يحتفل العالم في الأول من أكتوبر من كل عام باليوم العالمي للقهوة، حيث تصبح كلمات درويش شهادة على أن هذا المشروب البسيط قادر على أن يكون فعل مقاومة، وطقسًا شخصيًا للتماسك في وجه العدم، ومرآة تكشف أسرار الروح في لحظة صفاء مع بداية النهار، حيث أفرد لها صفحات كاملة في كتابه "ذاكرة للنسيان"، لتصبح القهوة في نصوصه مرآة للحياة والمقاومة، ومفتاح النهار الذي يمنح الإنسان القدرة على الصمود.
كتب درويش في "ذاكرة النسيان":
في قلب الحرب، وبين هدير المدافع وصوت الصواريخ، لم يطلب محمود درويش سوى شيء واحد: رائحة القهوة. لم تكن القهوة عنده مشروبًا ينعش الجسد فحسب، بل كانت شرط التماسك، وطقس البقاء، وهدنة شخصية في مواجهة موتٍ يتربص بكل شيء. يقول: «أريد رائحة القهوة. لا أريد غير رائحة القهوة. ولا أريد من الأيام كلها غير رائحة القهوة».
هذا الإصرار يكشف سر القهوة في نصوص درويش، خصوصًا في "ذاكرة للنسيان"، حيث تحولت القهوة من عادة صباحية إلى فعل مقاومة، ومن فنجان صغير إلى مرآة للروح. فالقهوة الأولى لا تُشرب على عجل، ولا تُقدّم على طبق، لأنها ولادة يوم جديد. هي "عذراء الصباح الصامت"، كما يسميها، لحظة صفاء تمنح النهار شكله وللشاعر القدرة على الاستمرار.
يصف درويش تفاصيل إعدادها كأنها طقس مقدس: الماء الذي يتنفس فوق النار، الفقاعات التي تكبر وتنكسر، السكر الذي يذوب في فحيح صامت، ثم البن الذي يفور بذكورته الشرقية صارخًا برائحة تملأ المكان. ليست مجرد خطوات ميكانيكية، بل حوار بين النار والماء والبن، وبين اليد التي تصنعها والنفس التي ستشربها. ومن هنا تتحول القهوة إلى "قراءة علنية لكتاب النفس"، تكشف مزاج النهار وحظوظ صاحبه.
في وسط الحرب، يصبح فنجان القهوة جدارًا وهميًا من الأمان. خمس دقائق يطلبها الشاعر كي يصنعها كافية لتأجيل فكرة الموت، وكأنها إعلان صامت: "أنا حيّ ما دامت رائحة القهوة تملأ البيت". إنها مقاومة يومية لا تقل عن مقاومة المقاتل في الشارع، لكنها مقاومة من نوع آخر: مقاومة للعدم، للانهيار الداخلي، لفقدان المعنى.
وتتجلى المفارقة الكبرى في النص حين تختلط رائحة البن برائحة البارود. في المطبخ المطل على البحر، القذائف تطرق الزجاج، العصافير تصمت مذعورة، والسماء تهبط كأنها سقف إسمنتي. ومع ذلك، يظل الشاعر متمسكًا بطقسه، يبحث عن فنجان قهوته كمن يبحث عن وطن صغير يحتمي به. فالقهوة هنا وطن متنقل، بيت مصغّر، عالم خاص يواجه به العالم الكبير المنهار.
ولعل أجمل ما في نص درويش أنه جعل من القهوة "مرآة للحرية". هي فعل فردي بسيط، لكن فيها إعلان صريح بأن الإنسان قادر على انتزاع لحظة تخصه وسط العدم. لحظة يحدد فيها إيقاع يومه بيده، يكتبها على نار هادئة، ويراها انعكاسًا صادقًا لروحه. ولهذا قال: "فنجان القهوة الأول هو مرآة اليد، واليد التي تصنع القهوة تشيع نوعية النفس التي حركتها".
القهوة في "ذاكرة للنسيان" ليست فقط مفتاح النهار، بل مفتاح للوجود ذاته. إنها ما يبقي الشاعر واقفًا على قدميه في مواجهة حصار الموت. هي الصمت الذي يبتلع الكلام، الطقس الذي يمنح الأشياء معناها من جديد، والنافذة التي يطل منها على حياة تستحق أن تُعاش ولو في فنجان صغير.