رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

من أمريكا إلى مصر.. هل كل زيادة فى النقود تعنى تضخماً؟


18-9-2025 | 22:20

.

طباعة
بقلم: د. محمد فؤاد

منذ أكثر من قرن، ارتبط النقاش الاقتصادى بفكرة شديدة البساطة، مضمونها أنه إذا زاد حجم النقود فى الاقتصاد، سترتفع الأسعار بالضرورة، إذ لخصت هذه الرؤية - روجت لها المدرسة النقدية الكلاسيكية، وتبناها مفكرون كبار مثل ميلتون فريدمان- العلاقة كلها فى جملة شهيرة: «التضخم دائماً وأبداً ظاهرة نقدية».

لكن ما كشفته التجارب العملية خلال العقود الأخيرة، أن هذه القاعدة لم تعد تصمد كما هى أمام الواقع، فالنقود اليوم ليست مجرد أوراق مطبوعة، بل منظومة معقدة من الودائع والقروض والأدوات المالية، والأهم من ذلك، أن أثر النقود يعتمد على كيفية تدفقها داخل الاقتصاد، وليس على حجمها وحده.

 

وقد عاد هذا النقاش بقوة بعد تقديرات تشير إلى أن المعروض النقدى العالمى بلغ 140 تريليون دولار فى منتصف 2025 فرغم أن الرقم هائل وصادم، لكنه لم ينعكس تلقائياً فى صورة تضخم عالمى كارثي، وهنا التساؤل الجوهري: لماذا؟

عادة ما ترتبط كلمة «نقود» بالعملة الورقية التى نمسكها فى أيدينا، لكن الحقيقة أن هذه الأوراق لا تمثل سوى جزء ضئيل من الكتلة النقدية، فالمعروض النقدى الواسع يشمل الودائع البنكية تحت الطلب، وأيضا حسابات التوفير والأموال شبه النقدية، وكذلك القروض التى تمنحها البنوك للشركات والأفراد.

بمعنى آخر، النقود الحديثة تُخلق أساساً من خلال النظام المصرفي، وليس من خلال المطبعة.. مثلا عندما يمنح بنك قرضاً لشركة، يسجّل هذا المبلغ فى الحساب كرصيد جديد، ويصبح جزءاً من المعروض النقدي، حتى لو لم تُطبع ورقة واحدة.

وبما أن التضخم يحتاج إلى شرطين أساسيين ليحدث، هما أن تتوافر سيولة إضافية، وأن تُضخ هذه السيولة فى شراء سلع وخدمات لا يستطيع العرض تلبية الطلب عليها، فالنقود الحديثة قد لا يكون لها علاقة مباشرة به.

لأنه إذا بقيت السيولة داخل البنوك، أو دارت بين المؤسسات المالية الكبرى فقط، فلن يشعر المستهلك العادى بوجودها، والنتيجة أن المعروض النقدى يكبر، لكن الأسعار لا ترتفع بنفس القدر.

وهنا تظهر أهمية سرعة دوران النقود، أى مدى انتقالها من يد إلى يد داخل الاقتصاد، فإذا تباطأت، قد نحتاج إلى توسع أكبر فى حجم النقود فقط للحفاظ على نفس مستوى النشاط الاقتصادي.

الولايات المتحدة: «التيسير الكمى مقابل الشيكات المباشرة»

بعد الأزمة المالية عام 2008 ضخّ الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى تريليونات الدولارات فى الأسواق عبر ما يسمى بالتيسير الكمي، والنتيجة أن أسواق الأسهم والعقارات ارتفعت بقوة، لكن التضخم الاستهلاكى بقى ضعيفاً لعقد كامل تقريباً.

لكن الأمر اختلف تماماً فى 2020 مع جائحة كورونا، فقد قررت الحكومة إرسال شيكات مباشرة للمواطنين، ووفرت دعماً سخياً للعاطلين عن العمل، وهنا انتقلت السيولة بسرعة إلى جيوب الناس، وزاد الطلب على السلع والخدمات، فانفجر التضخم ووصل إلى أعلى مستوياته منذ الثمانينيات.

وهنا، تحديداً، برزت أطروحة بول كروجمان الحاصل على جائزة نوبل، الذى تحدى الرؤية الفريدمانية التقليدية، فقد رأى أن التوسع النقدى عبر شراء الأصول (التيسير الكمي) لا يؤدى بالضرورة إلى تضخم إذا انهارت سرعة دوران النقود وبقيت السيولة محبوسة فى ميزانيات البنوك والأسواق المالية. بينما حين تحركت النقود مباشرة إلى جيوب المستهلكين خلال جائحة كورونا، انفجر التضخم فوراً. بالنسبة لكروجمان، هذا الدليل العملى يُظهر أن استقرار سرعة دوران النقود ليس أمراً مضموناً كما افترض فريدمان، وأن المسار الذى تسلكه السيولة هو العامل الحاسم.

