الأسئلة الجوهرية التى تستحق الطرح هنا لا تتعلق فقط بمدى ما يوفره العقار من وظائف أو ما يجذبه من استثمارات، بل بما إذا كان هذا النمو مدفوعًا بقيمة مضافة حقيقية، وما إذا كان مستدامًا وقادرًا على توليد تنافسية اقتصادية طويلة الأجل.
فى الدول ذات البنية الإنتاجية المتنوعة، يلعب العقار دورًا تكميليًا. فى ألمانيا، مثلًا، تسهم الأنشطة العقارية بما يقارب 11 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالي، لكنها لا تزاحم الصناعة أو التصدير فى هيكل الاقتصاد، لأن هذا النمو يتم ضمن أُطر تنظيمية صارمة، وأسواق تمويل لا تمنح العقار معاملة تفضيلية على حساب غيره. أما فى الاقتصادات الريعية أو محدودة التنويع، فإن العقار يتحول أحيانًا إلى بديل سهل عن المسار الصناعى أو الإنتاجي، فيُغرى الدولة والمستثمر معًا بسبب سرعة العائد وانخفاض المخاطر التشغيلية.
من منظور نقدى، يمكن توصيف هذا النمط بـ«الاستسهال التنموى» أى الانجراف نحو أنشطة لا تتطلب تراكمًا تكنولوجيًا أو قدرات تشغيلية كثيفة، لكنها تُنتج أرقام نمو ظاهرية تُستخدم سياسيًا واقتصاديًا كدليل على الأداء. غير أن هذه الأنشطة، ومن ضمنها العقار، لا تبنى قاعدة إنتاجية قابلة للتصدير، ولا تُحدث تحولًا فى الإنتاجية الكلية، وبالتالى فإن مساهمتها فى تنمية الدخل القومى الفعلى تظل محدودة.
فى الحالة المصرية، تبلورت هذه الإشكالية بشكل واضح خلال العقد الأخير. فمع تصاعد الضغوط على ميزان المدفوعات، وانكماش قنوات التمويل الصناعى والتجاري، بات العقار يمثل الملاذ المفضل لرؤوس الأموال المحلية، سواء أفرادًا أو مؤسسات، وكذلك للمستثمرين الإقليميين. ويكفى النظر إلى خريطة الاستثمارات الجديدة، أو توزيع الائتمان المصرفي، أو حتى الحملات الترويجية الدولية، لندرك حجم التركيز على العقار باعتباره «قصة النجاح» المضمونة.
لكن هذا التركيز لا يخلو من تكلفة خفية. فتوجيه فائض السيولة، والائتمان، والأراضي، وحتى الموارد البيروقراطية نحو القطاع العقارى يؤدى إلى إزاحة تدريجية للقطاعات الأخرى، ويخلق ما يُعرف اقتصاديًا بأثر «الإزاحة الهيكلية». وتكمن خطورة هذه الظاهرة فى أنها لا تظهر بشكل فجائي، بل تتراكم تدريجيًا حتى تصبح عوائق بنيوية أمام أى تحول اقتصادى حقيقي. فكلما نما القطاع العقاري، ازداد نفوذه، وازدادت حصة الأراضى والعوائد المرتبطة به فى ثروة الأسر والشركات، مما يزيد من مقاومة الإصلاح ومن تقلب الاقتصاد مع أى أزمة سيولة أو تراجع طلب.
ولا يقتصر الأثر السلبى على المزاحمة، بل يمتد إلى سوق العمل. فمعظم الوظائف التى يوفرها القطاع العقارى -باستثناء بعض أعمال التصميم والإدارة- تتركز فى مهن منخفضة المهارة، ومحدودة الاستدامة، كما أن أثرها المضاعف على التشغيل الكلى أقل بكثير من القطاعات الصناعية أو التكنولوجية، والأسوأ من ذلك، أن هذه الوظائف تميل إلى الانكماش بمجرد انتهاء مراحل البناء، مما يفرض عبئًا مستمرًا يتمثل فى الحاجة لموجات استثمار عقارى جديدة للحفاظ على زخم التشغيل.
التحذير من الإفراط فى الاعتماد على العقار ليس تنظيرًا نظريًا، بل هو انعكاس لتجارب دولية ملموسة، بدأت بتحفيز النمو عبر البناء، وانتهت بانكماش مالى وكساد اجتماعي.
