رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

على امتداد طريق حورس الحربى اكتشاف قلعة عسكرية ضخمة من الدولة الحديثة بـ«شمال سيناء»


19-10-2025 | 14:14

.

طباعة
تقرير: أمانى عبدالحميد

فى كل مرة تزيح الرمال عن سر جديد كانت أرض سيناء تخفيه عبر آلاف السنين. يتبدّى وجه آخر من وجوه عبقرية المصرى القديم، الذى لم يعرف فقط كيف يبنى حضارة، بل كيف يحميها أيضا. ووسط الأجواء المحتدمة التى تعيشها المنطقة، تعود بوابة مصر الشرقية من جديد لتروى فصلًا جديدًا من تاريخ مصر العسكرى المجيد، بعدما أعلنت وزارة السياحة والآثار عن اكتشاف قلعة عسكرية ضخمة ترجع إلى عصر الدولة الحديثة فى قلب موقع «تل الخروبة» الأثرى بمنطقة الشيخ زويد شمال سيناء بالقرب من ساحل البحر المتوسط، والتى تعتبر واحدة من أكبر وأهم القلاع المكتشفة حتى اليوم على امتداد طريق حورس الحربى.

 

تلك ليست المرة الأولى، لكنها استكمال لأعمال حفائر علمية بأيادٍ مصرية 100 فى المائة؛ فمنذ تحرير أرض شبه جزيرة سيناء، والأثريون المصريون يواصلون البحث والتوثيق لكل محطات تاريخ مصر العسكرى عبر مختلف العصور. والاكتشافات الحديثة وسط «تل الخروبة» جاءت بعد جهود كبيرة لتتبع مسار طريق حورس الحربى الذى كان دوره حماية الحدود الشرقية لمصر، ولتستكمل مسيرة الاكتشافات الأثرية، وما تحويه من شواهد أثرية ومصادر تاريخية ومناظر ونقوش ضمن نسيج متكامل يحكى تاريخ الجيش المصرى أقدم جيوش العالم عبر العصور، ويعكس تطور العمارة العسكرية والمنظومة الدفاعية المصرية لتأمين حدود مصر الشرقية، وهو الأمر الذى قد يفتح المجال أمام نوع جديد من السياحة، وهو سياحة القلاع العسكرية.

هناك، من أقصى الشمال الشرقى من دلتا نهر النيل، يبدأ طريق حورس الحربى، وقرب مدينة القنطرة شرق نجد شواهده ممتدة من قلعة «ثارو» حتى يصل إلى منطقة رفح القديمة على حدود فلسطين. هو ليس مجرد طريق بل هو الحد الفاصل بين مصر وأعدائها، والذى قد تمر عليه القوافل التجارية أحيانا، لكنه طريق يحكى تاريخ العسكرية المصرية عبر مختلف العصور، فوقه عبرت الجيوش المصرية، وعنده انتصرت، هو الطريق الذى حمل أنباء الانتصارات، وبقايا عربات الحرب ورايات النصر منذ عصر الملك «سيتى الأول»، مرورا بعصر الملك «رمسيس الثانى»، وحتى معارك العبور فى حرب أكتوبر 1973.

هناك أيضًا، أدرك المصرى القديم أن الشرق هو بوابته الحقيقية إلى العالم، وهناك يكمن أيضا مسرح الأخطار القادمة؛ لذا ظل طريق حورس الحربى موقعًا حصينًا، شيّد الملوك على امتداده سلسلة من القلاع والحصون، بلغ عددها أكثر من عشرين قلعة حصينة، سيطرت على ممرات الحركة وخطوط الإمداد، وكانت تلك القلاع أشبه بنقاط إنذار مبكر، تربط بينها قنوات مائية وأبراج مراقبة، تجعل من الطريق منظومة دفاع متكاملة سبقت زمانها بآلاف السنين.

لذا يقف طريق حورس الحربى شاهدًا على وعى المصرى القديم بأهمية الجغرافيا فى صناعة التاريخ، فمنذ أن شيّد ملوك الدولة الحديثة سلسلة قلاعهم الممتدة عليه من قلعة «ثارو» حتى «رفح» القديمة، أدركوا أن حماية الشرق هى مفتاح بقاء الدولة. وعلى امتداد الطريق المحفوف بالأمجاد، عثرت البعثة المصرية على بقايا قلعة «تل الخروبة» كحلقة مفقودة فى منظومة التحصينات التى ربطت مصر القديمة ببلاد الشام. لتعيد رسم خريطة دفاعية مذهلة كانت تحمى حدود مصر منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، وهى القلعة التى كشفت عن مدى روعة التخطيط العسكرى لملوك الدولة الحديثة، الذين شيّدوا سلسلة من القلاع والتحصينات الدفاعية لحماية حدود مصر الشرقية وتأمين أهم الطرق الاستراتيجية التى ربطت مصر القديمة بفلسطين.

«الكشف الأثرى وسط «تل الخروبة» ما هو إلا تجسيد ملموس لعبقرية المصرى القديم فى بناء منظومة دفاعية متكاملة لحماية أرض مصر»، على حد تعبير شريف فتحى، وزير السياحة والآثار، حيث أكد أن القلعة المكتشفة من شأنها إضافة فصل جديد من فصول تاريخ شبه جزيرة سيناء وحدود مصر الشرقية، وهى التى ظلت عبر مختلف العصور تلعب دورا حيويا كمعبر للجيوش والتجارة.

