رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

الوصفة المثيرة للجدل: مصر وصندوق النقد (1)


18-9-2025 | 09:02

.

طباعة
بقلم د. محمد فؤاد

كلما ذُكر اسم صندوق النقد الدولي في مصر انقسم الناس بين من يراه خشبة خلاص لا غنى عنها لإنقاذ الاقتصاد، وبين من يعتبره أداة استعمارية حديثة لا تحمل إلا الخراب والفقر، وما بين خطاب شعبي يراه صلب الأزمة ورؤية رسمية تقدّمه كمنقذ لا بديل عنه، ظلّت تجربة مصر مع الصندوق منذ التسعينات ساحة مفتوحة للجدل، ومن هنا تأتي هذه السلسلة في ثلاث حلقات لتعيد قراءة المحطات الكبرى في العلاقة بين مصر والصندوق.


*التجربة الأولى: مصر وصندوق النقد في التسعينات*

كثيرًا ما يوصَف صندوق النقد الدولي في المخيلة العامة المصرية بأنه “صندوق النكد”، وتُتهم برامجه بأنها وصفات للخراب أينما حلت، يردد الناس أن تجارب الصندوق باءت بالفشل في كل الدول، وكأن الأمر حقيقة ثابتة لا تحتاج إلى تمحيص، غير أن قراءة متأنية للتجربة المصرية في التسعينات تكشف أن الصورة ليست بتلك البساطة.

بدأت العلاقة بين مصر والصندوق في وقت مبكر، لكنها بلغت ذروتها في أوائل التسعينات مع ما سُمّي برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي، وهو البرنامج الذي أنقذ مصر من انهيار محقق، لكنه في الوقت نفسه فتح بابًا لجدل لم يُغلق حتى اليوم.

ففي أواخر الثمانينات، كان الاقتصاد المصري يعيش أزمة حادة من كل جانب، فقد ارتفع الدين الخارجي إلى نحو سبعة وأربعين مليار دولار عام 1990، أي ما يعادل أكثر من الناتج المحلي الإجمالي بأكمله، كما كانت المالية العامة في حالة هشاشة بالغة، إذ تجاوز عجز الموازنة خمسة عشر في المئة من الناتج. 

التضخم بدوره كان يلتهم دخول الناس بمعدلات تفوق العشرين في المئة، بينما القطاع العام المتضخم والفاقد للكفاءة يستنزف موارد البلاد دون أن يقدم مردودًا حقيقيًا، وعلى الجانب الخارجي، عانى ميزان المدفوعات من عجز متكرر يعكس ضعف القدرة التصديرية والاعتماد المفرط على تحويلات المصريين في الخارج والمساعدات.. كان المشهد أقرب إلى انسداد كامل في الأفق، ما جعل خيار اللجوء إلى الصندوق أشبه بالعملية الجراحية التي لا مفر منها.

وفي عام 1991، وقّعت مصر اتفاقًا مع الصندوق والبنك الدولي لتنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي عُرف باسم “برنامج التثبيت والتكيف الهيكلي”، وقد كان الهدف واضحًا ومحددا وهو إعادة الاستقرار الكلي عبر كبح التضخم، وتخفيض العجز، وضبط ميزان المدفوعات. 

ولتحقيق ذلك، لجأت الدولة إلى أدوات قاسية، من سياسة نقدية متشددة ترفع أسعار الفائدة وتحد من نمو السيولة، وسياسة مالية تعتمد على خفض الإنفاق العام وتقليص الدعم، وأيضا تحرير تدريجي لسعر الصرف بعد سنوات من الجمود، وكذا فتح أكبر للأسواق عبر تخفيض الرسوم الجمركية وإلغاء القيود الكمية، وأخيرًا برنامج خصخصة يستهدف تقليص دور القطاع العام.


في الوقت نفسه، حصلت مصر على مكاسب مهمة من الخارج؛ إذ أعاد الدائنون في نادي باريس هيكلة الديون ومنحوا البلاد إعفاءات سخية تقديرًا لدورها في حرب تحرير الكويت.

النتائج جاءت سريعة وملموسة، فخلال خمس سنوات فقط، تبدلت المؤشرات الكلية بصورة لافتة، إذ انخفض التضخم من أكثر من واحد وعشرين في المئة إلى أقل من سبعة في المئة، وتقلص العجز المالي من أكثر من خمسة عشر في المئة إلى قرابة اثنين في المئة من الناتج المحلي.

أيضا الدين الخارجي نفسه قد تراجع من سبعة وأربعين مليارًا إلى نحو أربعة وثلاثين مليار دولار، أما النمو الاقتصادي، فقد تحرك من حالة ركود إلى متوسط بلغ أربعة إلى خمسة في المئة سنويًا، في حين ارتفعت الاحتياطيات الأجنبية لأول مرة إلى مستويات مريحة دعمت استقرار سعر الصرف.. إذن على الورق، كانت الوصفة ناجحة، إذ انتقل الاقتصاد من حافة الانهيار إلى حالة من الانضباط المالي والنقدي.

