«المصور» بدأت فى تفنيد هذه السردية وبنودها وفصولها، وهو ما نستكمله هنا، بشأن قراءتنا المتعمقة للسردية الوطنية للتنمية الاقتصادية، نجد أنها لا تكتفى برسم أهداف عامة أو شعارات تنموية، بل تقدم رؤية متكاملة تقوم على تحويل الاقتصاد المصرى إلى اقتصاد إنتاجى تنافسى، قادر على الصمود أمام الأزمات، فيأتى الفصل الثالث من بين فصول السردية ليضع الصناعة والتجارة الخارجية فى قلب الرؤية الاقتصادية الجديدة لمصر حتى 2050؛ باعتبارهما المحركين الأساسيين لاقتصاد منتج وقادر على المنافسة والصمود.
«التصنيع» هو الذى يخلق القيمة المضافة وفرص العمل، بينما التجارة الخارجية هى المنفذ لتصريف الإنتاج فى الأسواق الإقليمية والعالمية وتحقيق العملة الصعبة، لذا فالسردية تؤكد بوضوح على «تصنيع ما نحتاجه وتصدير ما نُجيده»، فى إشارة إلى أن الأمن الاقتصادى يبدأ من المصنع لا من الميناء، وهو ما يعكس تحولًا فى فلسفة التنمية المصرية.
الفصل الثالث تحديدًا يفتح الباب أمام قراءة معمقة لكيفية تعامل الدولة مع ملفات التصنيع والتجارة الخارجية، ليس فقط من منظور الدعم الحكومى، ولكن من منظور إعادة هيكلة الاقتصاد على أسس أكثر كفاءة واستدامة، ولذلك فإن تحليله يمثل مدخلًا مهمًا لفهم الاتجاه الذى تمضى فيه مصر خلال المرحلة المقبلة، وكيف تسعى لترسيخ موقعها كمركز صناعى وتجارى مؤثر فى المنطقة.
وينطلق الفصل الثالث من رؤية واضحة تعتبر الصناعة قاطرة التنمية، وتربطها ارتباطًا وثيقًا بالتجارة الخارجية، من خلال إعداد «استراتيجية وطنية للتنمية الصناعية واستراتيجية أخرى لتنمية التجارة الخارجية»، واللتين ترتكزان على مبادئ الاستدامة والتكامل والاعتماد على التكنولوجيا النظيفة، بما يدعم التحول نحو الصناعات القابلة للتصدير ويدفع نحو خفض العجز التجارى وتحسين موقع مصر فى سلاسل القيمة العالمية.
وترتكز رؤية الحكومة لتحقيق التنمية الصناعية والتجارية على مجموعة من الأطر المرجعية المترابطة والمتكاملة فيما بينها، وتشكل الأساس الذى تنبثق عنه السياسات والبرامج التنفيذية، وتشمل: رؤية مصر 2030 باعتبارها الإطار الأشمل للتنمية المستدامة، برنامج عمل الحكومة الحالى (2024/2025-2026/2027) الذى يترجم الرؤية إلى أولويات تنفيذية، البرنامج الوطنى للإصلاحات الهيكلية لمعالجة التحديات الهيكلية فى الاقتصاد، الاستراتيجية الوطنية المتكاملة لتمويل التنمية كأداة لتعبئة الموارد المالية اللازمة للتنمية المستدامة، ووثيقة سياسة ملكية الدولة لتحديد دور الدولة فى النشاط الاقتصادى وتحدد قواعد الخروج أو البقاء فى القطاعات المختلفة.
ورغم أهمية «وفرة الأطر والاستراتيجيات» فى توحيد الرؤية، إلا أنها قد تشكل تحديًا فى حد ذاتها ما لم تُترجم إلى برامج تنفيذية متكاملة ذات مؤشرات أداء ومتابعة دورية تضمن تحقيق الأثر المطلوب على أرض الواقع.
وتعقيبا على هذا الفصل، قال الدكتور أحمد رشاد، مدير مركز العلاقات الاقتصادية الدولية بمعهد التخطيط القومي: يحسب لهذا الفصل أنه يعلن صراحة عن التوجه الجديد للدولة المصرية نحو تطبيق الاستراتيجية الوطنية للتنمية الصناعية والتجارة الخارجية، باعتبارهما الإطارين الشاملين لتنسيق الجهود بين الحكومة والقطاع الخاص، وتهدفان إلى توطين الصناعات عالية التكنولوجيا، وتعميق سلاسل القيمة، وتنويع الأسواق الخارجية، وتحسين تنافسية المنتج المصرى فى الأسواق الإقليمية والعالمية.
