أهمية هذه الدورة أن عددًا من الدول الأوروبية وأمريكا الجنوبية تتقدمها فرنسا قررت أن تعلن من داخل قاعة الأمم المتحدة الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو سنة 1967، وكانت الإدارة الأمريكية عبرت عن امتعاضها من تلك الخطوة وكذلك إسرائيل، وتعرض الرئيس ماكرون لحملة سياسية ضارية من إسرائيل بسبب موقفه وقراره الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
المعنى الواضح أن الإدارة الأمريكية، لا ترى الوقت مناسبا لقيام الدولة الفلسطينية، ولا تريد السلطة الوطنية، كما لا تريد الفصائل الأخرى مثل حماس والجهاد، وهذا يعنى أنها لا تريد تمثيلا عمليا لفلسطين، ومن ثم لا دولة فلسطينية.. رغم أن اتفاق أوسلو الموقع سنة 1994، ينص على حل الدولتين، وقد وقع الاتفاق فى البيت الأبيض بحضور وضمان الرئيس الأمريكى وقتها «بيل كلينتون»، وكررت الإدارات المتعاقبة التزامها بحل الدولتين، بل إن الرئيس أوباما أعلن قبل دخوله البيت الأبيض أن فترته الأولى لن تمر إلا وقد قامت الدولة الفلسطينية، وعين مندوبا خاصا لهذا الغرض، ثم مات التعهد، والواضح أن الإدارة الحالية تريد أن تتحلل من هذا التعهد، والدليل أنها منحت إسرائيل الضوء الأخضر لمهاجمة الضفة الغربية حيث مقر السلطة الوطنية.
إسرائيل تشن منذ أكتوبر 23 حربا ضارية على غزة، لكن طمعها الحقيقى فى الضفة، لارتباط بعض المفاهيم التوراتية بالضفة الغربية، حيث تسمى يهودا والسامرة، التى هى الآن مقر السلطة الوطنية.
صحيح أن الإدارات، ربما باستثناء إدارة بيل كلينتون، لم تتخذ خطوات جادة نحو الدفع لقيام الدولة الفلسطينية، لكنها لم تتنكر بهذا الشكل للقرارات الدولية بخصوص إقامة دولة فلسطينية واعتبار الضفة وغزة والقدس الشرقية مناطق تحت الاحتلال، يجب أن تتحرر وأن يرفع عليها العلم الفلسطينى.
عدم إقامة الدولة الفلسطينية هو سبب معظم القلاقل فى المنطقة، ولن يتحقق السلام دون إقامة الدولة، إسرائيل نفسها، مهما امتلكت من قوة، لن تعيش فى سلام ولن يشعر المواطن الإسرائيلى بأمان، دون الوصول إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، لقد أثبتت تجربة السابع من أكتوبر إلى يومنا هذا، أن لدى إسرائيل قوة حربية باطشة، طيران أمكنه أن يشن غارات على طهران وعلى صنعاء وأن يعربد، فى سماء سوريا ولبنان، ورغم هذا فإن الجيش الإسرائيلى غرق فى غزة، وعجز أن يحقق انتصارًا فيها، نعم دمر وأحرق الأحياء.. قتل الأطفال والنساء والشيوخ، لكن كل ذلك لم يصنع نصرا ولا جلب الأمان لمواطنيها.
وتحاول الولايات المتحدة وإسرائيل إعادة تشكيل الخرائط السياسية بالمنطقة، بل وصل إلى حد التدخل فى جغرافية البلدان والدول، مثل الحديث عن تقديم مزارع شبعا إلى سوريا بديلا عن الجولان، لكن كل ذلك لن يوفر الأمان الذى تريده إسرائيل، والدليل أن المناطق الملاصقة لحدود لبنان خالية تماما من السكان.
والواضح أن غرور القوة يمنع إسرائيل ومعها الإدارة الأمريكية من رؤية الحقائق على الأرض.
فى يونيو 1967 تصوروا أن مصر قد انتهت إلى الأبد، وجلسوا ينتظرون مكالمة الاستسلام من عبدالناصر، لكن بعد عدة أسابيع فقط، كانت مصر تبدأ حرب الاستنزاف التى أرهقتهم كثيرا وفتحت الباب ليوم العبور العظيم فى السادس من أكتوبر سنة 1973، والدرس هنا أن القوة الإسرائيلية الباطشة لا تصنع سلاما ولا تحقق أمنا ولن تدفع العرب إلى الاستسلام والهوان.
لا يتعلق الأمر بمصر فقط، اجتاحت إسرائيل بيروت سنة 1982 وأجبرت على الانسحاب منها، واحتلت مناطق فى الجنوب اللبنانى ثم غادروها بعد اشتداد المقاومة، لن يقبل أحد البطش ولا التمدد والعدوان الإسرائيلى.