أبرز هذه التجارب حالة إسبانيا فى مطلع الألفية. فعبر طفرة عقارية كبرى ما بين 2000 - 2008، شكّل قطاع البناء نحو 13 فى المائة من الناتج المحلي، وأسهم فى خلق ما يقارب 2 مليون وظيفة. إلا أن هذه الفقاعة، التى غذّاها التمويل السهل والطلب الزائف، انفجرت مع الأزمة المالية العالمية، لترتفع البطالة إلى أكثر من 25 فى المائة، وتنهار أسعار العقارات بنسبة تتجاوز 35 فى المائة، وتفقد البنوك توازنها بسبب القروض العقارية المتعثرة.
نموذج مشابه برز فى أيرلندا، التى كانت توصف آنذاك بـ«Celtic Tiger» أو «النمر السلتى»، حيث قاد العقار النمو بين 2002 و2007، بفضل بيئة ضريبية مشجعة وتدفقات أجنبية ضخمة. إلا أن هذا النمو لم يكن حقيقيًا بقدر ما كان انتفاخًا ائتمانيًا، انتهى بانهيار البنوك واضطرار الدولة لإنقاذ القطاع المصرفى على حساب ميزانيتها، ما دفعها إلى أحد أسوأ برامج التقشف فى تاريخها الحديث.
أما الصين، وإن بدت مختلفة من حيث الحجم والقدرة على المناورة، فقد بدأت تشهد أعراضًا مقلقة. فتنامى الاعتماد على العقارات، التى تمثل رسميًا نحو 20 فى المائة من الناتج (وواقعيًا أكثر عند احتساب الصناعات المرتبطة)، أدى إلى تخمة فى المعروض وديون ثقيلة على المطورين، أبرزها أزمة «إيفرجراند». النمو العقارى غير المدروس بات يهدد استقرار القطاع المالي، وأجبر الحكومة على إطلاق حزم إنقاذ معقدة.
هذه الأمثلة لا تُطرح من باب المقارنة التبسيطية، بل لإبراز أن النمو العقاري، إذا لم يُدار ضمن منظومة إنتاجية متوازنة، يتحول إلى مصدر هشاشة بدل أن يكون ركيزة صلابة.
الاقتصاد المصرى لا يفتقر إلى فرص إنتاجية حقيقية، سواء فى الصناعة التحويلية، أو الزراعة التصديرية، أو خدمات التكنولوجيا المتقدمة، لكنه يفتقر إلى منظومة حوافز تعيد توجيه رأس المال بعيدًا عن العقار، وتخلق ما يكفى من الجدوى النسبية للقطاعات الأخرى. وقد يكون المطلوب ليس إيقاف الاستثمار العقارى، بل إدارته ضمن إطار توازني، يضمن ألا يتحول إلى «مغناطيس» استثمارى يبتلع ما حوله من طموحات قطاعية.
لهذا، فإن أى استراتيجية تنموية جادة تحتاج إلى إعادة تعريف لمكانة العقار فى منظومة الاقتصاد. ويمكن التفكير فى حزمة تدخلات منطقية تشمل: فرض اشتراطات تشغيل محلية على المشروعات العقارية الكبرى، ربط الحوافز بتوفير وظائف دائمة وقابلة للتطوير، تطوير أدوات تمويل بديلة لتقليل الاعتماد على الائتمان العقارى، والأهم من ذلك، بناء سردية اقتصادية تعيد الاعتبار للقطاعات الإنتاجية كثيفة التشغيل وقابلة التصدير.
ربما يكون العقار قد لعب دورًا حيويًا فى امتصاص صدمات اقتصادية خلال فترات حرجة، وربما ساهم فى جذب عملة صعبة وتوفير وظائف انتقالية، لكن استمرار التعويل عليه دون إصلاح هيكلى سيجعل الاقتصاد المصرى أشبه بمنزل فاخر مقام على أساس رملى. لا يمكن للبلدان أن تنمو عبر بيع المتر المربع، بل من خلال إنتاج السلع، وتصدير القيمة، واستثمار العقل.
وفى النهاية، العقار ليس عدوًا للنمو، لكن تحوّله إلى بديله الوحيد هو ما يصنع الخلل وما صنع فقاعة اليوم قد يكون مدخل تصحيح الغد، إذا أحسنت الدولة توجيه البوصلة.