لكن الصورة لم تقتصر على الأرقام الجافة، فمنتصف التسعينات شهد بالفعل ما يشبه انطلاقة اقتصادية واعدة، ومع استقرار التضخم وتراجع العجز، عادت الثقة تدريجيًا، وبدأت رؤوس الأموال الأجنبية في التدفق بمعدل لم تعرفه مصر منذ السبعينات، كما شهد الاستثمار الخاص انتعاشة ملحوظة، مدفوعًا ببيئة أكثر استقرارًا. 

في تلك المرحلة، برز فريق اقتصادي شاب يمتلك رؤية واضحة، من أبرز رموزه يوسف بطرس غالي ومحمود محيي الدين، اللذان لعبا أدوارًا محورية في رسم السياسات المالية وإدارة ملفات الخصخصة والاستثمار، إذا استطاع هذا الفريق أن يحول حالة “الانضباط المالي” إلى حركة إصلاحية أوسع، فتسارعت خطوات الانفتاح المالي والتجاري، وبدأت صورة جديدة عن الإدارة الاقتصادية المصرية تتشكل.

اللافت أن معدلات النمو في تلك الفترة اقتربت من ستة في المئة سنويًا، وهي من أعلى المستويات التي عرفتها مصر حتى ذلك الحين، وكان ذلك ثمرة تلاقي ثلاثة عناصر رئيسية هي استقرار الاقتصاد الكلي بعد سنوات من الاضطراب، وتطبيق إصلاحات هيكلية ولو جزئية بكفاءة نسبية، وبالأخص قيادة فريق اقتصادي نشيط تمكن من ربط الداخل بالتحولات الجارية عالميًا، وبدا وكأن مصر على أعتاب نقلة نوعية، خاصة مع بروز جيل من المسؤولين الاقتصاديين يملكون طموحًا للاندماج في الاقتصاد العالمي على نحو أوسع.

غير أن هذا النجاح لم يكن كاملًا، فمعالجة الأرقام لم تعنِ بالضرورة معالجة المشكلات البنيوية، حيث ارتفعت البطالة بفعل تقليص الإنفاق الحكومي، وبقيت الخصخصة محدودة في نتائجها مقارنة بما أثير حولها من جدل سياسي واجتماعي، وأيضا النمو الصناعي لم يتحقق بالوتيرة المطلوبة، إذ ظل الاقتصاد يعتمد على موارد خارجية استثنائية مثل تحويلات العاملين والإعفاءات من الديون أكثر من اعتماده على قاعدة إنتاجية صلبة، أما العدالة الاجتماعية، فلم تكن ضمن أولويات البرنامج، ما أبقى مسألة الفقر وتوزيع الدخل دون حل حقيقي.

إذن، هل كان البرنامج خرابًا كما يشيع في الخطاب الشعبي؟.. الحقيقة أنه لم يكن كذلك، بل يمكن القول إنه أنقذ الاقتصاد المصري من انهيار وشيك، وأعاد للدولة القدرة على السيطرة على أرقامها الأساسية، لكنه في الوقت نفسه لم ينجح في إحداث التحول التنموي الشامل الذي كانت البلاد في أمسّ الحاجة إليه، فقد وفّر الاستقرار، لكنه لم يضمن الإقلاع.. أوقف النزيف، لكنه لم يحقق التعافي الكامل.

من هذه التجربة يمكن استخلاص ثلاث دروس أساسية، أولها أن برامج الصندوق قادرة على إصلاح الأرقام لكنها لا تبني التنمية بمفردها، وثانيها أن نجاح التجربة المصرية في التسعينات ارتبط بعوامل خارجية استثنائية، أهمها إعفاء الديون بعد حرب الخليج، وهو ما لا يتكرر بسهولة، والثالث أن الاستقرار المالي شرط لازم لكنه غير كافٍ لتحقيق التنمية، إذ يحتاج إلى استكمال بإصلاحات إنتاجية وهيكلية تعالج جوهر الاختلالات.

لقد كان برنامج التسعينات بمثابة عملية جراحية ناجحة أنقذت المريض من الموت، بل فتحت الباب أمام انطلاقة اقتصادية حقيقية بفضل فريق اقتصادي متمكن، لكنه لم يكن علاجًا كاملًا للمرض المزمن الذي يعانيه الاقتصاد المصري، وللأسف هذه المفارقة سترافق علاقة مصر بالصندوق في كل محطة لاحقة.

في المقال القادم من هذه السلسلة، سننتقل إلى تجربة التعويم الكامل عام 2016، لنقارن كيف اختلفت السياقات وكيف انعكست الوصفة المثيرة للجدل مرة أخرى على مسار الاقتصاد المصري.

    كلمات البحث
  • صندوق
  • النقد
  • الدولي
  • مصر
  • القاهرة

أخبار الساعة

الاكثر قراءة