ويوماً وراء يوم، تثبت الأحداث المتتابعة، والوقائع المتتالية أن مصر تُدير سياسة شريفة فى زمن عز فيه الشرف، وتحترم التزاماتها، ولها «وجه واحد»، فهى لا تخضع للابتزازات الحقيرة، ولا تخشى من المخططات الخسيسة، ومستعدة دائمًا لدفع ثمن مواقفها النبيلة، وتمسكها بالحق، والمثال الواضح هنا دورها المحورى على مدى أكثر من عام ونصف العام فى التصدى لمخطط «التهجير» ومحاولة حكومة المتطرفين فى تل أبيب تصفية القضيةالفلسطينية إلى الأبد، وكتابة شهادة وفاتها إلى غير رجعة.
ومنذ أحداث 7 أكتوبر 2023 نبهت القاهرة إلى خطورة استمرار العمليات العسكرية لجيش الاحتلال، وفرض التجويع على الشعب الفلسطينى، وتحويل قطاع غزة إلى مكان غير قابل للحياة لإجبار الأهالى على مغادرةأراضيهم، ثم تلاحقت الرسائل المصرية من خلال الرئيس السيسى فى كل المحافل الدولية والاجتماعات الثنائية والمؤتمرات الصحفية مع كبار الرؤساء والزعماء تأكيدًا على أن «التهجير» خط أحمر، وأنه لم يحدث ولن يحدث أبدًا على حساب مصر، مع اصطفاف شعبى كامل تأييدًا لموقف القيادة السياسية، وشاهد العالم أجمع، توافد المصريين فرادى وجماعات على مدينة العريش رفضًا لتصفية القضية الفلسطينية.
والأمر المؤكد أن هذا الموقف المصرى الثابت فى حماية حقوق الشعب الفلسطينى، والإصرار على إقامة دولته المستقلة وفقًا لقرارات الشرعية الدولية لم ولن يتغيرمهما كانت ضغوط دولة الاحتلال وحلفائها فى الغرب والشرق، سواء بصناعة الشائعات ليل نهار ضد القاهرة للإساءة إلى دور المفاوض المصرى، أو بنسج خيوط الحصار الاقتصادى لإجبارها على السكوت فى أقل السيناريوهات لتمرير «خطة التهجير الملعونة» بتشتيت أهالى غزة فى عدة دول، خصوصًا أن القيادة السياسية رفضت «تصفير الديون» والحصول على مئات المليارات من الدولارات للقبول بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء.
وتأكيدًا على النهج المصرى فى ممارسة السياسة بـ«شرف»، التى تحترم فيها القاهرة التزاماتها الأصيلة عبر التاريخ نحو قضية القضايا، وصون مقدرات الشعب الفلسطينى، وفى نفس الوقت التعامل بـ«وجه واحد» معالجميع، وعلى الهواء مباشرة أمام الكل وليس فى الغرف المغلقة، قال الرئيس السيسى فى كلمته بالقمة العربية الـ34 بالحرف الواحد: «أكرر هنا، أنه حتى لو نجحت إسرائيل، فى إبرام اتفاقيات تطبيع مع جميع الدول العربية، فإن السلام الدائم والعادل والشامل فى الشرق الأوسط، سيظل بعيد المنال، ما لم تقم الدولة الفلسطينية، وفق قرارات الشرعية الدولية»، ويا لها من رسالة واضحة، ونصيحة عن خبرة، ومشورة عن دراية بمسار الصراع العربى الإسرائيلى، على قادة إسرائيل وشعبها أن يفهموها، وأن يكون منهم رجل رشيد يُعيد الأمور إلى نصابها، ويضع حدًا لتطرف وزراء الدم فى حكومة مجرم الحرب نتنياهو وشلته المجرمين من بن غفير إلى سيموتريتش.
وعلى ذكر القمة العربية، توقف الكثير من المحللين وحتى المواطنين عبر «السوشيال ميديا» فى كل الأقطار العربية وليس مصر فقط أمام رسائل الرئيس السيسى للقادة العرب الحاضرين وعبر الشاشات ومنها تلك العبارة الذهبية: «إن الأمانة الثقيلة التى نحملها جميعًا، واللحظة التاريخية التى نقف فيها اليوم، تُلزمنا بأن نعلى مصلحة الأمة فوق كل اعتبار، وأن نعمل معاً ـ يدًا بيد ـ على تسوية النزاعات والقضايا المصيرية، التى تعصف بالمنطقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية؛ القضية المركزية التى لا حياد فيها عن العدل، ولا تهاون فيها عن الحق».
وهناك اتفاق بين كل الآراء سواء المتخصصين أو رجل الشارع العربى على أن كلمة الرئيس هى الأقوى عن جدارة بين كل الزعماء، وصوته الأعلى عن حق بين كل رؤساء الوفود، وترجمة ذلك هو حالة الاحتفاء غير المسبوقة بها على كل المنصات، وتصدرها التريند على مدى عدة أيام، بل إن بعض المعارضين لسياسات الإصلاح الاقتصادى للحكومة تحولوا إلى مؤيدين بشدة للرئيس السيسى؛ تقديرًا لموقفه الحاسم وعرفانًا بدوره الصارم فى الدفاع عن قضية القضايا العربية ـ القضية الفلسطينية ـ واحترامًا لسياسته المستمرة فى مساندة العواصم العربية التى تتعرض لمخاطر فى أمنها القومى.
