لم يمضِ يومان على وصولى إلى الولايات المتحدة الأمريكية للمشاركة فى زمالة دولية للصحفيين، حتى انقلبت وسائل الإعلام رأسًا على عقب بسبب حادث مقتل تشارلى كيريك، الناشط اليمينى الأمريكى، فى ولاية يوتاه أثناء إلقائه خطابًا فى الجامعة، بعد حوالى أسبوع من حادثة كنيسة البشارة الكاثوليكية، فى الحى الجنوبى الغربى من مدينة مينيابوليس، شعرت بمدى هشاشة الشعور بالأمان هنا. لم يكن الأمر مجرد خبر عن حادثة إطلاق نار، بل تجربة واقعية صدمتنى على الفور. المشهد هنا ليس مجرد أرقام أو أخبار، بل رائحة الورود فى النصب التذكارى للأطفال، وصمت المدينة الحزين، وصوت الضحايا الذى يبدو كأنه ما زال يتردد فى الأرجاء، جعلنى أشعر بأن هذه البلاد، رغم كل تاريخها الطويل، تعيش فى دوامة من العنف السياسى والاجتماعى.
قبل أيام من وصولى إلى ولاية مينيسوتا، المعروفة بمدينة العشرة آلاف بحيرة، شهدت الولاية الهادئة حادثة إطلاق نار جماعى فى كنيسة البشارة الكاثوليكية فى الحى الجنوبى الغربى من مدينة مينيابوليس. أسفرت الحادثة عن مقتل ثلاثة أشخاص بمن فيهم الجانى، وإصابة ما لا يقل عن عشرين آخرين، من بينهم زوجة مدير الزمالة التى كانت تقف بجوار أحد الأطفال الذين قتلوا. وعند سؤالى للمدير عن شعوره، قال: «أنا أعلم أن هذه الحوادث تقع، لكن لم أكن أتوقع أن تحدث لى شخصيًا».
ترك الحادث أجواء حزينة فى المدينة، حيث أقام أفراد المجتمع نصبًا تذكاريًا فى المدرسة لتكريم الضحايا. حين وطأت قدمى المكان، كانت رائحته تفوح مثل الورد، الذى تضعه العائلات يوميًا تخليدًا لذكرى الأطفال، يعمّ المكان صمت حزين يعلوه صوت الأطفال الذين عادوا إلى مدرسة الكنيسة.
الحديث هنا فى الولايات المتحدة اليوم يرتكز على حوادث العنف بشكل عام، وخصوصًا العنف السياسى. فقبل أشهر، فى 14 يونيو 2025، اُغتيلت ميليسا هورتمان، ممثلة ولاية مينيسوتا، بإطلاق نار فى منزلها فى بروكلين بارك، إلى جانب زوجها مارك. وفى وقت سابق من ذلك اليوم، أُصيب عضو مجلس الشيوخ جون هوفمان وزوجته إيفيت فى منزلهما القريب، ونُقلا إلى المستشفى. وألقت الشرطة القبض على المشتبه به، فانس لوثر بولتر، بعد مطاردة واسعة، ووجهت إليه تهم القتل وحيازة أسلحة نارية.
وبالعودة إلى حادثة تشارلى كيريك، أعلنت شرطة يوتاه عن مكافأة بمبلغ مائة ألف دولار أمريكى على مَن يعطى معلومات عن منفذ الحادثة الذى انتشرت صوره فى وسائل الإعلام، وبعد ذلك بأيام، تم القبض على منفذ العملية، تايلر روبنسون، الذى قالت عنه وسائل الإعلام إنه كان متشبعًا بأيديولوجية يسارية متطرفة.
وفى إطار الزمالة، التقيت فى اجتماع خاص مع أستاذ العلوم السياسية فى جامعة هاملاين، ديفيد شولتز، الذى شارك رؤيته حول الوضع السياسى والاجتماعى فى الولايات المتحدة فى سياق هذه الأحداث المأساوية. أوضح أن التاريخ الأمريكى مليء بأنماط متكررة من الاستقطاب والعنف، من الثورة الأمريكية والحرب الأهلية إلى الحركات الحقوقية فى الستينيات، بما فيها حقوق المرأة وحقوق السود. وقد تم اغتيال أو محاولة اغتيال عدد من الرؤساء على مر التاريخ، ما يبرز دور العنف فى الحياة السياسية الأمريكية.
