تحت شعار «لنغلق كل شيء»، شهدت فرنسا موجة واسعة من الاحتجاجات فى جميع أنحاء البلاد، حيث أغلق المتظاهرون الطرق، وأضرموا النيران فى صناديق القمامة، واشتبكوا مع الشرطة التى ردت بالغاز المسيّل للدموع؛ للتعبير عن غضبهم من سياسات الرئيس إيمانويل ماكرون وتخفيضات الميزانية المقترحة، فى ظل أزمة سياسية ومالية حادة تجتاح البلاد.

وتزامن الغضب الشعبى فى شوارع فرنسا مع تعيين سيباستيان لوكورنيو، وزير الدفاع السابق، رئيسًا للوزراء، بعد استقالة سلفه فرانسوا بايرو إثر حجب الثقة عن حكومته، ليصبح سابع رئيس للوزراء فى عهد ماكرون، والخامس منذ بداية ولايته الثانية فى عام 2022، وهو أمر غير مسبوق منذ اعتماد نظام الجمهورية الخامسة عام 1958.
وتعزى هذه الفوضى السياسية إلى قرار ماكرون المثير للجدل العام الماضى بالدعوة إلى انتخابات مبكرة، حيث أثارت النتائج اللافتة التى حققها حزب التجمع الوطنى اليمينى المتطرف فى انتخابات البرلمان الأوروبى فى مايو 2024 استياء الرئيس الفرنسى، مما دفعه إلى حل البرلمان وإجراء تصويت جديد خسر فيه حزبه مقاعد لصالح أقصى اليمين وأقصى اليسار، تاركًا فرنسا فى برلمان منقسم.
وفى ظل انتقادات على تعيينه من أحزاب اليمين واليسار المتطرفين، يواجه لوكورنيو مهمة شاقة تتمثل فى إيجاد توافق فى الآراء فى برلمان منقسم وإقرار ميزانية 2026. أما الرئيس ماكرون، فهو فى موقف لا يُحسد عليه، حيث ازدادت المطالبة باستقالته، ما يعكس انهيار الثقة المتزايد فى الرئيس الفرنسى، ويثير تساؤلات حول مصيره.

تعليقًا على ما سبق، قال خالد شقير، الصحفى المختص بالشأن الفرنسى، إن الرئيس ماكرون يواصل سياسة رفض أقصى اليمين وأقصى اليسار، حيث فاجأ الجميع باختياره مقربًا آخر له ألا وهو سيباستيان لوكورنيو، وزير الدفاع، لما يمتاز به من هدوء واتزان، وقدرة على إدارة الحوار ببراعة مع الجميع دون إقصاء أحد، فى محاولة لتفادى الأزمة والاحتقان، والوصول إلى حل وسط لا يغضب، لا اليمين بزيادة الضرائب، ولا يغضب اليسار بتقليص المساعدات. ولهذا طالب ماكرون رئيس وزرائه الجديد بأهمية البدء بلقاء ممثلى الأحزاب الفرنسية، حيث تعد موازنة العام القادم من أهم الملفات. ويرى «شقير» أن لوكورنيو سيدخل بعض التعديلات على خطة بايرو التقشفية، والتى أغضبت الجميع، لدرجة أن كل ستة من كل عشرة فرنسيين أكدوا أن ماكرون وحكوماته فشلت فشلا زريعًا فى إيجاد الحل المناسب.
أما فيما يتعلق بتظاهرات العاشر من سبتمبر، فأكد «شقير» أن انتفاضة الشوارع الفرنسية جاءت احتجاجًا على خطة التقشف، التى أعلنها «بايرو»، بإلغاء عطلتين رسميتين، وزيادة الضرائب على الطبقات المتوسطة والفقيرة، مستهدفة توفير 44 مليار يورو، ما أدى لتراكم الغضب الشعبى، بسبب ارتفاع الديون العامة، لتبلغ نسبتها 114 فى المائة من إجمالى الناتج المحلى الإجمالى، وتخفيض الإنفاق على الخدمات العامة، مثل: الصحة والتعليم. وبلغت التظاهرات التى شهدتها معظم المدن الفرنسية حوالى 300 مظاهرة، تظاهر فيها حوالى 200 ألف حسب المنظمين، و150 ألف حسب وزارة الداخلية. وهناك دعوة أخرى للتظاهر يوم 18 سبتمبر، يتوقع «شقير» أن تكون قوية لأن التى دعت إليها هذه المرة الفيدراليات العمالية.
وختم «شقير» حديثه، قائلًا إن التحدى أمام لوكورنيو صعب، ولكنه ليس مستحيلًا. فهو منذ فترة على تواصل مع اليمين المتطرف (على مائدة عشاء)، والتى إن نجح فى إقناعه ستمر حكومته وهذا ما أرجحه، وأما إذا فشل فستدخل فرنسا فى حلقة مفرغة، وسيكون الرئيس ماكرون أمام خيارين، كلاهما مر: إما اختيار رئيس وزراء آخر من اليسار (الاشتراكيين)، أو الدعوة إلى حل البرلمان وانتخابات تشريعية جديدة، وهى فرضية مستبعدة، لكنها مطروحة كذلك فى حالة انسداد جميع الطرق أمام رئيس الوزراء الجديد.

