وسط التوترات الإقليمية، تشهد القارة العجوز بالفعل حالة من التوتر والتأهب بسبب الحرب الأوكرانية، ويعد اختراق المسيّرات الروسية الأجواء البولندية تحديًا روسيًا لجاهزية الناتو ولأمريكا التى تسعى إلى فك الارتباط بأوروبا. الأمر الذى جعل الموقف يتجاوز مجرد حادثة أمنية إلى أزمة قد تختبر صلابة المادة الرابعة من ميثاق الناتو، وربما تقترب من خطوط المادة الخامسة التى تعنى الدفاع المشترك. ليبقى السؤال: ما التأثيرات المحتملة على الأمن الإقليمى إذا تكررت هذه الحوادث وكيف يمكن أن تغير التوازن الأمنى فى أوروبا الشرقية؟
بداية من مصنع أمريكى فى غرب أوكرانيا، ومجمعين دبلوماسيين أوروبيين، ومبنى حكومى أوكرانى رئيسى فى كييف، والآن بولندا. فعلى مدار ثلاثة أسابيع تقريبًا، ضربت طائرات روسية بدون طيار وصواريخ مواقع ذات حساسية متزايدة بالنسبة لأوكرانيا وحلفائها الغربيين، وبلغت ذروتها بوابل من الطائرات الروسية بدون طيار التى حلّقت فوق بولندا، إحدى دول حلف شمال الأطلسى (الناتو) وأصبحت رومانيا ثانى دولة فى حلف الناتو تبلغ عن وجود طائرة بدون طيار فى مجالها الجوى.
لعقود خشى المخططون العسكريون الأمريكيون والأوروبيون شيئًا آخر، وهو هجوم مفاجئ أشبه بضربة نووية شاملة من الاتحاد السوفييتى أو روسيا، لكن روسيا تجاوزت الخط الأحمر الغربى تدريجيًا فى حربها على أوكرانيا، لتقيس ردود أفعالها تدريجيًا من خلال التصعيد البطيء والحفاظ على مستوى معين من الإنكار، وفقًا لمسئولين ومحللين أوكرانيين.
تكشف الحادثة عن تصعيد خطير فى استخدام الطائرات الروسية بدون طيار كأداة للضغط العسكرى على حدود الناتو، خاصة فى ظل غياب رد موحّد وحازم من الحلف. فى ضوء هذا التطور، تقدّم رئيس الوزراء البولندى دونالد توسك والرئيس كارول ناوروكى بتوصية مشتركة لتفعيل المادة الرابعة من حلف الناتو، والمعروفة أيضًا باسم معاهدة واشنطن، والتى تنص على حق الدول الأعضاء فى الحلف بعقد مشاورات مشتركة، إذا اعتبر أى منها أن حدوده أو استقلاله السياسى أو أمنه مهدد، وتتيح هذه المادة آلية للتحرك الدبلوماسى فى مواجهة التهديدات المحتملة، قبل الانتقال إلى خطوات لاحقة ذات طابع عسكرى.
شدّد رئيس الوزراء، دونالد توسك، على خطورة المنحى الجديد للهجوم، قائلًا: «تم تسجيل تسعة عشر تجاوزًا وانتهاكًا، فهذه هى المرة الأولى منذ اندلاع الحرب التى يحلّق فيها عدد كبير من الطائرات المسيّرة مباشرة من بيلاروس، وليس من فوق الأراضى الأوكرانية». وفى المقابل، ظهرت تحركات عسكرية بولندية عاجلة تجاه الحدود مع بيلاروسيا، وأغلقت المعابر وسط مخاوف من المناورات العسكرية الروسية- البلاروسية المرتقبة تحت اسم “زاباد 2025 أظهرت بولندا استعدادها للقتال، بنشر مقاتلات لها وأخرى من حلف «الناتو» فى عملية «احترازية» فى المجال الجوى البولندى بسبب تهديد من ضربات من مسيرات فى مناطق مجاورة بأوكرانيا، وتم إغلاق مطار لوبلين شرقى البلاد، كما شارك جنود ألمان فى جهود الدفاع الجوى، وتحديدًا وُضع 180 جنديًا من الجيش الألمانى، من وحدة الدفاع الجوى المتمركزة إلى جانب الباتريوت فى مدينة رزيسزو جنوب شرق بولندا، فى حالة تأهب، وقدّموا معلومات الرادار لتتبع الأهداف وتحديدها للقوات البولندية وقوات حلف الناتو، والذى سيعزز دفاعاته على جبهته الشرقية.

