بقعة سكنية لا آدمية تؤوى آلاف المصريين، اختنقت من الزحام، طالتها العشوائيات والتهميش، تعانى الحرمان من الخدمات، مصير قاطنيها كان مجهولًا، تسودها فوضى الإشغالات، فهناك لا توجد طرق ممهدة، البيوت أغلبها مصنوع من الصفيح أو من الخشب، ومعظمها مُحاط بأكوام من القمامة، أهلها كانوا يعيشون وسط جدران متصدعة، فى بيوت بلا أبواب، ورائحة الصرف تملأ الأرجاء، وصرخات الأطفال باحثة عن الطعام، بينما نجد الماء يتساقط من الأسقف فوق الحصير البالى.
رغم كل هذه الظروف، أطلّت تبحث عن حياة أخرى، فى نسخة حديثة من مصريتها، حتى تبنت الجمهورية الجديدة مشروعًا تاريخيًا لتطوير مناطق القاهرة القديمة، لتعيد إلى هذه البقع السكنية نبضها وحياتها.. واليوم يقف أولئك الذين عانوا من ضيق المكان وقسوة الأيام أمام عمارات «روضة السيدة» بملامح مدهوشة ودموع مختلطة بالفرح، ينظرون إلى الشرفات المزينة بالنباتات، والأطفال الذين يلعبون فى الساحات الآمنة، ويتساءلون: هل تغيرنا نحن أم أن المكان هو الذى تبدل؟! والإجابة ببساطة أن مصر قررت أن تعيد رسم وجهها التاريخى بالحياة العصرية، وتنعش قلبها القديم بآخر جديد حديث.
من تل العقارب التى كانت يومًا رمزًا للخطر والفقر، إلى بحيرة عين الصيرة التى استعادت صفاءها بعد عقود من الإهمال، ومن سور مجرى العيون الذى كان محاصرًا بالورش والمخلفات، إلى مشروعات «سكن لكل المصريين» التى امتدت للمحافظات كافة، لتتشكل خريطة جديدة لعاصمة كانت يومًا مثقلة بالهموم، وصارت اليوم رمزًا للإصرار والتحدى والبناء المطور.
ففى المنطقة التى عُرفت يومًا باسم تل العقارب، كانت الحكايات مؤلمة، بيوت تهاوت فوق رءوس ساكنيها، أمطار تقتحم النوافذ المكسورة، وشوارع ضيقة لا يدخلها الضوء، لكن الحلم ظل حيًا فى نفوس الناس، حتى تحول إلى حقيقة على أرض الواقع فى مشروع «روضة السيدة»، الذى أصبح علامة مضيئة فى سجل التطوير الحضارى.. فالمشروع يضم 16 عمارة تحتوى على 816 وحدة سكنية بتكلفة تجاوزت 330 مليون جنيه، لكنه فى جوهره لم يكن مجرد مبانٍ أسمنتية، بل وعد بالكرامة وحياة تليق بالإنسان المصرى.. فالروضة اليوم تفيض بالحياة، مساحات خضراء، وحضانات للأطفال، ومحال صغيرة، وممشى يعيد للذاكرة دفء الحارات القديمة لكن بروح عصرية، إنها ليست عمارات إسكان فقط، بل فلسفة تقول الإنسان أولًا.
وفى قلب القاهرة، يقف سور مجرى العيون صفحة من التاريخ تُطوى لتُكتب من جديد، المكان الذى خنقته رائحة المدابغ عقودًا طويلة، صار اليوم مزارًا مفتوحًا يرحب بالزائرين فى ممشى تزيّنه أشجار النخيل والمشاعل الحجرية، وكأن الماضى يعانق الحاضر فى مشهد بديع.
تحدثنا إلى المهندس عبدالرحيم عباس، أحد المشرفين على تطوير المشروع، الذى أوضح أنه قبل التطوير حددت وزارة الثقافة حرم السور بنحو 30 مترًا، وأن السور يضم 79 عمارة بعدد 1942 وحدة سكنية بمساحات تصل إلى 150 مترًا، إلى جانب مول تجارى كبير على مساحة 16 فدانًا يضم مطاعم وسينمات وكافيهات ومسرحًا مكشوفًا، صُمم بروح الطراز الإسلامى ليعيد للمنطقة هويتها التاريخية.
وأضاف أن إزالة رواسب المدابغ القديمة كانت التحدى الأكبر، إذ تم نقل الورش إلى مدينة الروبيكى، وتسكين الأهالى فى مدينة بدر بمساكن جديدة مجهزة بالكامل لضمان استمرار مصدر رزقهم، وهكذا تحول المكان من منطقة طاردة إلى مقصد سياحى وثقافى يعيد للأذهان صورة القاهرة فى أبهى عصورها.
