ويستمر حوارى مع المفكر الإسلامى الكبير وأسأله: هناك من يغلب حسن الظن ذاهبًا إلى أنه فى العالم الثالث يجرى تطبيق النظام الديمقراطى سعيًا إلى تنشيط حركة التنمية والرخاء. فكيف ترون إمكانية التوفيق بين الحرص على الرخاء والتنمية وبين قضية الديمقراطية وفق مفهومها الذى تطرقت إليه بالشرح كثيرًا فى بعض مؤلفاتك وأحاديثك؟
سؤالك هذا ينم عن أن الديمقراطية والرخاء ضدان لا يجتمعان، ونقيضان لا يلتقيان إذن ماذا تقولين فى الرخاء الكاسح الذى يعم دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية؟، إن الاتحاد السوفيتى وهيلمانه خالٍ من الديمقراطية ويأخذ بعض قوته وخبزه من الدول الديمقراطية، وأنا لست دون غيرى فى الحرص على رخاء البلاد العربية وبناء مستقبلها وإقرار النظام والعدل فيها، بيد أننى أختلف عن غيرى فى السبيل الذى يفضى إلى ذلك، فأنا أرى أن الحرية السابغة والديمقراطية الكاملة هما السبيل الحق من أجل تحقيق الرخاء الحقيقى لا الرخاء المفتعل.
(وأسأله): فى دول نامية كدولنا قد نحتاج فى عملية تحقيق الرخاء والتنمية إلى ضبط وربط وحسم، وهذا لا يتأتى مع الديمقراطية التى تنادون بها والتى يتم تطبيقها فى دول تختلف ظروفها كلية عن الظروف التى نخوضها اليوم فى الساحة العربية؟
لا تزالين مقتنعة بأن الرخاء والديمقراطية نقيضان، وأن التنمية والديمقراطية ضدان لا يجتمعان، وأنا أخالفك تمامًا فى هذا الاتجاه، فالديمقراطية خير مناخ لتقديم الرخاء وبناء التنمية، وقد ضربت لك مثلا بأوروبا والغرب، فهناك الديمقراطية وهناك الرخاء والتنمية. أما الزعم بأن الرخاء والتنمية يحتاجان إلى فترات انتقال تغيب فيها الديمقراطية فتلك كما يقول المثل العربى: «شنشنة أعرفها من أخزم» وهى دعوة باطلة.
(وأسأله): الحديث يدور كثيرًا حول الديمقراطية. وأنتم قدمتم الديمقراطية كمبدأ فى مؤلفاتكم، ولكن هل تستطيع أن ترينا إياها كنظام واقعى؟
بالعكس أنا قدمتها كمبدأ وكنظام. وبعد شهور من قيام ثورة 23 يوليو تراءى لى أن الثورة ستجنح إلى الديكتاتورية وجدت من واجبى كمواطن يستطيع التعبير عن نفسه وقضايا أمته أن يحذرها من مغبة هذا السلوك ومن مهاوى ذلك الطريق، فكتبت كتابى «الديمرقراطية أبدا»، وقدمت فيه الديمقراطية كمبدأ وكنظام متحدثًا عن «ديمقراطية الحكم»، و«ديمرقراطية التشريع»، و«ديمقراطية المجتمع». وإذا أردت أن أريك الديمقراطية كنظام واقعى يصلح لنا فأشير بكلتا يدى إلى الديمقراطية الإنجليزية، بل لقد خضنا بالفعل تجربة الديمقراطية كنظام ونجحنا.
وأسأله: ولكن هل يمكن أن تتفق معنا ديمقراطيات الغرب، وأن تصلح كأساس للتطبيق لدينا مع الاختلاف بيننا وبينهم فى الأرضية والمناخ والظروف؟
لقد صلحت بالفعل وخضنا تجربتها بنجاح وافر قبل قيام ثورة 23 يوليو وبالتحديد من سنة 1923 إلى سنة 1952. ثم إنى أسألك ما هو قوام الديمقراطية فى دولة مثل بريطانيا؟ حيث هناك انتخابات حرة،.. وصحافة حرة،.. وشعب حر فى انتخاب نوابه، ومعارضة داخل البرلمان وخارجه لا يعوقها عائق ولا يرهبها خطر، فهل من الصعب أو من المستحيل أن نظفر بمثل هذه الديمقراطية؟ ولقد ظفرنا بها سلفا كما قلت وكانت لدينا صحافة حرة ومعارضة قوية وأحزاب كثيرة.