إسرائيل لا تتعلم من التاريخ، ولا تريد أن تدرس تجاربها فى المنطقة منذ سنة 1947.. هل تريد أن تصبح دولة فى المنطقة أم تظل عنصراً عدوانيا غريبا، طارداً ومطروداً؟
ويمكن أن نرصد عدة أسباب لعدم إقامة الدولة الفلسطينية منها أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تتفق بعد، على مشروع وطنى يلتفون حوله، بل هناك انقسامات حادة بينهم، تساهم فى التعطيل، وتحول دون بناء مؤسسات وطنية تعمل على تهيئة المجتمع وتكون عماد الدولة القادمة، تدفع نحو إقامتها، لكن هناك الهدف الإسرائيلى البعيد وهو السعى نحو زيادة الانقسامات الفلسطينية وتعميقها، بدعم بعض الفصائل حتى تبلغ مرحلة معينة، ثم تنقض على الجميع، بنيامين نتنياهو يتباهى أمام الإسرائيليين ويزهو على خصومه ومعارضيه أنه منع على مدى ثلاثين عاما إقامة الدولة الفلسطينية، أما معارضوه فيقولون إنهم مع حل الدولتين لكن ليس الآن.. وحين تسألهم: متى..؟ لن تجد إجابة، لأن العقيدة الإسرائيلية عدم وجود دولة فلسطينية، بل طرد الفلسطينيين وفى أفضل الأحوال استيعابهم كعمالة رخيصة فى الدولة العبرية وتقديم بعض الامتيازات فى هذا الجانب، لكن فى النهاية مواطنون من الدرجة الثانية.
ولما اقترح البعض من الفلسطينيين والإسرائيليين مشروع إقامة دولة واحدة، ثنائية القومية واللغة، عربية / عبرية، رفضت إسرائيل ذلك الاقتراح رفضا تاما، عمليا لا دولة فلسطينية ولا دولة ثنائية القومية- علمانية تضم الإسرائيليين والفلسطينيين.
من هنا تأتى أهمية الدور الذى تقوم به مصر والدول العربية، من الدفع نحو حل الدولتين، والدفع كذلك نحو مشروع إعادة إعمار غزة، لقطع الطريق على فكرة التهجير ومشروع «ريفيرا غزة» الذى يتبناه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وهذا الهدف الذى تعمل عليه مصر والدول العربية، من خلال جامعة الدول العربية، المقاومة الحقيقية لمشروع التهجير وتصفية القضية الفلسطينية.
صحيح أننا نعيش عصرا يعترف بالقوة أولا، أقصد القوة العسكرية والاقتصادية، أمامنا ما يجرى فى أوكرانيا وفى غيرها من مناطق النزاع حول العالم، لكن مازال للقانون الأخلاقى مكانه، وإلا يصبح العالم غابة حقيقية، وهنا لابد من وقفة.
مع الوقت يكتشف الضمير العالمى حجم المأساة فى فلسطين وأن إسرائيل تمارس عملية إبادة جماعية بحق المدنيين.. إلى الآن قتل أكثر من 63 ألف مواطن ومواطنة فلسطينية عزل.. مدنيين، وجرح أكثر من 150 ألف فلسطينى.. لن يقبل العالم ذلك ولن يتسامح مع المجرمين.
فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، أصدرت الأمم المتحدة ثلاثة قرارات تقسيم، القرار الأول، مايو سنة 1947 بتقسيم شبه القارة الهندية إلى دولتين، هما الهند وباكستان، ولم تخرج بريطانيا من الهند وتنهى احتلالها فى العام نفسه، دون إعلان قيام الدوليتين.. الهند وباكستان، ورسم الحدود بينهما، صحيح هناك إقليم كشمير متنازع عليه إلى اليوم، وصحيح أيضا أن مذابح وقعت يوم إعلان قيام الدولتين بسبب الهجرات السكانية من بعض المناطق فى حدود كل دولة، لكن فى نهاية الأمر، أقيمت الدولتان ونالت كل منهما اعتراف الأمم المتحدة، ولكل منهما عاصمة وعلم وجيش ومؤسسات.
فى التفاصيل فإن كل جانب فى القارة الهندية كان له زعماء يعملون على بناء الدولة.. زعماء الهند ناضلوا من أجل الاستقلال.. والزعماء المسلمون هناك عملوا منذ الحرب العالمية الثانية على بناء مشروع الدولة، شكلوا جيشا مبكرا وساندوا بريطانيا، ونالوا الدولة المستقلة.
غير الهند وباكستان، جرى تقسيم كوريا إلى دولتين، الشمالية والجنوبية، كل منهما لها حدود ثابتة ومتفق عليها ونظام سياسى، جرى التقسيم بعد حرب أهلية طاحنة، وقف خلفها كل من الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة، السوفيت مع الشمال وأمريكا مع الجنوب، لكن فى النهاية تم وضع حل لها وأقيمت الدولتان.
