رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

فى ذكرى رحيله.. سيد درويش بين العقاد وعبد الحليم حافظ


25-9-2025 | 17:07

.

طباعة
بقلـم: أشرف غريب

مرت هذه الأيام الذكرى الثانية بعد المائة لوفاة فنان الشعب خالد الذكر الموسيقار سيد درويش، الاسم الأبرز فى تاريخ الموسيقى الشرقية والرجل الذى حررها من قيود الصنعة العثمانية، وأخذ بها إلى آفاق القرن العشرين وما بعده، وفى كل مرة تحل فيها ذكرى ميلاد أو رحيل سيد درويش أتذكر الحرب بالوكالة التى خاضها ضده عبد الحليم حافظ لصالح الموسيقار محمد عبد الوهاب حين قال تصريحه الشهير: « إذا كان سيد درويش هو الشمعة التى أضاءت طريق الموسيقى العربية فإن عبد الوهاب هو المصباح، فهل كان سيد درويش حقا مجرد شمعة؟

الحقيقة لا .. إذ ليس هناك فى تاريخ الموسيقى العربية من هو أطول قامة وأبقى أثرا من فنان الشعب، وربما يتصور البعض أن نجاح سيد درويش فى تحقيق نقلته الموسيقية رغم ركام عقود الحكم العثمانى لمصر يعنى أن أحدا كان من الممكن أن يأتى بعده ويحدث الأثر ذاته فى موسيقانا الشرقية، وهذا التصور صحيح فقط من الناحية النظرية.

لكن ينبغى الانتباه إلى أن الرجل جاء فى ظروف بالغة الاختلاف كان فيها المجتمع المصرى كله فى حالة فوران ثورى، وكل شىء فيه قابل للتغير، وقبول الخروج على الواقع، وهى ظروف مواتية للتمردعلى المألوف طالما توافرت العقلية صاحبة المشروع الواضح لتحقيق هذه الثورة، ويكفيه أنه كان البادئ بالسباحة ضد التيار، وعليه فإن مناخا مناسبا كهذا ربما لم يكن يتوفر على ذلك النحو لمن أتوا من بعد سيد درويش حتى لو أوتوا من الموهبة كتلك التى وهبها له الله، عاش سيد درويش إذن واحدا وثلاثين عاما بين مولده سنة 1892 ورحيله عام 1923 كانت من أكثر الفترات تقلبا وتحولا فى تاريخ مصر الحديث، واستفاد الرجل من تلك التطورات جميعها ما انعكس على الموسيقى التى أبدعها.

وبنظرة سريعة وعابرة يمكن تلمس ذلك الأثر الكبير الذى تركه فنان الشعب فى موسيقانا الشرقية، فمسرحيا ارتقى بفن الأوبريت بعد الدور البارز الذى كان قام به الشيخ سلامة حجازى فى هذا المجال، ويكفيه العشرة الطيبة والبروكة وكيلوباترا ومارك انطونى الذى أكمله من بعده تلميذه محمد عبد الوهاب، فقد اعتمد على التصوير الموسيقى كما فى أغنيات الطوائف: العربجية والسقايين والممرضين وغيرها، وأحسن من الاستخدام الدرامى والحوارات الغنائية كما فى أغنية «الشيطان» فى مسرحية البروكة , وأغنية «اتمخطرى يا عروسة» فى «العشرة الطيبة», وهذه المواصفات كان يفتقدها المسرح الغنائى قبل الشيخ سيد درويش.

وربما لم يجدد الموسيقار الراحل كثيرا فى شكل الدور كقالب غنائى لكن يحسب له تنوع مقاماته الموسيقية واستحداث استخدام بعضها بصورة لم تكن سائدة قبله، وتحرر إيقاعاته نسبيا من رتابتها، أما الطقاطيق والموشحات والقصائد والديالوجات والمواويل والأناشيد الوطنية الحماسية، فقد أبدع درويش فى صياغتها والسير بها نحو الأداء التعبيرى الذى يناسب المعنى دون الارتكان إلى التطريب العثمانلى المعتاد فى ذلك الوقت مع استخدام بعض الإيقاعات الجديدة كالمارش على سبيل المثال، ووفق جامعى تراث فنان الشعب ودارسى موسيقاه فقد قدم الرجل واحدا وثلاثين عملا مسرحيا ضمت ما يقرب من مائتن وأربعين أغنية بخلاف أعماله الغنائية المنفردة، ولا يجب إغفال ما لوحظ على بعض ألحان سيد درويش من إدخال الصياغة البوليفونية (تعدد الأصوات اللحنية)، ما يعنى أن رغبة سيد درويش فى التجديد لم تكن لتتوقف عند هذا الحد العظيم الذى تركه، وهو ما يتجلى مثلا فى «دقت طبول الحرب» من رواية «شهر زاد» و»ليه يا قلبى وعقلى» من رواية «البروكة»، كما اعتمد على التدوين الموسيقى لأعماله وهو ما حفظ لنا بعضا من تراثه الموسيقى.

والشىء المدهش أن كل هذا الإرث العظيم والعطاء المبهر أنجزه فنان الشعب فى ست سنوات تقريبا بين عامى 1917 حين قرر ترك الإسكندرية والاستقرار نهائيا فى القاهرة وبين رحيله المفاجئ عام 1923 عشية عودة الزعيم سعد زغلول من الخارج وكأن الرجل كان يدرك دنو أجله سريعا، فراح يفيض من عبقريته ما يعجز أن يقوم به غيره فى عشرات السنين، وربما هذا الذى دعا الأديب والمفكر الكبير عباس محمود العقاد لأن يكتب بعد عامين من رحيل سيد درويش منتقدا حالة الإهمال التى لازمت فنان الشعب فى حياته وطوال عامى رحيله من جانب الحكومة المصرية فى ذلك الوقت، بينما الصيت والاهتمام لأشخاص يأخذون الفن وينزلون به إلى أسفل بحسب تعبيره، حيث يقول:

« لو كان سيد درويش من آحاد هذه الفئة لما لِيمَ كبير ولا صغير على إهماله، ولما لحق هذه الأمة ضير من غفلتها عن تثمين مكانته وتكميل شوطه، ولكنه رأس طائفة لم يتقدمها متقدم، وطليعة مدرسة لم يسبق لها مثيل فى تاريخ الموسيقى المصرية، ولا أحاشى أحدا ممن اتصل بنا نبأهم فى العصر الأخير.. فضل سيد درويش – وهو أكبر ما يذكر للفنان الناهض من الفضل – أنه أدخل عنصرى الحياة والبساطة فى التلحين والغناء بعد أن كان هذا الفن مثقلا كجميع الفنون الأخرى بكثير من أسجاعه وأوضاعه وتقاليده وبديعاته وجناساته التى لا صلة بينها وبين الحياة، فجاء هذا النابغة الملهم فناسب بين الألفاظ والمعانى وناسب بين المعانى والألحان وناسب بين الألحان والحالات النفسية التى تعبر عنها...»

نعم لقد كان سيد درويش – كما قال العقاد – طليعة مدرسة لم يسبق لها مثيل فى تاريخ الموسيقى المصرية، فهل كان مجرد شمعة كما اعتبره أنصار محمد عبد الوهاب وعلى رأسهم تلميذه النجيب عبد الحليم حافظ؟!

 
 
 

الاكثر قراءة