فى زمنٍ تتزاحم فيه الشاشات بالمحتوى السريع، وتتنافس البرامج على جذب انتباه المشاهد بأى وسيلة، ظهر برنامج «دولة التلاوة» ليقدّم تجربة مختلفة، أعادت قطاعًا واسعًا من الجمهور إلى متابعة فنٍ ظل لسنوات طويلة جزءًا أصيلًا من الذاكرة المصرية، فالبرنامج لم يطرح نفسه كمسابقة تقليدية فى تلاوة القرآن الكريم بقدر ما سعى إلى تقديم التلاوة بوصفها فنًّا له قواعده وروحه، وصوتًا يحمل ملامح مدرسة صنعت شهرة قرّاء مصر عبر أجيال متعاقبة.
نجح «دولة التلاوة» فى لفت أنظار المشاهدين من مختلف الأعمار، مستندًا إلى أداء متقن، وتحكيم متخصص، وحضور إعلامى هادئ أعاد للتلاوة مكانتها بعيدًا عن الصخب أو المبالغة. هذا الحضور المتوازن أسهم فى إعادة تسليط الضوء على المدرسة المصرية فى التلاوة، بما تمثّله من تنوّع فى الأساليب، وقدرة على المزج بين الالتزام بأحكام التلاوة والبعد الجمالى للصوت والأداء.
ومع تزايد التفاعل حول البرنامج، بدا واضحًا أن تأثيره تجاوز حدود الشاشة، ليطرح من جديد أسئلة حول دور الإعلام فى إحياء الفنون الأصيلة، وقدرته على إعادة تقديمها لجمهور معاصر بلغة بسيطة وقريبة.
وفى هذا السياق، يمكن قراءة «دولة التلاوة» كواحد من النماذج الإعلامية التى نجحت فى استعادة اهتمام المشاهدين، وفى الوقت نفسه أعادت التأكيد على الحضور المصرى فى مجال ظل لسنوات طويلة أحد أبرز مجالات التأثير الثقافى لمصر فى محيطها العربى والإسلامى.
الدكتور محمد شومان استاذ الإعلام، نائب رئيس أكاديمية الشروق، أوضح أنه من المتابعين لبرنامج «دولة التلاوة»، معتبرًا أنه من البرامج التى نجحت فى إعادة المشاهدين إلى شاشات التليفزيون من جديد، بعدما لفت انتباه قطاعات واسعة من الأسر والشباب، بل وحتى الأطفال، الذين أصبحوا ينظرون بإعجاب إلى الأطفال المشاركين فى المسابقة، ويتفاعلون مع أدائهم. وأكد «شومان» أن مصر لا تزال تمتلك عناصر القوة الناعمة الذكية، مشيرًا إلى أن العالم بات يتحدث اليوم عن مفهوم «القوة الذكية»، وهو ما يتجسّد فى طرح فكرة مثل «دولة التلاوة» وتنفيذها بهذا المستوى من الجودة.
وأضاف أن البرنامج مكّن التليفزيون المصرى من استعادة جزء كبير من مكانته وريادته، بل والمنافسة بقوة مع قنوات فضائية أخرى تتمتع بتمويل أكبر، لافتًا إلى أن الشركة المتحدة نجحت من خلال هذا العمل فى استعادة جانب مهم من الريادة الإعلامية المصرية، خاصة فى ظل منافسة قوية من محطات عربية ودولية بات لها حضور مؤثر فى الفضاء الإعلامى العربى.
«شومان»، أكد أن برنامج «دولة التلاوة» حقق عناصر التميز منذ لحظة طرح فكرته، التى جاءت جديدة ومبتكرة، واستجابت لتطلعات قطاعات واسعة من الجمهور، كما أعاد الاعتبار لمدارس التلاوة المصرية، فى وقت ظهرت فيه مدارس خارجية استطاعت أن تحجز مكانة بارزة على حساب المدرسة المصرية، موضحًا أن «البرنامج أعاد ترتيب المعادلة مرة أخرى لصالح مدارس التلاوة المصرية، التى كان لها تاريخيًا الريادة فى العالمين العربى والإسلامى».
كما أشار أستاذ الإعلام إلى أن البرنامج يُسهم أيضًا فى الارتقاء بالذوق العام، فى ظل انشغال قطاعات كبيرة من الجمهور بالهواتف المحمولة وتطبيقات التواصل الاجتماعى، موضحًا أن «دولة التلاوة» قدّم نموذجًا للإنتاج الثقافى الرفيع، ونجح فى تقديم نماذج جديدة من النجومية خارج إطار التمثيل والغناء والرياضة، هم «نجوم دولة التلاوة». واختتم بالتأكيد على أن القرّاء المصريين كان لهم دور بارز عبر التاريخ فى تشكيل الذوق العام المصرى.
وقال الشيخ طه النعمانى، عضو لجنة التحكيم ببرنامج دولة التلاوة: إن حالة الالتفاف الجماهيرى حول برنامج «دولة التلاوة» جاءت نتيجة الجهد الكبير الذى بذله القائمون على البرنامج، سواء من الشركة المتحدة أو وزارة الأوقاف، إلى جانب المتسابقين العظام الذين يبدعون فى تلاوة القرآن الكريم.
وأضاف «النعمانى» أن رسالة البرنامج لا تقتصر على اكتشاف المواهب داخل المدرسة المصرية فى التلاوة، بل تهدف إلى تثبيت ريادة فن التلاوة المصرية على مر التاريخ، مؤكدًا أن البرنامج نجح فى إعادة فن التلاوة إلى صدارة الاهتمام الجماهيرى، بعدما استطاع أن يخاطب وجدان المشاهدين بأسلوب بسيط وقريب، بعيدًا عن التعقيد أو المبالغة، وهو ما أسهم فى جذب فئات عمرية مختلفة للمتابعة، وإعادة الأسر بأكملها إلى شاشة التليفزيون.
وأشار عضو لجنة التحكيم، إلى أن ما يميز البرنامج هو قدرته على تقديم التلاوة فى صورة تحترم قدسيتها، وفى الوقت نفسه تواكب أدوات العصر، موضحًا أن حسن الإعداد، واختيار الأصوات، وطريقة التقديم، كلها عناصر ساعدت على إعادة الاعتبار لفن التلاوة بوصفه جزءًا من الهوية المصرية، وليس مجرد فقرة دينية عابرة.
وأضاف: «دولة التلاوة» لم يقتصر دوره على اكتشاف المواهب، بل سعى أيضًا إلى ترسيخ مكانة المدرسة المصرية فى التلاوة، والتأكيد على ريادتها التاريخية، خاصة فى ظل بروز مدارس وأساليب أخرى خلال السنوات الماضية، كما أن البرنامج أعاد الثقة فى قدرة التلاوة المصرية على التأثير والانتشار، واستعادة دورها الطبيعى فى تشكيل الوجدان العام.
وأكد «النعمانى» أن البرنامج يسعى إلى جذب الشباب بعيدًا عن شاشات الهواتف، وخلق قدوة حسنة للشباب والأطفال على حد سواء، موضحًا أن هناك نجومًا آخرين يستحقون أن يتابعهم الجمهور ويقتدى بهم، وهم «نجوم دولة التلاوة».