وترتكز الاستراتيجية الوطنية للتنمية الصناعية على رفع مساهمة الصناعة فى الناتج المحلى الإجمالى، وتعزيز الصناعات الخضراء منخفضة الانبعاثات، مع تحفيز المصانع المنتجة والصغيرة والمتوسطة عبر تقديم الدعم الفنى والتمويلى ودمجها فى الاقتصاد الرسمى، إلى جانب حل مشكلات المصانع المتعثرة وإعادة تشغيل المتوقفة منها، كما تستهدف الاستراتيجية خلق فرص عمل جديدة وتحقيق تنمية صناعية شاملة ومستدامة ترتكز على رفع الإنتاج المحلى، وتشجيع الاستثمارات الجديدة نحو القطاعات الإنتاجية ذات القيمة المضافة العالية، بما يرسخ مسار التنمية المستدامة.
فى المقابل تأتى الاستراتيجية الوطنية لتنمية التجارة الخارجية، كاستراتيجية مكملة للمسار الصناعى، إذ تستهدف زيادة الإنتاج المحلى وتوفير النقد الأجنبى وتحسين ميزان المدفوعات من خلال تطوير البنية التحتية والخدمات اللوجستية وتحسين بيئة الأعمال وتشجيع الصادرات، وتنويع الأسواق والمنتجات، كما تركز على توسيع نطاق التجارة الإقليمية والدولية، ودعم النفاذ للمنتجات المصرية فى الأسواق الإفريقية والعربية، بما يعزز مكانة مصر كمحور رئيسى للتجارة الإقليمية ويحولها إلى مركز صناعى وتصديرى مؤثر فى المنطقة.
كما أن السردية لا تكتفى بتحديد الأهداف، بل تطرح مجموعة من السياسات الداعمة للصادرات، تشمل تطوير منظومة رد الأعباء التصديرية، وتحديث الموانئ والخدمات اللوجستية، وتوسيع نطاق النفاذ إلى الأسواق الجديدة، كما تؤكد على أهمية التكامل بين السياسة الصناعية والتجارية، لضمان رفع القدرة التنافسية للمنتج المصري.
وأكد مدير مركز العلاقات الاقتصادية الدولية، أن المؤشرات الكمية الواردة فى السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية تعكس مدى الطموح الذى تسعى الدولة المصرية إلى تحقيقه فى مجالى الصناعة والتجارة الخارجية، من خلال بناء اقتصاد إنتاجى متكامل يحقق النمو ويعزز التنافسية، ففى ضوء رؤية مصر 2030، تستهدف الدولة رفع مساهمة إجمالى الصناعة فى الناتج المحلى الإجمالى إلى 28 فى المائة بحلول عام 2030، وبلوغ نصيب الصناعة غير النفطية 20 فى المائة، وتحسين ترتيب مصر فى مؤشر التعقيد الاقتصادى إلى المرتبة 50 عالميًا من بين 133 دولة، كما تستهدف الرؤية زيادة إجمالى الصادرات إلى 104 مليارات دولار، ورفع درجة الانفتاح التجارى إلى نحو 40.8 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى، ورفع نسبة مساهمة القطاع الخاص فى الاستثمارات الكلية إلى 65 فى المائة، ورفع نسبة صافى الاستثمارات الأجنبية المباشرة من الناتج المحلى الإجمالى إلى 3 فى المائة، فى إطار توجه واضح لربط التصنيع بالتجارة الخارجية، وتحقيق التكامل بين حلقات الإنتاج والتصدير.
أما السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية، فقد جاءت بمستهدفات أكثر تفصيلًا وطموحًا فى بعض الأحيان، معتمدة على السيناريو الإصلاحى أو سيناريو الإصلاح المتسارع، الذى يفترض تطبيق حزمة من إصلاحات هيكلية شاملة لتعزيز الإنتاجية والنمو المستدام.
ورغم أن الأرقام المستهدفة تعكس طموحًا واضحًا، فإن التحدى الحقيقى لا يكمن فى صياغة المؤشرات، بل فى ترجمتها إلى نتائج واقعية، وبلوغ تلك المستهدفات الطموحة يتطلب تحولًا هيكليًا حقيقيًا فى بنية الإنتاج الصناعى ذاته، وتعزيز التكامل بين سلاسل الإنتاج المحلية والدولية، وتوفير بيئة تمويلية داعمة للصناعات الصغيرة والمتوسطة مع التركيز على دعم التحول نحو الصناعة الخضراء والمستدامة لرفع جودة المنتج المحلى، بما يسمح بزيادة المكون التكنولوجى فى الصناعة المصرية ورفع إنتاجيتها وتعزيز تنافسيتها، وتوسيع نطاق الصادرات فى الأسواق الإقليمية والعالمية، فالقضية لم تعد فقط فى وضع الأرقام، بل فى بناء القدرات التى تجعل تحقيقها أمرًا واقعيًا.