وأشار إلى أن الوضع الحالى يختلف بسبب توافر الأسلحة النارية بشكل غير مسبوق، حيث تمتلك الولايات المتحدة ما بين 400 و500 مليون سلاح، مما يجعل العنف الشخصى والسياسى أسهل من أى وقت مضى. كما لعبت وسائل التواصل الاجتماعى دورًا فى خلق «فقاعات» تتيح للناس التفاعل فقط مع مَن يشاركونهم الرأى، ما يعزز التطرف ويشجع الشباب على تصعيد السلوك العدوانى للحصول على اهتمام أكبر. ولفت أيضًا إلى الفجوة الاقتصادية الكبيرة فى الولايات المتحدة، حيث تشير مؤشرات عدم المساواة إلى أن البلاد من بين الأعلى بين الديمقراطيات الكبرى، ما يولد شعورًا بالغضب والإحباط ويزيد من احتمالية العنف السياسى. هذا الوضع يجعل أمريكا أكثر هشاشة أمام الاستغلال الخارجى من دول مثل الصين وروسيا، وهو ما يؤثر ليس فقط على الداخل الأمريكى، بل على الديمقراطية العالمية؛ لأن انشغال الولايات المتحدة بصراعاتها الداخلية يضعف دورها القيادى فى الملفات الدولية. وأكد شولتز أن العنف السياسى للأسف فعال فى تغيير مسار التاريخ؛ فالرصاص يمكن أن يسكت صوتًا أو يوقف شخصًا معينًا، وله تأثير حقيقى رغم كره الجميع للعنف.
وخلال إقامتى فى ولاية مينيسوتا، قمت أيضًا بزيارة نصب جورج فلويد التذكارى فى مدينة مينيابوليس، وهو رجل أمريكى من أصول إفريقية، قُتل فى مايو 2020 على يد شرطى أبيض أثناء توقيفه. أثار مقتل فلويد احتجاجات واسعة داخل الولايات المتحدة والعالم ضد وحشية الشرطة والعنصرية النظامية، وأصبح رمزًا لحركة «حياة السود مهمة». المشهد هناك مختلف، لكنه يحمل نفس الشعور بالحزن والثقل الذى يرافق كل مَن يفقد حياته ضحية العنف. تم تصميم النصب بطريقة تجعل الزائر يقف أمام التاريخ والحاضر فى آن واحد، حيث تتداخل قصص الضحايا مع صمت المكان، وليتذكر الجميع أن العنف ليس مجرد حادثة واحدة، بل ظاهرة متكررة تؤثر على المجتمع بأكمله.
ويُعتبر العنف بالسلاح قضية يومية فى الولايات المتحدة، حيث تشير الإحصاءات إلى أن حوالى 40 فى المائة من الأسر تمتلك سلاحًا ناريًا، مع وجود ملايين من البنادق والمسدسات فى التداول. هذا الانتشار الهائل للأسلحة يجعل أى نزاع محتمل يتصاعد بسرعة إلى عنف قاتل. حوادث إطلاق النار الجماعى، سواء فى المدارس أو أماكن العبادة أو الأماكن العامة، أصبحت مألوفة بشكل مؤلم، ما يترك المجتمع فى حالة توتر دائم ويضعف شعور الأمان لدى السكان .ولا يقتصر الأمر على العنف المسلح فقط، فالعنف بشكل عام، سواء كان عنفًا سياسيًا أو اجتماعيًا، أصبح جزءًا من النسيج اليومى للحياة الأمريكية، من اغتيالات الشخصيات العامة إلى النزاعات المحلية، وحتى التوترات العرقية والاجتماعية. كل هذا يجعل الولايات المتحدة تواجه تحديًا كبيرًا فى معالجة العنف وتأثيراته على المجتمع بأكمله.
ومع بدء تساقط أوراق الخريف فى شوارع مينيسوتا، يبقى الشعور بعدم اليقين والخوف من العنف بالسلاح أكبر مخاوف الشارع الأمريكى، الذى يسعى للعيش بأمان فى وقت يعلو فيه صوت الانقسامات والعنف السياسى.
