ويتجلى أمن الطاقة كبوابة للعبور إلى المستقبل والانخراط فيه، والمضى نحو الجمهورية الجديدة، ولا شك أن أمن الطاقة يشكل الرابط بين الأمن القومى وتوافر الموارد الطبيعية المستهدفة للطاقة، حيث أصبح الوصول إلى الطاقة الرخيصة نسبيًا ضروريًا لتشغيل الاقتصادات الحديثة.
شاهد العين يقول إن أزمة الطاقة التى يشهدها العالم حاليًا تؤكد صحة رؤية مصر واستراتيجيتها بشأن تنويع مصادر الطاقة، وأن هناك قدرة على استقراء مستقبل الطاقة وتعزيز دورها الحيوى والمحوري، بالإضافة إلى جهودها الحثيثة فى معالجة مشكلات التغيرات المناخية.
لقد سعت مصر إلى أن تكون رائدًا طاقويًا بامتياز، فى إطار تحويل مصر إلى مركز إقليمى وعالمى لتداول الطاقة، سواء التقليدية أو المتجددة، مع كفاءة فى التشغيل. ورغم كل الرياح المعاكسة عالميًا بفعل التوترات الجيوسياسية وتأثيرها على أجندة الاقتصادات فى العالم كله، استطاعت أن تُحرز تقدمًا ملحوظًا فى هذا المجال، ووضعت استراتيجية واعدة نحو عناصر القوة الضاربة، بمحاور أساسية وضعتها وزارة البترول والمهندس كريم بدوى والقائمون على هذا الملف الاقتصادى المهم، وترتكز على: تلبية احتياجات المواطنين من المواد البترولية، بالتركيز على أنشطة البحث والاستكشاف، وتعظيم الاستفادة من الثروات الطبيعية عبر منظومة التكرير والبتروكيماويات لخلق قيمة مضافة، وتحقيق انطلاقة لقطاع التعدين وتعظيم القيمة المضافة، وتعزيز التعاون الإقليمى لجذب الاستثمارات، وخلق بيئة استثمارية جاذبة، مع الحفاظ على السلامة وكفاءة استهلاك الطاقة وخفض الانبعاثات، العمل كفريق واحد مع قطاع الكهرباء والطاقة المتجددة لتوفير مزيج من الطاقة والاستفادة من موقع مصر الجغرافى لإنتاج الهيدروجين الأخضر.
لا شك أن الحديث عن ملف الطاقة والحلم المصرى حديث يدعو إلى الفخر والرفعة، فالعمل لا يتوقف، والأحلام كبيرة، والإنجازات لا تخطئها عين. ولذلك، سعت مصر إلى تنمية واستغلال ما لديها من ثروات طبيعية، وتحولت من بلد يكافح من أجل تدبير نفقات استيراد الغاز إلى لاعب أساسى على المسرح الجيوسياسى العالمى كبلد مؤثر. ولذلك، سعت الدولة بعد رحلة شاقة من العجز والاستيراد إلى مرحلة الاكتفاء الذاتى فى عام 2018، والانطلاق نحو حجز مقعد مبكر فى نادى الكبار للطاقة.
ولولا حالة التناقص الطبيعى للآبار والتدابير المالية، لما كنا نحتاج حاليًا إلى الاستيراد، لكن ظاهرة التناقص فى إنتاج الحقول أمر طبيعي، حدث فى آبار ألاسكا بأمريكا، وحقل الغوار بالسعودية، ومن هنا كانت الفرصة البديلة بسفن التغييز العائمة.
الغاز أداة ثقل اقتصادية وسياسية واجتماعية على المستويين الإقليمى والدولي. لقد غيّرت مصر قواعد اللعبة الدولية، وأصبحت تمثل نقطة جديدة فى سوق جيوسياسى الغاز، فمنذ تولى الرئيس السيسى مقاليد الرئاسة، يحظى هذا القطاع المهم باهتمام كبير من قبل القيادة السياسية، التى تستشرف لمصر مكانة هى تستحقها بالفعل. فقد استطاعت مصر استخدام أدواتها الجيواقتصادية، وهو ما تعلمه العالم على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، ألا وهو استخدام الثروات الطبيعية فى حماية الجبهة الداخلية وتعزيز سياستها الخارجية.
