقائم مقام أنور السادات يجلس إلى الميكروفون ويذيع البيان الأول للثورة.. وأذعت القرآن الكريم فى ذلك اليوم، وقد غمرتنى سعادة لا حد لها..
وما الذى تتمناه من دنياك؟
الصحة والستر.. وأتمنى أيضا أن يوفّق الله أولادى فى دراستهم..
وقبل أن ننصرف أبت السيدة فاطمة عمر زوجة الشيخ مصطفى إلا أن تسمعنا على البيانو شيئًا من عزفها.. واختارت مقطوعة “اطلب عينى” التى تغنيها ليلى مراد .. فأبدعت فى عزفها، ووقف الشيخ وولده الأصغر وحيد يستمعان إليها، بينما المقرئ الكبير يهزّ رأسه فى حركات رتيبة مع الأنغام. وعندما انتهت قال لها “أحسنتِ”.
وفى حوار آخر مع الشيخ مصطفى إسماعيل نشر فى شهر يناير 1967.. سألناه عن أهمية الراديو؟
الراديو حارب المقرئين فى رزقهم، فقد كان رمضان أيام زمان شهر الرزق العميم للمقرئين يفتح فيه الناس بيوتهم بعد الإفطار حتى السحور ويُتلى القرآن ويقتصد المقرئون من حصيلة رمضان ما يفكّ الكرب على مدار العام. ولو توقفت وزارة الأوقاف عند مجرد الاكتفاء بإذاعة القرآن فى الراديو والتلفزيون لكانت طامة كبرى.. إلا أنها الآن تجد مكانًا لكل مقرئ، ليقرأ، وتجده له فى الخارج أو فى مصر. ورمضان أكثر إشراقًا بلياليه إذا كان موقعه فصل الصيف حين يحلو السهر.
والشيخ مصطفى إسماعيل لا ينسى مهراجا من الهند له معه قصة قصيرة:
كان الشيخ مصطفى إسماعيل عائدًا من المغرب فتوقف فى باريس، وقرأ فى جامعها، وما أن همّ بالخروج من المسجد حتى وجد مَن يعترض طريقه ويرتمى على الأرض تحت قدميه ويقبّل ركبتيه ويديه.. حاشا لله.. مَن أنت؟ فرفع الرجل رأسه، وقال للشيخ مصطفى إسماعيل إنه مهراجا من الهند، وأنه قد ارتكب معاصى كثيرة ولا يكاد يسمع تلاوة القرآن حتى يسيطر عليه الشعور بالذنب، وأنه يريد التوبة.. وبدأ الرجل يبكى.. أما الشيخ مصطفى إسماعيل فقد سحبه من يده ليقف، وقال له:
مَن تاب تاب الله عليه. والآية تقول: «إلا مَن تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما»، وكفكف الرجل دموعه، وهو يقول للشيخ مصطفى إسماعيل:
فهل تعدنى بمغفرة الله حقيقية؟
فقال الشيخ مصطفى:
الله سبحانه وتعالى وعدنا بها جميعا إن كانت توبتنا صادقة.
فعاد الرجل إلى البكاء، وهو يقول:
لا بد أن تعدنى بأن الله سيغفر لى..
وأحسّ الشيخ مصطفى أن الرجل يريد طوق نجاة فألقى به إليه قائلا:
أعدك...
وفى اليوم التالى ترك المهراجا للشيخ مصطفى حقيبة مليئة بالهدايا فى الفندق!.
فى باريس أيضا شاهد أسرة تلتف حول الراديو بعد أن وضعته فى اتجاه القبلة.. وكانت الأسرة تجلس بكامل أفرادها فى خشوع وهم يسمعون المصحف المرتل، ومع الأسرة أصدقاء جاءوا ليتدارسوا القرآن وقد دعوا الشيخ مصطفى إسماعيل لهذا الغرض. وقال لهم إنه سعيد بما يرى ويسمع فلم يرد عليه أحد بكلمة.. فظنهم لا يتحدثون والقرآن يُتلى وأكبر منهم هذا.. فلما انتهى القرآن حدّثهم مرة أخرى بالعربية، فتأكد له أنهم لا يعرفون حرفًا واحدًا مما يقول. وقام الأصدقاء بالترجمة بينه وبين أفراد الأسرة المسلمة، وإذا بأحدهم ينشر المصحف بين يديه ويقرأ فيه بعربية سليمة.. ولكنه لا يعرف معنى ما يقول.. قال لى الشيخ مصطفى إسماعيل:
وهذا المشهد قاسم مشترك بين عدد كبير من البلاد الإسلامية فى إفريقيا وآسيا. تجد فيها المسلمين يحفظون القرآن ولكنهم لا يعرفون جيدًا معانيه. ولا يعرفون غير عربية القرآن فى آياتها.. ولهذا أطالب بأن يكون شهر رمضان شهر تدريس اللغة العربية فى البلاد الإسلامية. يجرى هذا بالاتفاق مع حكوماتها ولا أظنها إلا راغبة فى هذا.. إن نشر اللغة العربية مع القرآن يقوّى أواصر المحبة بين العالم الإسلامى، فوحدة اللغة أساس فى وحدة المشاعر والعواطف.
وعند الشيخ مصطفى إسماعيل أوسمة كثيرة. أحرج موقف صادفه عندما التقى به سامى الصلح فى لبنان فنظر سامى الصلح وكان رئيسًا للوزراء إلى عمامة الشيخ مصطفى إسماعيل، وقال له بلهجته اللبنانية الظريفة:
يا شيخ مصطفى بدى عمتك!
فخلعها وقدمها إليه. فثبتها على رأسه وقال محبورًا
تمام والله.. كأنها معمولة من شاني
فضحك الشيخ مصطفى بينما استطرد سامى الصلح:
ومن شأن هيك أما بخدها.
ووقع الشيخ مصطفى إسماعيل فى الحرج، وقال لسامى الصلح إنه لم يتعود أن يسافر بعمامتين، وأنه سيأخذ هذه حتى يصل إلى القاهرة فيبعث إليه بواحدة جديدة.
وبر الشيخ مصطفى إسماعيل بوعده..
على أنه لا يسافر الآن إلا ومعه عمامة «احتياطية» للطوارئ!