وفى منطقة اليورو، اتبع البنك المركزى الأوروبى سياسة توسعية مشابهة، لكنه واجه مشكلة ضعف الطلب الكلى بسبب التقشف والبطالة، والنتيجة أن السيولة الهائلة لم تتحول إلى موجة تضخمية كبيرة، بل بقيت الأسعار شبه مستقرة لسنوات طويلة.

أما اليابان فتمثل حالة خاصة، فمنذ التسعينيات، لجأت إلى توسع نقدى ضخم وخفض أسعار الفائدة إلى ما يقارب الصفر، ومع ذلك ظل التضخم غائباً تقريباً، والسبب أن المجتمع اليابانى يفضل الادخار على الاستهلاك، والسكان يتقدمون فى العمر، ما يجعل الطلب ضعيفاً بطبيعته، بمعنى أن النقود موجودة، لكنها لا تتحرك بالسرعة الكافية لرفع الأسعار.

فى حين قد اتخذت الصين مساراً مختلفاً، إذ وجّهت القروض والسيولة نحو مشروعات البنية التحتية والمصانع، ونتيجة لذلك فقد تحول التوسع النقدى إلى جسور وطرق وموانئ وخطوط إنتاج، ومع ارتفاع القدرة الإنتاجية، والصادرات، فقد امتص الاقتصاد جزءاً كبيراً من الأثر فى صورة نمو حقيقي.

لكن الوجه الآخر كان تضخماً فى الديون المحلية ومخاطر فى سوق العقارات، أى أن السياسة نجحت فى دفع النمو، لكنها خلّفت تحديات مالية تحتاج إلى إدارة دقيقة.

فى مصر، يشهد الجهاز المصرفى توسعاً مستمراً فى الودائع والسيولة، فخلال الفترة من 2021 إلى 2025 ارتفع المعروض النقدى (M2) من نحو 4.6 تريليون جنيه إلى حوالى 13.2 تريليون جنيه، أى بزيادة قدرها 187 فى المائة، لكن السؤال الجوهرى هو: إلى أين تتجه هذه الأموال؟

الواقع أن الجزء الأكبر منها يُوجَّه إلى تمويل عجز الموازنة وسداد فوائد الدين المحلي، كما أن البنوك تجد فى شراء أدوات الدين الحكومية عائداً آمناً ومجزياً، مقارنةً بمخاطر إقراض الشركات أو المشروعات الصغيرة.

وبالتالي، تدور السيولة فى حلقة ضيقة بين البنوك والحكومة، والنتيجة أن أثر هذه العملية على النمو ضعيف، بينما ينعكس أثرها على الأسعار عبر تمويل الاستهلاك وعجز الموازنة.

المقارنة مع الصين هنا واضحة، فالصين قد استخدمت النقود لتوسيع القاعدة الإنتاجية، أما فى مصر فالنقود تُستهلك فى خدمة الدين، وهذا ما يجعل التضخم أكثر حضوراً من النمو.

الوصول إلى 140 تريليون دولار من النقود عالمياً لا يعنى بالضرورة أن العالم يغرق فى طباعة بلا حساب، خاصة أن ما يحدد الأثر هو القنوات التى تسلكها هذه السيولة.

فإن بقيت فى الأسواق المالية، رفعت أسعار الأصول فقط، أما إن وصلت مباشرة إلى المستهلكين، زادت أسعار السلع والخدمات، فى حين أنها إن وُجهت إلى الاستثمار والإنتاج، تحولت إلى نمو وقدرة على امتصاص التضخم مستقبلاً.

وعليه فالسؤال الذى يواجه مصر اليوم ليس عن حجم النقود، بل عن قدرتها على التحول إلى استثمارات حقيقية ترفع الإنتاجية وتزيد الصادرات وتخلق وظائف، أما إن بقيت هذه السيولة محصورة فى دائرة الدين والتمويل الحكومي، فلن تكون نتيجتها سوى تضخم بلا نمو.

خلاصة القول، أن النقود مثل الدم فى الجسد، قد تكون وفيرة، لكن إذا لم تتحرك فى الشرايين الصحيحة فلن تغذى الأعضاء، وبالمثل فإن السيولة فى السوق لا تكتسب قيمتها من مجرد تكدسها فى البنوك أو المحافظ المالية، بل من سرعة دورانها وقدرتها على الوصول إلى القطاعات المنتجة وتحفيز الاستثمار والاستهلاك.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة