لتتضح الحقائق أن حرب ترامب التجارية تدفع العالم إلى سرداب الركود التضخمى والأسواق لم تكن مستعدة بعد كل هذه الآثار السلبية، والمواجهة القادمة بين أوروبا وأمريكا، وأصبحت الأسواق تشعر بالحيرة أو بالأحرى إذا قلنا إنها تشعر بالضبابية وعدم اليقين بعدما فرض عليها رجل التعريفات الجمركية علاوة أعلى من علاوة المخاطر الجيو سياسية.
لا شك أن العالم ما كان ينقصه أزمات، فكفاه ما هو فيه من معاناة للاقتصاد العالمى بعد صدمتين متتاليتين أثرت كل منهما على جانب العرض، وهما الجائحة والحرب الروسية الأوكرانية ثم الصدمة الفجائية بحرب غزة التى يقبع معها الخوف والأزمات، وتحول العالم إلى بقاع ساخنة أكثرها بالشرق الأوسط، مما يطرح سؤالا هاما: هل الركود التضخمى مقاوم للسياسات الاقتصادية؟
والإجابة الواضحة أن الأزمات أحدثت نوعا من الإرباك للنشاط الاقتصادى، وأدت إلى ارتفاع معدلات التضخم؛ لأن التأثيرات التى خلفتها على مستوى العرض وأسعار السلع الأساسية فى الأمد القريب اقترنت بالعواقب المترتبة على التحفيز النقدى والمالى المفرط فى مختلف الاقتصادات المتقدمة خاصةً الولايات المتحدة واقتصادات متقدمة أخرى زعزعت استقرارها.
ونأتى إلى ما تحدثنا عنه سلفاً وهو الركود التضخمى؛ هذه «التوليفة السامة» التى تثير الذعر فى العالم خصوصاً الاقتصادات الكبرى قبل المتوسطة والسؤال الهام ما هو الركود التضخمي؟
والإجابة أن التضخم المصحوب بالركود هو مصطلح يجمع بين الكلمتين الركود والتضخم، فهو يصف الاقتصاد الذى يعانى من خلل؛ حيث تستمر الأسعار فى الارتفاع، بينما ينخفض النمو الاقتصادى مع الارتفاع فى معدل الزيادة لإنتاج السلع والخدمات.
ومن شأن هذه «التوليفة السامة» أن تقود العالم إلى الافتقار إلى النمو الاقتصادى بمرور الوقت وارتفاع نسب البطالة التى ظهرت فى الولايات المتحدة الأمريكية وأمور أخرى، وفى ظل الركود التضخمى تبدأ الأسر والشركات فى القلق من استمرار التضخم فى الارتفاع على المدى الطويل، وهو ما يصبح نبوءة تتحقق من تلقاء نفسها، مما يدفعهم إلى تعديل سلوكهم الاقتصادى بطريقة تحقق استمرار التضخم، ولا شك أنه من الصعب إصلاح التضخم المصحوب بالركود؛ حيث تقع هذه المهمة على عاتق المصرفيين المركزيين مثل الاحتياطى المركزى أو الفيدرالى الموجود لضمان استقرار الاقتصاد والبنوك المركزية فى الدول التى تعانى من هذه الأزمة.
لقد أدت الحروب المتتالية التى لحقتها السياسات الحمائية إلى تفاقم المشكلة؛ حيث عطلت صادرات روسيا من النفط والغاز والغذاء، وأدى ذلك إلى تضخم الأسعار العالمية كذلك الحصار المفروض على الصادرات من الحبوب الأوكرانية.
لاشك أن الاقتصاد العالمى فى ظل الحرب الروسية الأوكرانية والارتفاع الشديد لمعدل التضخم وتصاعد أسعار الفائدة وفق توقع الاقتصاديين أن يحدث انكماش للاقتصاد العالمى مع تراجع النمو الاقتصادى الحالى، وتكشف آخر تنبؤات البنك الدولى عن تخفيض كبير فى الآفاق المستقبلية أو تتوقع أن يحدث انكماش فى الناتج المحلى العالمى بنسبة 3 فى المائة أى حوالى تريليون دولار بسبب أسعار الطاقة والغذاء.
إن العالم عند منعطف كبير وخطير جعل القادة وصناع القرار فى العالم يعلنونها صراحةً وبشكل رسمى ولأول مرة أن الركود التضخمى يلوح فى الأفق.
فبعد أكثر من ثلاثة أعوام من التوتر الاقتصادى العالمى الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية والأفكار الترامبية خارج الصندوق، أصبح الاقتصاد معرضا مرة أخرى للخطر، غير أنه يواجه هذه المرة ارتفاع التضخم وتباطؤ النمو فى آنٍ، وهى حالة عالمية أو اقتصادية (غير مرغوب فيها)، ولو حاولت دول العالم تجنب إن أمكن الركود الاقتصادى العالمى فإن آثار الركود التضخمى السلبية يمكن أن تستمر لبضعة أعوام، وربما تتسبب عواقبها وآثارها بزعزعة استقرار الاقتصادات سواء كانت هذه الاقتصادات جيدة أو قوية أو منخفضة أو متوسطة الدخل، ما لم تتحقق زيادات على جانب العرض وإعادة توزيع الأدوار العالمية.
فقد وجد العالم نفسه فى حالة دوران حول نفسه وتكالبت التداعيات الاقتصادية الصادمة التى طالت المجتمع الدولى كله مع استمرار الحرب وارتفاع التضخم وزادت عليه الحروب التجارية الجديدة.
لقد تأثرت شبكات الإمداد وحركة التجارة نتيجة هذه الحرب الدائرة فى أوكرانيا وتوترات البحر الأحمر والتدابير الضرورية التى يجرى تنفيذها حالياً لإعادة أسعار الفائدة إلى معدلاتها العادية، أصبح من الأمور الصعبة. بل إن النزول بمعدلات الفائدة أصبح من الأمور الشائكة التى يحتار فيها حتى الفيدرالى الأمريكى الذى أوقع العالم فى براثن التشديد النقدى.
لقد أثرت الحرب فى حدوث انتكاسة كبيرة فى مسار نمو الدخل وجهود الحد من الفقر فى الاقتصادات النامية، وضاعت جهود ومقاومة التحديات التى أوصلت النمو إلى معدلات لم تكن فى الحسبان أى بالكاد نصف معدل النمو الذى تحقق فى عام 2021.
سيظل نصيب الفرد فى عام 2025 أقل من مستوياته التى سادت قبل الجائحة بنحو 40 فى المائة فى الاقتصادات النامية، وفى كثير من بلدان العالم سيكون من الصعب تجنب الركود الاقتصادى، ومع القيود المفروضة على إمدادات الغاز الطبيعى خصوصاً لإنتاج الكهرباء فى البلدان الأفقر، وسيكون الإعلان عن زيادات كبيرة فى الإنتاج على مستوى العالم عاملاً أساسيا لاستعادة النمو غير التضخمى.
لقد ضعف الاستثمار فى معظم أنحاء العالم وحتى مع وصول التضخم حالياً إلى مستويات معقولة نوعا ما إلا أنه على مدى عقود فى الكثير من البلدان، وتوقع توسيع جانب العرض مع الأخذ فى الاعتبار خطوات ارتفاع الأسعار لفترة أطول مما هو متوقع حالياً.
كما أن وصول الدين العام الخارجى فى الاقتصادات النامية وأيضا الاقتصادات الكبرى إلى مستويات قياسية خلال العامين الماضيين ومنها الديون ذات الفوائد المتغيرة جعلت المديونية تقفز حتى فى الدول الصناعية الكبرى مثل اليابان، فهى تقفز فجأة ومع تشديد التمويل فى العالم وانخفاض قيمة العملات بدأت حالات المديونية الحرجة تنتشر، كما أن تشديد السياسات النقدية بزعامة الولايات المتحدة والاقتصادات المتقدمة فى أوروبا جنبا مع الدول الناشئة جعلت تكلفة الاقتراض على مستوى العالم تزداد بشكل غير مسبوق.
إن الاقتصادات العالمية فى جميع أنحاء العالم يجب أن يكون لديها مرونة كافية للتخلص من الأوضاع المعاكسة المسببة للركود التضخمى، كما أن آخر السياسات النقدية ذات موثوقية ومصداقية أكبر لتحقيق استقرار فى الأسعار مع العمل من جانب الحكومات على تخفيض الركود التضخمى واتخاذ التدابير المناسبة فى هذه الحقبة الاستثنائية التى تتداخل فيها الأزمات العالمية، وسيكون على واضعى السياسات فى العالم التركيز على خمسة مجالات رئيسية.
أولا: تنسيق الجهود لتوفير الدعم اللازم من المساعدات والحزم المالية والمبادرات الحمائية الاجتماعية، وهذا ما تفعله الدولة المصرية بالمبادرات الرئاسية.
ثانياً: يجب على واضعى السياسات العالمية مجابهة القفزة المفاجأة فى الأسعار خصوصاً سعر النفط والغذاء، فمن الضرورى تعزيز إمداد السلع الأولية الرئيسية للغذاء والطاقة والأسواق تعمل بنظرة استشرافية للمستقبل، ومن ثم فإن مجرد الإعلان عن ضمان إمداد السلع فى المستقبل سيساعد على خفض الأسعار وتوقعات التضخم كما يجب على جميع البلدان دعم شبكات الأمان الاجتماعى.
ثالثاً: يجب أن يتكاتف العالم فى تكثيف الجهود المبذولة لتخفيف أعباء الدين، فمخاطر الديون تواجه الاقتصاد العالمى فى ظل غياب جهود تخفيف العبء بإسقاط بعض المديونية بتعاون الاقتصادات لعبور مرحلة الركود التضخمى.
رابعاً: تسريع الجهود فى التحول إلى الطاقة المتجددة منخفضة الكربون وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفورى، فالعالم أمام معادلة صعبة هى طموحاته المستقبلية نحو الطاقة المتجددة والتحديات العالمية فى اجتياح العام جراء الحرب الروسية الأوكرانية إلى الوقود الأحفورى.
خامساً: المزيد من الاستثمارات فى مشروعات الكهرباء ومصادر الطاقة الأنظف ورفع كفاءة استخدام الطاقة حيث ينبغى على واضعى السياسات على الصعيد العالمى وضع أطر جادة وراعية للمناخ وتغيراته التى كانت فى الماضى نوعا من أنواع الترف أو الخيال العلمى، وتحولت كما قال العلماء إلى حقيقة على أرض الواقع بخوف ورعب شديدين.
إن استعادة الرخاء طويل الأمد يتوقف على استئناف النمو بوتيرة أسرع ووجود بيئة أكثر استقراراً للسياسات القائمة على القواعد الصحيحة مالياً ونقدياً، فلو تخيلنا انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية وتضاعفت الجهود لإعادة بناء الاقتصاد العالمى وإنعاش النمو الاقتصادى، مع بذل الجهود من مجموعة البنك الدولى ومحاولة السيطرة على أسعار الغذاء والطاقة، قد يؤدى إلى استقرار حالة الاقتصاد وتراجع الركود التضخمى وأعباء الديون المفرطة بشكل متزايد ومحاولة فرض حالة من المساواة والاستقرار الدولية والانتباه للمناخ.
فترامب يهش بعصاه أوروبا والصين وكندا والمكسيك وغيرها بالرسوم الجمركية، والاقتصاد ليس ترفا وإنما علم للأسواق والتحركات والسياسات المالية والنقدية، كذلك رصد حركة الأسواق على مستوى العالم ليست عظيمة أو سهلة، فالحيز الاقتصادى العالمى لا يحتمل تسارع الأخبار والقرارات والسياسات الحمائية واختلاط الأوراق حتى لا يدخل العالم إلى سرداب الركود التضخمى.