أما بحيرة عين الصيرة، التى كانت يوما بركة راكدة تنبعث منها الروائح الكريهة وتفيض بالقاذورات، فقد استعادت عافيتها بفضل مشروع ضخم أعاد إليها الحياة، حيث قال المهندس محمد الدسوقى، مدير مشروع سور مجرى العيون وعين الصيرة، إن البحيرة تمتد على مساحة 63 فدانًا، ويحيط بها ممشى سياحى بطول 2.5 كيلومتر، تتلألأ على جوانبه النوافير المائية المضيئة، والمطاعم والمقاهى التى تطل على متحف الحضارة وقلعة صلاح الدين الأيوبى.. واليوم صارت عين الصيرة وجهة نابضة بالحياة تجمع بين الجمال الطبيعى والتاريخ العريق، وتعيد رسم العلاقة بين المواطن والمكان فى صورة حضارية جديدة.
الحلم لم يتوقف عند حدود العاصمة، فمشروعات التطوير امتدت إلى جميع المحافظات تحت مبادرة «سكن لكل المصريين»، التى أطلقتها الدولة لتوفير حياة كريمة لكل مواطن.. ففى محافظة القليوبية، ينفذ المشروع ضمن خطة تطوير عواصم المحافظات والمدن الكبرى، ويضم 281 عمارة توفر نحو 16 ألف وحدة سكنية متنوعة بين الاجتماعى والمتوسط والاستثمارى، لتتحول المدن القديمة إلى مجتمعات حديثة منظمة بخدمات متكاملة.
وأكد عبدالخالق إبراهيم، نائب وزير الإسكان، أن المشروع يجسد رؤية الدولة فى إقامة مجتمعات عمرانية متكاملة بخدمات حديثة، مضيفًا أن هذه المشروعات ليست مجرد جدران صامتة، بل إعادة صياغة لحياة الإنسان المصرى، وإزالة للفوارق بين العشوائى والمنظم، وإحياء لفكرة العدالة المكانية التى طال انتظارها.
هذه المشروعات لم تعد مجرد خطوات عمرانية، بل مشروع وطنى شامل لتغيير الواقع الإنسانى والاجتماعى، فالدولة لا تكتفى بإزالة العشوائيات، بل تزرع مكانها الأمل، وتعيد الاعتبار للمواطن الذى ظل لسنوات يختنق داخل بيوت بلا نوافذ.. وهو ما جعل المشروعات بمثابة عملية معقدة لبعث الحياة فى جسد مدينة ترابية، لطالما كانت رمزا للتاريخ، لتعود قاهرة المعز بكل زواياها «سيدة المدائن»، ومركز إشعاع للحضارة المصرية الحديثة.
التحولات العمرانية التى تشهدها العاصمة اليوم، ليست وليدة الصدفة، بل ثمرة رؤية متكاملة وضعتها القيادة السياسية لتحديث العمران المصرى، ورفع جودة الحياة فى كل ربوع الوطن.. فمشروعات مثل روضة السيدة ومجرى العيون وعين الصيرة، ليست فقط وجهًا جميلًا للمدينة، بل أيضًا رسالة إنسانية تقول إن الكرامة تبدأ من بيت آمن وشارع نظيف وبيئة تليق بالإنسان.
وما بين الطين والماء، والحجر والتاريخ، تمتد ملامح مصر الجديدة، «الكنانة» التى لا تعرف المستحيل، التى قررت أن تبنى نفسها بنفسها، لتشكل لوحة وطنية عنوانها الأمل، حولت الخرابات إلى مزارات، ومناطق الخطر إلى ساحات أمان، واستعادت القاهرة تاريخها لتضيف إليه فصولًا جديدة من المجد والعمران، وهكذا تبقى الرسالة الأوضح والأصدق «إحنا اللى حولنا الخرابات لمزارات.. وإحنا اللى بنبنى المستقبل».
من جانبه، قال المهندس خالد صديق، رئيس مجلس إدارة صندوق التنمية الحضرية، إن مصر كتبت ملحمة تطوير العشوائيات. وأضاف: «قبل سنوات قليلة كانت كلمة عشوائيات فى مصر مرادفة للفقر والخطر والعزلة، أحياء بلا خدمات ومنازل آيلة للسقوط وأحلام مدفونة تحت ركام الزمن، إلى أن قررت مصر الجديدة، برؤية قيادتها السياسية وإرادة مؤسساتها، أن تعيد رسم خريطة العمران الإنسانى، وأن تكتب فصلًا جديدًا فى تاريخ العدالة الاجتماعية، فبدأت رحلة التحول من الخربات إلى الحياة الكريمة».
ومنذ عام 2014، وضع الرئيس عبدالفتاح السيسى ملف تطوير العشوائيات على رأس أولويات الدولة، باعتباره قضية أمن قومى وإنسانى، فبدأت الحكومة خطة قومية غير مسبوقة لتطوير المناطق غير الآمنة وغير المخططة، تهدف لتوفير سكن كريم وآمن لكل مواطن يعيش فى بيئة لا تليق بالإنسان المصرى.. وقد تم تطوير أكثر من 357 منطقة غير آمنة على مستوى الجمهورية، ونقل أكثر من 1.2 مليون مواطن إلى مجتمعات سكنية جديدة مزودة بالخدمات، بتكلفة تجاوزت 44 مليار جنيه حتى عام 2024، فى واحدة من أكبر عمليات الإحلال الاجتماعى فى تاريخ الدولة المصرية.