كما استطاعت مصر، بفضل قيادتها الرشيدة التى أدركت أهمية ملف الطاقة، أن تضع استراتيجية أثمرت عن شعار «الجاهزية»، وهو: ضخ استثمارات هائلة فى هذا القطاع، عن طريق الانخراط فى كيانات كبرى، سواء خارجية أو محلية، وحسن إدارة هذا الملف محليًا وعالميًا، وتبنى استراتيجية التحول إلى مركز إقليمى للطاقة قائمة على تنمية الحقول والبحث، وإبرام تعاقدات مع كبريات الشركات العالمية فى هذا المجال، ومواجهة التناقص الطبيعى فى إنتاج الآبار.
وانخرطت مصر فى ملف جديد، وضعته مجموعة العمل بقيادة وزير البترول الحالى والقائمين على هذا الملف، فى الاشتغال على عدة سيناريوهات: أولها: استقرار بيئة الاستثمار، ثانيا: الإصلاحات المالية، بتوفير الحزم المالية الخاصة بسداد مستحقات الشركاء الأجانب طبقًا للجدول الزمني، خصوصًا الفواتير الشهرية، ثالثا: شروط تجارية مرنة، خصوصًا فى المناطق البكر، رابعا: تسهيل فرص الوصول إلى المناطق المطروحة، عن طريق بوابة مصر الجيولوجية، لضمان الحوكمة والشفافية، ووجود محفظة استكشافية قوامها 61 فرصة استكشافية، خامسا: تعظيم الاستفادة من الشركات المتعددة، سادسا: التكامل مع الشركاء لتعظيم الاستثمارات، سابعا: إعادة تجميع مناطق الاكتشاف لسهولة الربط على الشبكة، ثامنا: دعوة رأس المال الوطنى للمشاركة.
لقد وضعت مصر نصب أعينها خطة طموحة للتحول إلى مركز إقليمى للطاقة، وتواصل طريقها نحو العالمية ودخول قائمة أكبر موردى الغاز المُسال للأسواق الكبرى، والمساهمة فى تأمين احتياجات الأسواق العالمية، خصوصًا مع تنامى الطلب فى الأسواق الأوروبية على الغاز المُسال.. لذلك، وظفت مصر أدواتها الجيواقتصادية، فمصر تمتلك بنية تحتية متطورة، وبنية تشريعية، وطاقة استيعابية، وإرادة سياسية، ووفرت التمويلات اللازمة، وتقف معامل الإسالة بإدكو ودمياط شامخة، ومرابطة على البحر المتوسط، وظهيرها القوى من الموانئ التى تؤهلها للقيام بهذا الدور، إلى جانب وحدات نقل الغاز الجاهزة.
لقد أعدت مصر نفسها، وأدركت مبكرًا أهمية ملف الطاقة وامتلاك عناصر القوة الضاربة، فقامت بإطلاق استراتيجية تقوم على جذب الاستثمارات فى مجال البحث والاستكشاف عن الغاز والنفط، وترسيم الحدود مع قبرص (2014)، ومع السعودية (2016)، ومع قبرص واليونان (2020)، وقامت، عن طريق بوابتها الجيولوجية التى تُعد زاوية رئيسية للاستفادة من مواكبة التطورات العالمية والتحول الرقمي، بتكثيف طرح المزايدات العالمية، والتى أسفرت عن توقيع عدد كبير من الاتفاقيات للبحث والاستكشاف وتأكيد الاحتياطيات المرجحة، سواء فى البحر المتوسط أو البحر الأحمر.
منتدى غاز شرق المتوسط
جاء المنتدى ليُعبّر عن رؤية مصر وقائدها، الذى تساءل العالم مع اكتشافات المتوسط: ماذا سيفعل الرئيس السيسي؟ فالطاقة دائمًا وسيلة لتأجيج الصراعات، ولكن استطاع الرئيس أن يحوّل هذا الصراع إلى وسيلة لخدمة السلام الاقتصادى فى البحر المتوسط والمنطقة بأسرها، لتكون مصر هى جزءًا من حل الأزمات، فهى لا تبحث عن دور، وإنما دائمًا الدور هو من يبحث عنها.
وجاء توقيت أن تكون مصر جزءًا من حل مشكلة أوروبا على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، ولذلك جاء توقيت هذا المنتدى كابتكار إبداعى مصرى فى سوق الغاز العالمي، وهو نقطة محورية وعلامة فارقة تعزز قدراتها الإنتاجية والتصديرية، وبالرغم من أن حقل “ظُهر” كان سببًا فى حالة الاكتفاء الذاتى فى عام 2018، إلا أن التناقص الطبيعي، والتأخر عن سداد مستحقات الشركاء الأجانب، قلّل من الإنتاج، ومن هنا، بدأت سفن التغييز العائمة كحل استراتيجى لجأت إليه الدولة المصرية، بقدرة تصل إلى 2.250 مليون طن يوميًا من الغاز الطبيعي، حتى تُلبّى احتياجات البلاد من الطاقة لتشغيل محطات الوقود، ولا تلجأ الدولة إلى تخفيف الأحمال لضمان الاستدامة.
لقد كانت هناك خارطة طريق لاقتصاد أكثر تنافسية فى مجال الطاقة، فالمردود الإيجابى يتمثل فى زيادة تنافسية الاقتصاد من خلال المزيد من الاستثمارات.. ويسهم القطاع فى اجتذاب 90فى المائة من تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر، بالإضافة إلى توفير الطاقة اللازمة لعملية التنمية، بوضع المواطن المصرى فى قلب عملية التنمية.. فالمردود هو زيادة الصادرات، وتوفير فرص العمل، وزيادة معدلات نمو الاقتصاد القومي، وتحقيق الاستدامة، وتوفير مواد الطاقة اللازمة من المنتجات البترولية.. زيادة حصيلة الإنتاج بضم إنتاج حقول أتول، نور، ونورس، ولييرا، وبشروش، وريفين، وغيرهما، بالإضافة إلى حقل “النرجس” الذى يتم ضمه إلى الإنتاج مرحليًّا، مما شجّع على زيادة نطاق البحث والاستكشافات.
ما زال الغاز المصرى يكتب التاريخ من جديد، ويُعيد بناء جغرافيا المنطقة، فمن بين عديد من الأطراف الشرق أوسطية، تخوض مصر منافسة صادمة لإدراك حلم التحول إلى مركز إقليمى للطاقة، ولكنها وحدها، مصر، بين قاب قوسين أو أدنى، لأنها تُعيد تموضعها الجيوسياسى على خارطة المنطقة والعالم، نتيجة لمجهودها الجبار، الذى تأطّر فى استراتيجية متكاملة لاستنهاض قطاع الطاقة المصري، بدءًا من الغاز الطبيعي، وصولًا إلى البتروكيماويات، التى تمثل الاستغلال الأمثل لثروة مصر من الغاز الطبيعي، استغلالًا لحزمة من المقومات التى تتمتع بها مصر، والذى يحتاج منا إلى حديثٍ آخر.
سياسة الاكتشافات
أثبتت الدولة المصرية موثوقيتها والاعتماد عليها، بطرح مساحات كبيرة فى البحر المتوسط، أكثر المناطق المتاحة، لتقديم بديل استراتيجى له اعتبارات أهمها: تعزيز الكميات المُكتشفة، زيادة قدرات التسييل، وزيادة الاستثمارات فى مجال البحث والاكتشاف، لقد آمنت الدولة المصرية أن لا تنمية ولا تطور ولا حداثة بدون تطور الطاقة، التى هى أساس وشرط ضرورى للتنمية المستدامة.. سنوات من الجهود المدروسة بذلتها مصر آتت أُكلها، ولا شك أن هناك سرًا فى هذا التحول الذى قفز على الزمن وتخطى كل السنوات.
وعودًا على بدء، فإن الحديث عن جهود الدولة فى عمليات الحفر والاستكشاف، هو ثمرة الجهد المبذول فى قطاع الاتفاقيات البترولية، لتنفيذ استراتيجية توسيع مناطق ورقعة الاستكشافات، سعيًا لتحقيق الاستغلال الأمثل لموارد مصر وتعظيم الاحتياطات المُضافة، وتلبية احتياجات السوق المحلية، وزيادة الصادرات المصرية من الغاز. ولذلك، ضخت الدولة استثمارات جديدة قيمتها 1.2 مليار دولار حتى عام 2025، خلال ثلاث سنوات، لتنمية الحقول.
لقد رسم الغاز المصرى خريطة الشرق الأوسط الجديدة، وعلينا أن نذكر حقيقة مهمة : أن الأهمية ليست فى حجم الكميات الموجودة فقط، ولكن أيضًا فى قدر أهمية موقعها على مساحة الجغرافيا الكونية لجمهورية مصر العربية. وفى ظل سياسة الاستحواذ التى طبقتها مصر، فقد قررنا دخول حفارات جديدة لمناطق التنقيب، من 6 إلى 8 حفارات جديدة خلال العام الحالي، لحفر 11 بئرًا جديدة هذا العام. ولقد منحت استراتيجية الإسراع فى الاكتشافات الجديدة فرصة ذهبية لتعويض ما فات، والذهاب إلى مناطق التصحيح سريعًا.