ويحسب للدولة المصرية وقيادتها الحكيمة قوة أعصابها، وطول صبرها على المكاره التى نالتها من أهل الشر وحلفائهم فى عدة دول نتيجة لدعمها للمؤسسات الشرعية والجيوش الوطنية لمنع تلك الدول من السقوط من حالق، والدخول فى دوامة الصراعات الهدامة من لبنان إلى اليمن، ومن سوريا إلى ليبيا وصولاً إلى السودان، ورغم ضراوة الاستهداف، وشدة الهجوم لم تنسحب مصر من المشهد، ولم تتخلَ عن الشعوب، بل تساند وتدعم، مع الحفاظ على مسافة تضمن عدم التدخل فى الشئون الداخلية، وبلا أى مصلحة او منفعة، فلا غاية ولا هدف إلا الحفاظ على بنية الدول الشقيقة، وإنقاذها من براثن الفتنة وشرور الإرهاب، وكما يقول الرئيس السيسى دائمًا: «مصر لا تمد يديها إلا للتعاون والبناء والتنمية، ونحن لن نتغير عن سياستنا مهما كانت التحديات ونقف على أرض صلبة، ونستطيع أن نواجه الدنيا بأكملها بصلابة ووحدة المصريين».
وجدد الرئيس السيسى فى «قمة بغداد» الحديث حول معالم تلك السياسة المصرية العظيمة بلفت الأنظار إلى أن الأمة العربية تواجه تحديات مصيرية، تستوجب الوقوف صفًا واحدًا لمواجهتها، بحزم وإرادة لا تلين، ومنها محنة السودان، وما يمر به من منعطف خطير، يهدد وحدته واستقراره، وبالتالى من الضرورة العمل العاجل، لضمان وقف إطلاق النار، وتأمين وصول المساعدات الإنسانية، والحفاظ على وحدة الأراضى السودانية ومؤسساتها الوطنية، ورفض أى مساعٍ، تهدف إلى تشكيل حكومات موازية للسلطة الشرعية، أما فى سوريا لا بد من استثمار رفع العقوبات الأمريكية، لمصلحة الشعب السورى، وضمان أن تكون المرحلة الانتقالية شاملة، بلا إقصاء أو تهميش، والمحافظة على الدولة السورية ووحدتها، ومكافحة الإرهاب وتجنب عودته أو تصديره، مع انسحاب الاحتلال الإسرائيلى من الجولان، وجميع الأراضى السورية المحتلة.
وكان لبنان حاضرًا فى الرؤية المصرية الجامعة، من خلال تشديد الرئيس السيسى على أن السبيل الأوحد لضمان استقرار بيروت يتطلب الالتزام بتنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية، وقرار مجلس الأمن رقم «1701»، وانسحاب إسرائيل من الجنوب اللبنانى، واحترام سيادة لبنان على أراضيه، وتمكين الجيش اللبنانى من الاضطلاع بمسئولياته، وأيضًا روشتة إنقاذ ليبيا تتضمن استمرار مصر فى جهودها الحثيثة، للتوصل إلى مصالحة سياسية شاملة، وفقًا للمرجعيات المتفق عليها، من خلال مسار سياسى ليبى، يفضى إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة، تمكن الشعب الليبى من اختيار قيادته، وتضمن أن تظل ليبيا لأهلها، مع خروج كافة القوات والميليشيات الأجنبية من ليبيا.
وفى تشخيص للحالة اليمنية، أشار الرئيس السيسى إلى أن أمد الصراع طال، وحان الوقت لاستعادة هذا البلد العريق توازنه واستقراره، عبر تسوية شاملة تنهى الأزمة الإنسانية على مدى سنوات، وتحفظ وحدته وتحمى مؤسساته الشرعية، مع الإشارة إلى ضرورة عودة الملاحة إلى طبيعتها، فى مضيق باب المندب والبحر الأحمر، وتهيئة الأجواء للاستقرار، والبحث عن الحلول التى تعود بالنفع على شعوبنا، وهنا لا يفوتنى أن القاهرة تحملت ما تنوء به الجبال فى التعامل مع جماعة الحوثى نتيجة وقوفها وراء خسائر قناة السويس فى ظل مهاجمة السفنوالحاويات وهى فى طريقها للمجرى الملاحى، ورغم مطالبات البعض بالتدخل لوقف هؤلاء المتآمرين عند حدهم، لا تريد الدولة المصرية أن ترفع سلاحها فى وجه من يدّعى نصرة القضية الفلسطينية أو ينتمى إلى بلد عربى شقيق، كما أن الصومال حجز مكانه فى خريطة الأولويات المصرية، وهذا تجسد فى مطالبة الرئيس السيسى فى كلمته بقمة بغداد بأهمية مواجهة أية محاولات للنيل من سيادته، ودعوة كافة الشركاء الإقليميين والدوليين، لدعم الحكومة الصومالية، للحفاظ على الأمن والاستقرار.
الخلاصة، إن مصر دائمًا حصن العروبة، وحامية استقرار عواصمها، وتعتبر ذلك جزءًا لا يتجزأ من أمنها القومى، ويكفى عبارة «مسافة السكة» التى يرددها الرئيس السيسى عند تعرض أى عاصمة للخطر، فضلاً عن نهر المساعدات الذى يتدفق فورًا وقت الحاجة عن طيب خاطر ورضاء نفس.
حمى الله مصر وشعبها وقيادتها
ومؤسساتها الوطنية من كل سوء.