وعلى الصعيد المؤسسى والتنظيمى والتشريعى، تبدو القاهرة عازمة على إعادة هيكلة القاعدة الصناعية وخلق بيئة أكثر دعمًا للمصدرين، كما أشار «د. رشاد»، إذ تم تشكيل المجموعة الوزارية للتنمية الصناعية، بهدف كسر البيروقراطية وتعزيز التنسيق بين الوزارات المختلفة ومتابعة إزالة العقبات أمام الاستثمار الصناعى، من خلال إصدار القرارات والتوصيات ومتابعة تنفيذ التشريعات والقوانين المتعلقة بقطاع الصناعة، وقد صدرت مؤخرًا عدة قرارات منها إطلاق منصة مصر الصناعية الرقمية لإتاحة جميع الخدمات الصناعية إلكترونيًا وتسهيل إصدار التراخيص، بالإضافة إلى إقرار ضوابط صارمة تضمن تخصيص الأراضى الصناعية لمستثمرين جادين وتمنع التنازل أو البيع أو الـتأجير، إلا بعد استيفاء شروط محددة وموافقة مجلس الوزراء».
كما تعد البنية التشريعية المنظمة لقطاع الصناعة حجر أساس لدفع تلك الجهود، تتمثل فى قانون تنمية المنشآت الصناعية رقم 15 لعام 2017، وقانون تفضيل المنتج المحلى رقم 1 لعام 2015، وقانون الاستثمار رقم 72 لسنة 2017، وقانون تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر رقم 152 لعام 2020 إلى جانب التشريعات والقوانين المتعلقة بالبيئة وغيرها من القرارات والتشريعات.
وفى الوقت نفسه تعمل الحكومة على زيادة حجم التجارة الخارجية من خلال خفض زمن الإفراج الجمركى، وإقرار البرنامج الجديد لرد الأعباء التصديرية بداية من العام المالى 2025-2026 وحتى العام المالى 2027-2028، بما يتسق مع المستهدفات التصديرية الطموحة فى المرحلة المقبلة، وتعديل قانون الجمارك رقم 207 لسنة 2020 ولائحته التنفيذية بما يضمن التخليص الجمركى المسبق وتعديل إجراءات التثمين، إلى جانب إنشاء الوكالة المصرية لضمان الصادرات والاستثمار بموجب قانون 178 لسنة 2023، بما يعزز مناخ الاستثمار، ويدعم الصادرات المصرية عبر آلية متكاملة لتوفير الضمانات وتحفيز النفاذ للأسواق الخارجية.
لكن رغم وضوح الإطار المؤسسى والتنظيمى والاستراتيجى أيضًا، يظل التحدى الأكبر فى تسريع التنفيذ الفعلى لهذه الخطط على أرض الواقع، فما زال المستثمر الصناعى يواجه صعوبات مزمنة تتعلق بارتفاع تكلفة التمويل وتعقيد بعض الإجراءات وتداخل الاختصاصات بين الجهات فى بعض الملفات، ويبدو أن بعض الإصلاحات، رغم أهميتها، تركز أكثر على تيسير الإجراءات دون معالجة لجذور المشكلات الهيكلية المرتبطة بالربط المتكامل بين حلقات الإنتاج والتمويل والتسويق والتصدير.
وبالنسبة لتركيز السردية على التحول نحو الصناعة الخضراء وتبنى مبادئ الاقتصاد الدائرى، بما يواكب التحولات العالمية نحو الإنتاج المستدام، فإن الأمر يثير تساؤلات حول قدرة المصانع الصغيرة والمتوسطة على تمويل التحول البيئى، خاصة مع ارتفاع تكلفة التكنولوجيا النظيفة وضعف برامج التمويل الميسر.
وفيما يتعلق بتركيز الفصل على أهمية الثورة الصناعية الرابعة فى إعادة تشكيل الصناعة المصرية، من خلال إدماج الذكاء الاصطناعى وإنترنت الأشياء والروبوتات فى الإنتاج، وكذلك التشجيع على دعم الشركات الناشئة ورواد الأعمال الصناعيين، وهو توجه يعكس بالفعل إدراكًا بأهمية الابتكار كعنصر رئيسى فى التنافسية ، إلا أن الفجوة الحقيقية تكمن فى نقص برامج تأهيل العمالة الصناعية لمواكبة التحول الرقمى، وهى مسألة جوهرية لضمان استدامة هذا التحول التكنولوجى.