التناغم بين حاملى الحقائب
صرّح المهندس كريم بدوي، فى جلسة حوارية حضرتها للإعلام والأكاديميين، لتقريب وجهات الإدراك الجماهيرى والمجتمعى فى هذا الملف، أنه لولا التكامل والتناغم الحاصل بينه وبين وزير الكهرباء والطاقة المتجددة، المهندس محمود عصمت، لما تحقق هذا المزيج الطاقوى لاستراتيجية طاقوية تستهدف تأمين إمدادات الطاقة، وأن تساهم الطاقة المتجددة بنسبة 42 فىالمائة بحلول عام 2030، وأن هذا التناغم بين الوزارتين يحقق أهدافه المرجوة سريعًا.. يجب ألّا نغفل أن الغاز يُساهم فى تنافس الصادرات المصرية غير البترولية من صناعات مختلفة، لكون الغاز إحدى الركائز التى تعتمد عليها الصناعات المختلفة.
آليات زيادة الطاقة الاستيعابية
لا ريب أن مشكلة الطاقة، وكيفية الحصول عليها، وضمانات عدم زوالها، باتت مشكلة تؤرّق العالم كله، خصوصًا مع التداعيات المتتالية، من أزمة جائحة كورونا إلى ظلال الصراعات الجيوسياسية، سواء الحرب الروسية الأوكرانية أو الصراعات الإقليمية الجديدة. وتعود الطاقة مع الأزمات والصراعات لتكتب التاريخ من جديد، وكم من دول فى العصور الماضية زالت بسبب ضعف ملف الطاقة أو نضوبه أو عدم معرفة استغلاله الاستغلال الأمثل، لذلك، فإن الأمان الوحيد لأى بلد أن يعتمد على: مصادر طاقة متعددة، ضمان الاستمرارية، ووجودها على الخريطة العالمية.
لقد تنبّهت مصر مبكرًا لما قاله مجلس الطاقة العالمى منذ 20 عامًا، عندما رفع مبدأ: “الاحتفاظ بكل الخيارات لملف الطاقة المفتوح”، فالكل محتاج لجميع أنواع الطاقة، وهو ما من شأنه الارتقاء بها، وما يعطى آفاقًا أرحب لمسيرة التنمية، واتخذت مصر آليات لاستراتيجية الطاقة تعمل بها على ضمان الاستدامة مع زيادة القدرة الاستيعابية، فقد بدأت مصر منذ عامين فى تنفيذ ثلاثة مشروعات تنموية كبرى للغاز الطبيعى من أجل محاور ثلاثة أساسية: رفع وزيادة الإنتاج من معدلات الغاز، زيادة إنتاج كميات المتكثفات البترولية وتنمية الحقول، وتطوير التسهيلات للإنتاج: المعالجة.
فقد عملت خلال الفترة الماضية على تطبيق أحدث التقنيات التكنولوجية، فمصر لديها إمكانيات لا تتوافر لأى دولة فى المنطقة بشبكتها المترامية لأنابيب النفط والغاز، ومعامل التكرير، والقوة الاستيعابية التخزينية، وتوسيع نطاق الأسواق.
توطين صناعة أبراج الغاز
لقد وضعت الدولة المصرية استراتيجية تُولى أهمية متزايدة لتعميق وتوطين التصنيع المحلى للمعدات والمهمات البترولية اللازمة لأنشطة البترول والغاز، لما يمثله من عنصر من عناصر الأمان والاستدامة وترشيد النقد الأجنبى وتقليل الاستيراد.
وتوفر هذه الشركات المعدات سواء محلياً أو خارجياً للشركات، كما أنها تعمل على: توفير وزيادة الطاقة الإنتاجية، مواكبة احتياجات القطاع من أوعية الضغط، أبراج التقطير والمفاعلات، والمعدلات الحرارية، ومبردات الهواء، وحزم المعالجة.. لا شك أن هذه السعات الكبيرة ضرورية لزيادة القدرة الاستيعابية، لتحقيق الاستغلال الأمثل لثروة مصر من الغاز الطبيعي، بأيدٍ مصرية تكتب التاريخ، عنوانها الجاهزية، وتعمل على مواكبة احتياجات القطاع وتنفيذ برامج التطوير لرفع كفاءة الكوادر البشرية وتطوير المعدلات الحالية باستخدام التكنولوجيا الحديثة.