ساهم العالم الأمريكي جيروم برونر الذي تحل البوم 1 أكتوبر ذكرى ميلاده، في تطوير علم النفس المعرفي، ونظرية التعليم المعرفية في مجال علم النفس التربوي والفلسفة التربوية، فأحدث تحولات جذرية في طريقة تفكيرنا بالتعلم والتعليم، أحدث ثورة هادئة، لكنها عميقة التأثير، في فهمنا لكيفية تعلم الإنسان وتكوينه للمعرفة.
ميلاده ونشأته
ولد جيروم برونر في 1915 بنيويورك، وواجه في طفولته صعوبات كثيرة، منها إصابته بعمى مؤقت نتيجة لمضاعفات الولادة، وبفضل ذلك، نما لديه فضول لا يشبع لفهم كيف يدرك الناس العالم من حولهم، وكيف يبنون المعنى. هذا الفضول قاده إلى دراسة علم النفس، حيث بدأ مسيرته الأكاديمية في جامعة هارفارد، وتطور ليصبح أحد أهم رواد المدرسة المعرفية التي كسرت هيمنة المدرسة السلوكية في منتصف القرن العشرين.
تحول جذري
تزامنًا مع هيمنة السلوكيون على مشهد علم النفس التربوي، واعتبارهم أن التعلم مجرد استجابة لمثيرات خارجية، جاء برونر ليؤكد أن الإنسان ليس مجرد آلة تستجيب؛ بل عقل يبني، ويحلل، ويفسر، ويبدع، وهي رؤية مختلفة بشكل جذري.
شكل برونر، إلى جانب علماء مثل جان بياجيه وليف فيغوتسكي، ما يعرف بـ"الثورة المعرفية"، التي ركزت على العمليات الذهنية الداخلية، كالذاكرة، والإدراك، وحل المشكلات، والتفكير المجرد. ليعيد الاعتبار لدور المتعلم ككائن نشط في عملية التعلم، لا مجرد مستقبل سلبي للمعرفة.
النظرية البنائية وفهم التطور المعرفي للطفل
ركز برونر على فكرة أن التعلم الحقيقي يحدث عندما يبني الفرد المعرفة بنفسه، من خلال التجربة والتفاعل، لا من خلال التلقين. ودعا إلى ما سماه "التعلم بالاكتشاف"، وهو النهج الذي يشجع المتعلمين على أن يكونوا باحثين صغاراً، يتعلمون عبر الاستكشاف، لا الحفظ.
وقدم برونر مفهوماً جوهرياً في فهم التطور المعرفي للطفل، وهو أن "أي مادة يمكن تدريسها لأي طفل، في أي مرحلة عمرية، بشرط أن تُعرض بطريقة مناسبة له".
هذه المقولة فتحت آفاقاً جديدة في تطوير المناهج وطرائق التدريس، ودفعت باتجاه تصميم تعليم متمركز حول الطفل، ومبني على قدراته وإمكاناته الفعلية.
السرد كوسيلة للمعرفة
من أبرز إسهامات برونر أيضاً، تركيزه على الدور الحيوي للسرد القصصي في بناء المعرفة. فكان يرى أن الإنسان بطبعه كائن سردي، يبني فهمه للعالم من خلال القصص والسياقات. لذلك، اقترح أن يكون السرد جزءاً مركزياً من أي عملية تعليمية، حيث إن القصص تساعد الأطفال على ترتيب خبراتهم، وربطها بالواقع، وفهم العلاقات بين الأحداث.
أثره في السياسة التعليمية
لم يقتصر تأثير برونر على قاعات الجامعات والمؤتمرات الأكاديمية، بل وصل إلى مراكز اتخاذ القرار، فلعب دوراً محورياً في تطوير المناهج التعليمية في الولايات المتحدة، خاصة بعد إطلاق الاتحاد السوفييتي للقمر الصناعي "سبوتنيك"، مما أثار ذعراً علمياً دفع إلى إصلاحات واسعة في التعليم الأمريكي. كان برونر حينها من أبرز الأصوات الداعية إلى تعليم العلوم بشكل مفاهيمي، يشجع على الفهم العميق، وليس مجرد الحفظ.
وفاته
توفي جيروم برونر في عام 2016، عن عمر يناهز 100 عام، لكنه تاركًا إرثاً فكرياً مستمراً. نظرياته ما زالت تُدرَّس في كليات التربية، وتُستخدم في تصميم المناهج التعليمية الحديثة، وتُستلهم في تقنيات التعليم الرقمي والتعلم التفاعلي.