من جانبه، أوضح الدكتور طارق وهبى، خبير العلاقات الدولية، أن بعد رفض 146 نائبًا إعطاء الثقة لبايرو، كان من الضرورى على الرئيس ماكرون أن يلجأ إلى الدستور ويقوم بتعيين رئيس جديد للحكومة. لكن ما حصل هو تسرع من جانب ماكرون بتعيين سابستيان لوكورنيو فورًا. وربما خشى ماكرون من نهار العاشر من سبتمبر، والذى أثبت قدرة وزارة الداخلية على استيعاب كل التحركات الشعبية التى حصلت فى هذا اليوم، حيث اعتقلت الوزارة 600 رجل وامرأة لمخالفتهم القانون العام.
وأكمل «وهبى» أن القضية لم تنتهِ هنا؛ لأن هناك تحديات وأزمات كبيرة داخل النظام السياسى الفرنسى، خصوصا أن القضية ليست فقط تعيين رئيس جديد للحكومة، بل هى كيفية إدارة مشروع ينقذ فرنسا من أزمتها الاقتصادية، وأولها المديونية العامة. ويعطى أيضًا نوعًا من الانفتاح إلى ائتلاف حكومى يبدأ من الحزب الاشتراكى، وينتهى بالحزب الجمهورى مرورًا بالوسط الذى يشكله الرئيس ماكرون وأحزاب الائتلاف الرئاسى «آفاق» و«موديم».
كما أكد أن المشهد السياسى الحالى معقد للغاية؛ لأن سيباستيان، الذى كان وزيرًا للدفاع، له نمط معين فى مفهوم المفاوضات، حيث صرح بأنه لا يريد أن يرجع إلى المفاهيم الماضية، بل يريد أن يفتتح عهدًا جديدًا. وهنا السؤال: هل هذا العهد الجديد الذى قال عنه خلال لقائه بالرئيس السابق نيكولا ساركوزى، آتٍ من يمين الوسط؟ وإلى أى مدى يمكن أن ينفتح وبالتحديد على الحزب الاشتراكى الذى يملك 66 نائبًا فى البرلمان الفرنسى؟.. فالحزب يستطيع مساعدته على تشكيل حكومة ضمن ائتلاف يعطى إما حكومة مع أغلبية نسبية أو مع أغلبية مطلقة. هذا إذا أراد الانفتاح على أحزاب الخضر والحزب الشيوعى.
وفيما يتعلق بحل البرلمان، أوضح «وهبى» أن حل البرلمان بدوره متعلق بالأجندة الانتخابية فى فرنسا، وأهمها انتخابات البلدية التى ستعقد فى 15 مارس و22 مارس المقبل. لذا الأفضل إذا تم التوجه لحل البرلمان أن يتم الجمع بين الانتخابات البلدية والبرلمانية فى هذين اليومين؛ لأنه لا يمكن أن نطلب من الفرنسيين أن ينتخبوا مرتين فى أقل من شهر، وفقًا للمعايير الانتخابية الفرنسية. كما أشار إلى أن حل البرلمان مطلب من الأطراف من أقصى اليمين واليسار الراديكالى، حزب التجمع الوطنى وفرنسا الأبية، حيث يريدان أن يظهرا أن لديهم قوة انتخابية فى الشارع للوصول إلى تشكيل عدد أكبر من المقاعد النيابية.
وعن تقدم أقصى اليسار بطلب إزاحة ماكرون، قال «وهبى» إنه ممكن دستوريًا. لكن يجب أن يمر عبر ما يسمى باقتراع داخل المجلس النيابى ومجلس الشيوخ، وموافقة ثلاثة أرباع نواب المجلسين. وهذا يعتبر فى هذه اللحظة غير ممكن؛ لأن المجلسين لا يسيطر عليهما اليسار الراديكالى. واختتم «وهبى» كلامه بأن الحقيقة تكمن فى كيفية تقبل الرئيس ماكرون لكل هذه الطروحات، وكيف سيفهم سيباستيان آلية الوصول لمجلس الوزراء والتعامل مع ما يريده الشعب الفرنسى من تغييرات، خاصة أن التعقيدات مستمرة فى فرنسا، حيث يستعد القطاع الخاص والنقابات لمظاهرة كبيرة فى 18 سبتمبر المقبل.