ومن بين أبرز النماذج على هذا التحول، منطقة تل العقارب بالسيدة زينب، التى كانت تُعرف باسم عشوائية الموت، قبل أن تتحول إلى روضة السيدة، مجمع عمرانى راقٍ، لم تعد المنطقة وصمة بل أصبحت رمزا للتحول، ومثالًا على كيف يمكن أن تعيد الدولة الحياة إلى قلب العاصمة دون أن تهجر سكانها الأصليين، بل تعيدهم إلى بيوتهم الجديدة بكرامة.
وأشار المهندس خالد صديق، إلى «الأسمرات» كإحدى أهم قصص النجاح فى مواجهة العشوائيات، حيث أُقيم المشروع بمراحله الثلاث على مساحة تتجاوز 185 فدانًا، وضم أكثر من 18 ألف وحدة سكنية مجهزة بكافة المرافق والخدمات، من مدارس وملاعب ومراكز شباب إلى حضانات وأسواق.
ووفرت الدولة الوحدات للأهالى بمقابل رمزى، مع دعم مالى مباشر للأسر الأكثر احتياجًا، ولم يكن المشروع مجرد سكن، بل مشروع حياة متكامل يهدف إلى تمكين المرأة والشباب من العمل والإنتاج عبر مراكز تدريب مهنى وفرص تشغيل حقيقية.
ومن القاهرة إلى الإسكندرية، سطعت تجربة «بشاير الخير» كنموذج عالمى فى تطوير العشوائيات، بدأت من منطقة «غيط العنب» التى كانت توصف بأنها بؤرة خطر، لتتحول اليوم إلى مجتمع سكنى يضم أكثر من 25 ألف وحدة سكنية فى بيئة حضارية، بكلفة إجمالية فاقت 10 مليارات جنيه.. ولم يغير المشروع شكل المدينة فقط، بل خلق روحًا جديدة بين الأهالى بعد أن وفر لهم مدارس حديثة ومستشفيات ومجمعات خدمية ومناطق ترفيهية، ليؤكد أن تطوير العشوائيات ليس هدمًا بل إعادة بناء للإنسان والمكان معا.
وجسدت أيضًا مشروعات «أهالينا 1 و2» و«معًا لتطوير العشوائيات» الامتداد الطبيعى لسياسة العدالة العمرانية، حيث أنشأت الدولة أكثر من 10 آلاف وحدة سكنية فى تلك المناطق، إلى جانب مراكز طبية ومجمعات حرفية ومدارس حديثة.
كما امتدت جهود التطوير إلى المحافظات الكبرى مثل الجيزة، أسيوط، المنوفية، والبحيرة، ليصل عدد المناطق غير المخططة التى تم تطويرها حتى الآن إلى 152 منطقة، ضمن خطة تستهدف تحسين مستوى معيشة أكثر من 22 مليون مواطن.
وبينما تغلق الدولة ملف العشوائيات غير الآمنة بالكامل، انطلقت المرحلة الأوسع من التنمية تحت مظلة المبادرة الرئاسية «حياة كريمة»، التى تعد أكبر مشروع تنموى فى تاريخ مصر، مستهدفة أكثر من 4600 قرية و175 مركزًا بتكلفة تتجاوز 1.5 تريليون جنيه.. تلك المبادرة لم تعد فقط بناء البيوت، بل أعادت بناء منظومة الحياة الريفية، مياه شرب وصرف صحى ومدارس ومستشفيات وطرق وفرص عمل، لتكتمل بذلك خريطة مصر الجديدة التى تعيد توزيع التنمية على الإنسان قبل المكان.
والنتيجة اليوم واضحة، اختفاء العشوائيات الخطرة بنسبة 100 فى المائة، وبناء أكثر من 250 ألف وحدة سكنية جديدة، وتوفير مليارات الجنيهات فى الدعم والخدمات، وولادة أجيال جديدة فى بيئة صحية آمنة تعرف أن الوطن لم ينسها، ما جرى لم يكن مجرد تطوير عمرانى، بل ثورة إنسانية واجتماعية حملت رسالة مفادها أن مصر لا تهمل أبناءها، وأن العدالة ليست شعارًا بل فعل على الأرض.
لقد استطاعت الدولة المصرية أن تحول واقعا كان يرمز إلى العجز إلى قصة نجاح تُدرس عالميا، وأن تؤكد أن البناء الحقيقى يبدأ من الإنسان لا من الحجر.. فالتنمية ليست فقط عمارات شاهقة أو شوارع ممهدة، بل كرامة تُصان، ومواطن يشعر أن له مكانًا فى وطنه، وهكذا تحول ملف العشوائيات من جرح مفتوح فى جسد الدولة إلى وسام يُعلق على صدرها، بعدما أدركت القيادة السياسية أن أمن الوطن يبدأ من استقرار المواطن، وأن العدالة الاجتماعية ليست رفاهية، بل أساس الجمهورية الجديدة التى تعيد بناء مصر بوعى وعزيمة وإرادة لا تعرف المستحيل.