ولكن كانت هناك سلبيات؟
صحيح، كانت هناك سلبيات ولكن أعتقد أن سلبيات الديمقراطية أخف وطأة من سلبيات الديكتاتورية، إن مصر الآن مثلاً ــ بعد مضى أكثر من ثلاثة أعوام على حكم الرئيس مبارك ــ تبدو قريبة جدًا من الديموقراطية الكاملة التى ننشدها جميعًا، فهو بروحه ووطنيته أضفى على النظام كثيرًا من إمكانات التطور السديد والسليم نحو الديمقراطية المنشودة، وكان كل المطلوب منه ألا يفرمل هذا التطور سواء ما يدور منه داخل نفسه أو ما يدور خارجها داخل النظام السياسى للبلاد، وإنى لأتساءل: ولماذا نخاف الديمقراطية؟ والنموذج هنا قضية الأحزاب، نحن نظن ونتوهم أننا إذا أبحنا تشكيل الأحزاب بغير قيد ولا شرط سنصبح أمام مائة حزب تتصارع وهذا غير صحيح مائة فى المائة، فالأحزاب تقوم وفق حاجات وظروف سياسية واجتماعية، ومن ثم تفقد وجودها حين تفقد ارتباطها بهذه الحاجات وهذه الظروف، وأضرب لك مثلاً، فى سنة 1944 كان البرلمان البريطانى يضم نوابًا ممثلين لأربعة عشر حزبًا وهيئة سياسية. أذكر منهم «المحافظين».. و«العمال»، و«الأحرار»، و«القوميون المستقلون»، و«الأحرار المستقلون»، و«الامتناعيون»، و«الحزب الشيوعى»، و«القوميون الأيرلنديون»، فأين ذهب كل هؤلاء اليوم؟ لقد تعرض قويهم وضعيفهم للفناء وانتهى وجودهم بعد عجزهم عن استقطاب الشعب حولهم، ولم يبق منهم إلا حزب المحافظين وحزب العمال وحزب الأحرار.
وعندنا فى مصر اصطنع القصر الملكى فى الثلاثينيات حزبًا سماه حزب الشعب، ثم أنشأ حزبًا آخر بعد فشل محاولته الأولى سماه حزب الاتحاد، وكان يريد بذلك مناوئة حزب الوفد وتعطيل دوره لا سيما وقد كانت الأمة كلها تلتف حوله، فهل بقى حزب الشعب وحزب الاتحاد رغم مناصرة القصر الملكى والسلطة الحاكمة التى كانت تتمثل فى رؤساء هذين الحزبين؟ لقد انتهى كل منهما وبقى حزب الوفد الذى كانت الأمة تريده قائمًا وشامخًا. ولا غرابة، ذلك أن هناك قوانين تحكم قيام الأحزاب وسقوطها دون تدخل من السلطة.
قد يغرى انفتاح تشكيل الأحزاب فريقًا يجرى وراء التقليد والارتجال وفى كليهما تشويه ومسخ للديمقراطية؟
هذا يمكن أن يحدث ولكن الديمقراطية تنقى نفسها من الخبث، وتصون نفسها بوسائلها المألوفة وشرعيتها السديدة، فإذا تطفل المتطفلون بقصد تبديد الفراغ وألفوا أحزابًا فستسقط تلقائيًا ما لم تكن هناك الضرورة السياسية والاجتماعية التى تقتضى قيام هذه الأحزاب، ومن ثم فمن رأيى أن إطلاق تشكيل الأحزاب وفق الديمقراطية الكاملة أمر وارد ولازم، كل ما هنالك أنه عند قيام هذه الأحزاب لا بد أن تلتزم بأمرين مهمين مقدسين، الأول: احترام القيم الدينية للمجتمع، والثانى: اعتمادها على الأساليب الديمقراطية وحدها وتحريم تشكيل أى ميليشيات عسكرية تتبعها، كذلك بالنسبة للصحافة فالرؤية الحكيمة ترى أنه لا داعى للحجر على حق الأفراد والمواطنين فى إصدار وامتلاك صحف تعبر بحرية عن الرأى الآخر ورفع أية هيمنة عليها من الخارج. وللحديث بقية.