أما الدكتور محمد إسماعيل خالد، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، فقد أوضح أن القلعة المكتشفة فى «تل الخروبة» تمثل خطوة مهمة فى إعادة بناء الصورة الكاملة لشبكة التحصينات المصرية على الحدود الشرقية، مشيرًا إلى أن الاكتشافات الأثرية توضح عن حجم التنظيم والدقة التى تمتعت بها الدولة المصرية الحديثة فى إدارة دفاعاتها وحدودها. وأضاف قائلا: «لم تكن حضارة مصر القديمة مجرد حضارة معابد ومقابر فقط، بل كانت أيضا حضارة دولة ذات مؤسسات قوية تعرف كيف تحمى أرضها».

أسفرت أعمال الحفائر عن الكشف عن جزء من السور الجنوبى للقلعة بطول 105 أمتار وعرض 5.2 متر، يتوسطه مدخل فرعى بعرض 20.2 متر، بالإضافة إلى أحد عشر برجًا دفاعيًا، والبرج الشمالى الغربى، وجزء من السورين الشمالى والغربى. وخلال أعمال الحفائر العلمية، واجهت البعثة تحديات كبرى بسبب الكثبان الرملية المتحركة التى غطت أجزاء من الموقع، مما استدعى جهدا هندسيا وأثريا دقيقا فى إزالة الرمال دون الإضرار بالبنية الأصلية للقلعة.

كما أشار الأستاذ محمد عبدالبديع، رئيس قطاع الآثار المصرية، إلى اكتشاف سور زجزاجى بطول 75 مترا فى الجانب الغربى، يقسم القلعة من الشمال إلى الجنوب ويحيط بمنطقة سكنية مخصصة للجنود، وهو تصميم معمارى نادر، يعكس قدرة المصرى القديم على التكيّف مع بيئة قاسية وتطويعها لخدمة الأهداف العسكرية.

لم تخلُ القلعة من مظاهر الحياة اليومية، حيث عثرت البعثة العلمية على فرن كبير لإعداد الخبز وبجواره كميات من العجين المتحجر، إلى جانب العثور على أوانٍ فخارية وودائع أساس تعود إلى النصف الأول من عصر الأسرة الثامنة عشرة، من بينها يد إناء مختومة باسم الملك «تحتمس الأول»، مما يشير إلى أن القلعة كانت مأهولة ومجهزة بشكل متكامل لإقامة الجنود لفترات طويلة. كما تم العثور على أحجار بركانية تم نقلها من جزر اليونان عبر البحر المتوسط، وهو ما يبرهن على وجود تواصل بحرى وتجارى واسع حتى فى المواقع العسكرية البعيدة عن قلب الدولة.

من جانبه، أوضح الدكتور هشام حسين، رئيس الإدارة المركزية لآثار الوجه البحرى، أن مساحة القلعة الجديدة تبلغ نحو ثمانية آلاف متر مربع، أى ما يعادل ثلاثة أضعاف مساحة القلعة التى تم اكتشافها فى ثمانينيات القرن الماضى وبعد حوالى 700 متر فقط من الموقع الحالى، مؤكدا أن القلعة خضعت لتعديلات وترميمات عبر العصور، خاصة فى تصميم مداخلها الجنوبية، وأن البعثة تسعى لاستكمال أعمال الحفائر للكشف عن الميناء العسكرى القديم الذى من المرجح أنه كان يخدم القلعة من جهة البحر.

بهذا الكشف الجديد، تنضم قلعة «تل الخروبة» إلى سلسلة من المواقع العسكرية الفريدة على طريق حورس الحربى مثل «تل حبوة»، و»تل البرج»، و«التل الأبيض». وهى جميعها شواهد على استراتيجية دفاعية مذهلة اتبعتها مصر القديمة لحماية بوابتها الشرقية. كما تكشف القلاع عن مفهوم متقدم للأمن القومى فى فكر المصرى القديم، حيث كانت الحدود ليست مجرد خطوط على الرمال، بل منظومات معمارية واقتصادية وعسكرية متكاملة تضمن بقاء الدولة واستقرارها.

خاصة أن أعمال الحفائر العلمية على مدار أكثر من عشرين عاما قد أسفرت اكتشاف جزء من أكتاف البوابة الشرقية لقلعة ثارو، والتى تمثل مقر الجيش المصرى فى عصر الدولة الحديثة، بالإضافة إلى عدد من المخازن الملكية المبنية من الطوب اللبن والتى تخص الملكين «تحتمس الثالث» و«رمسيس الثانى»، وعددا من الأختام عليها اسم الملك «تحتمس الثالث». كذلك اكتشاف جبانة كبيرة من عصر الأسرة 26 تضم العديد من المقابر المبنية بالطوب اللبن وعدد من المقابر الجماعية لهياكل عظمية آدمية عليها آثار معارك عسكرية بالضفة الشرقية لقناة السويس بمنطقة «تل حبوة» على مسافة 3 كم شرق قناة السويس، والتى كانت تمثل نقطة الانطلاق للجيوش المصرية لتأمين حدود مصر الشرقية عبر طريق حورس الحربى بين مصر وفلسطين.

أخبار الساعة