وحدها فلسطين شهدت الجريمة الكاملة التى ارتكبتها بريطانيا العظمى منذ صدور وعد بلفور نوفمبر سنة 1917 وحتى إعلان قيام دولة إسرائيل فى مايو 1948، بريطانيا صاحبة الانتداب فتحت الباب على مصراعيه لهجرات يهودية إلى إسرائيل، عشرات الآلاف سنويا، الأمر الذى أدى إلى عبث بالديموجرافيا على أرض فلسطين، وبعد أن كان اليهود فى فلسطين يقدرون بالمئات منتصف القرن التاسع عشر، تجاوزت أعدادهم المليون سنة 1948، وصدر قرار التقسيم فى نوفمبر سنة 1947 وقررت بريطانيا طواعية الانسحاب من فلسطين فى مايو 1948، لم يحدث أن خرجت بريطانيا طوعا من أى بلد احتلته، لم يحدث ذلك فى الهند ولا فى مصر ولا فى العراق ولا فى أى بلد، نحن فى مصر عانينا عقوداً سبعة حتى خرجوا ورحلوا من ديارنا، لكن فى فلسطين، خرجت بريطانيا تلقائياً فى مشهد أقرب إلى الهروب، كى لا تعلن قيام دولة فلسطينية ولا ترسم الحدود ولا أى شيء.. فى المقابل ضغط الرئيس الأمريكى «هارى ترومان» بقوة لاستصدار قرار التقسيم من الأمم المتحدة، القرار رفض فى التصويت الأول، وإلى يومنا هذا، لم يعلن قيام الدولة الفلسطينية، وهذه سقطة قانونية وأخلاقية، ولابد من النضال لإقامتها.
المؤكد أن اعتراف فرنسا وعدد من الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية، لا يعنى إقامة الدولة فورًا، لأن هناك احتلالا يجب أن يجلو، وهو احتلال استيطانى لا يعترف بوجود الشعب الفلسطينى ولا إقامة الدولة الفلسطينية، ولدى هذا الاحتلال مفاهيم دينية «توراتية» ضد إقامة الدولة، وفضلا عن ذلك فإن إقامة الدول يستلزم كذلك وجود مؤسسات للدولة وهيئات اجتماعية، وحركة وطنية موحدة ومتفقة على نفس الهدف، باختصار الاعتراف فى الأمم المتحدة هو خطوة على طريق طويل وممتد.
لكن حتى هذه الخطوة التى تمثل بداية أو أضعف الإيمان لا تريد الإدارة الأمريكية لها أن تحدث، بالضغط على الدول التى تنوى الاعتراف، لكنها تحاول منع وجود وفد فلسطينى رفيع المستوى يحضر اجتماعات الأمم المتحدة ويلقى كلمة فلسطين، ويتلقى الاعتراف.
للمرة المليون المشكلة ليست فقط فى الحكومات الإسرائيلية ولا فى اليمين المتطرف هناك، كما يتصور بعضنا، التاريخ أثبت أن اليسار الإسرائيلى لا يختلف فى هذه القضية عن اليمين، أثناء حرب أكتوبر 1973، كانت جولدا مائير رئيس وزراء إسرائيل، تنتمى إلى حزب العمل، يسارية تماما، رغم ذلك هى صاحبة مقولة «أين هو الشعب الفلسطينى لا يوجد شعب فلسطينى..».
المشكلة كذلك فى الإدارة الأمريكية، وفى حرب غزة الأخيرة وجدنا من اللحظة الأولى، دعما أمريكيا غير محدود لحرب إسرائيل على غزة، وأظن أن منع السلطة الوطنية ورئيسها من دخول أمريكا هو جزء من ذلك الدعم.
هذا المنع يخالف اتفاق المقر، الذى ينص على أن لا تمنع الولايات المتحدة دولة من الحضور والمشاركة فى الاجتماعات الخاصة بالأمم المتحدة إذ يجب أن تكون محايدة بين الجميع، لكنها تخالف ذلك فى حالة فلسطين.
هل يعنى ذلك أن نستسلم ونغلق الملف؟! بالتأكيد لا، العمل السياسى هو فن الممكن والمتاح، لذا لابد من تكاتف الجهود، مصريا وعربيا، هذا هو وقت الاحتشاد والاصطفاف الوطنى، وأى محاولة لهدم ذلك الاصطفاف أيا كانت دعواها، فى النهاية تصب فى الخانة الإسرائيلية، إن لم يكن بالتواطؤ والاختراق، وهذا حادث فى بعض الحالات والنماذج، لكن أيضا يمكن أن يكون بالسذاجة والبلاهة، نوع من الأناركية والعدمية الوطنية.