فى هذا السياق، أوضح الدكتور أديب السيد، الخبير فى الشئون الروسية والدولية، لـ«المصوّر» أن الجانب الروسى لم يقر صراحة بأن المسيّرات التى اخترقت الأجواء البولندية هى روسية، أو أنها انطلقت من الأراضى التى تسيطر عليها، واكتفت وزارة الدفاع الروسية بالقول إنها لم تخطط لاستهداف أى مواقع أو منشآت فى الأراضى البولندية، هذا على الصعيد العسكرى. أما على الصعيد السياسى، فلا يخفى على أحد أن الدول الأوروبية، وخاصة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وبولندا، لا تريد التوصل إلى تسوية للنزاع فى أوكرانيا يسمح لروسيا بالحصول على أى مردود، سواء على صعيد الأقاليم التى ضمتها أو تعزيز نفوذها مجددا فى الفضاء السوفييتى السابق. وبالتالى، فإن الضجة التى أثارتها بولندا، ومطالبتها من الدول الأعضاء فى حلف الناتو تفعيل المادة الرابعة، وهى اللجوء إلى إجراء مشاورات عاجلة لتقرير مدى الخطر الذى يتهدد دولة عضو فى الحلف، وهذا يهدف بالدرجة الأولى إلى توجيه عدة رسائل أولا إلى روسيا، بأن دول الحلف لن تتهاون مع أى استهداف للدول الأعضاء، وثانيا إلى إدارة الرئيس الأمريكى ترامب بعدم السعى لإنجاز تسوية فى أوكرانيا بأى ثمن يرضى روسيا، وعدم السماح لموسكو بأن تحصل على غنائم إضافة إلى إقناع الجانب الأمريكى بأن روسيا لا تسعى للسلام.
ولكن يبدو جليا أن قيادة حلف الناتو لن تلجأ إلى تفعيل المادة الخامسة، وهى التى تقضى بالتدخل عسكريا لحماية الدول الأعضاء؛ لأنها لا تريد الدخول فى مواجهة عسكرية غير مضمونة النتائج مع روسيا، ولكنها تريد أن تعيد الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحظيرة العسكرية المناوئة لروسيا وإقناع واشنطن باستئناف الإمدادات العسكرية والمالية إلى أوكرانيا من أجل تمكين الجيش الأوكرانى من مواصلة القتال ضد روسيا، بغض النظر عن حجم الخسائر التى يتكبدها الجيش الأوكرانى.
هذه الدول الأوروبية لا تريد إنهاء النزاع فى أوكرانيا تفاوضيا، وتريد استنزاف القدرات العسكرية والاقتصادية الروسية؛ فقد طالبت بضرورة الحصول على ضمانات أمنية متشددة لأوكرانيا مقابل التوصل إلى تسوية مع روسيا، كما طالبت بضمان انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، أو فى أسوأ الأحوال نشر قوات غربية فى أوكرانيا للحيلولة دون تكرار الهجمات الروسية. الدول الأوروبية تدرك تماما أن روسيا ترفض من ناحية المبدأ انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، ولا ترى مبررا لنشر قوات غربية فى أوكرانيا فى حال تم التوصل إلى اتفاقية سلام. وفى المقابل، فإن روسيا نفسها باتت تطالب بضمانات أهمها وقف التمدد العسكرى لحلف الناتو نحو حدودها. وعلى ضوء هذا التضارب والتباين فى مواقف الجانبين، فإن احتمال التوصل إلى نهاية قريبة للنزاع ليس واردا على المدى المنظور.
وفيما يخص إلى أى مدى يمكن اعتبار هذه الانتهاكات عملا استفزازيا أو تصعيدا متعمدا من جانب روسيا، وما المؤشرات التى تدعم أو تنفى ذلك؟ أوضح أديب أن بإمكان أى خبير عسكرى أن يؤكد أن احتمال سقوط صواريخ أو طائرات مسيّرة فى أراضى دول ثالثة مجاورة لمنطقة النزاع يبقى قائما بنسبة مائة بالمائة ولا يمكن استبعاده أو ضمان عدم حدوثه، ومع ذلك فإن وزارة الدفاع الروسية أعلنت أن المسيّرات التى تم استخدامها فى قصف منشآت فى غرب أوكرانيا، أى بالقرب من الحدود البولندية، لا تتجاوز 700 كيلومتر. وهى بالتالى لم تكن تستهدف منشآت بولندية على الإطلاق، خاصة أن مواقع سقوط المسيّرات فى الأراضى البولندية تبعد حوالى 800 كيلومتر عن خطوط القتال. والأكثر من ذلك عرض الجانب الروسى على الجانب البولندى إجراء لقاءات بين العسكريين من كلا الجانبين للوقوف على معطيات هذا الحادث ولكن الجانب البولندى رفض هذا العرض. ويمكن أن نفهم من التوضيح الروسى أن موسكو ليست هى الأخرى فى صدد الدخول فى مواجهة مع الحلف الحربى الغربى، ولكنها تبقى على السلاح جاهزا للتعامل مع أى تطور ميدانى. وليس من قبيل الصدفة أن القوات الروسية والبيلاروسية بدأت بإجراء مناورات واسعة النطاق هدفها توجيه رسالة واضحة بأن البلدين يدركان أنهما فى حالة حرب، وثانيا لتحذير بولندا وحلف الناتو من القيام بأى مغامرات غير محسوبة.
