ويظل المؤرخ العالمى «أرنولد توينبى» الفيلسوف الشهير المعروف بتحليله الشامل للحضارات وتأثيرها في التاريخ. ويعتبر كتابه ( دراسة للتاريخ) من أهم أعماله حيث عرض فيه لإحدى وعشرين حضارة. كما اشتهر بنظريته حول (التحدي والاستجابة ) التي تفسر نشأة الحضارات. ويعتبر « توينبي» من أبرز المؤرخين في القرن العشرين، وقد تجاوز كونه مؤرخا متخصصا إلى فيلسوف للتاريخ يحلل مسارات الحضارات بشكل كامل.
من الطريف أن تكون حياة أحد أكبر المؤرخين في العصر المنصرم نتيجة خطأ جغرافي. ويحكى لنا «توينبي» في كتابه «تجارب» الذى أصدره بمناسبة بلوغه الثمانين عاما ليقول لنا في بدايته: أنه لم يكن من المفترض له أن يعيش كل هذا العمر، وأن خطأ ما حصل على خريطة العالم جعله يعيش كل هذا العمر. فلقد ولد هذا المؤرخ العظيم في عام 1889، و عاصر الحربين العالميتين، وكان من المفترض أن يحمل سلاحه في الحرب العالمية الأولى، ولكن عيباً خلقياً أنقذه من الجندية وصرفه نحو دراسة التاريخ، ولا نعرف كثيراً عن تفاصيل هذا العيب، ولكن كل من قرأ كتب «توينبي» يثنى ويحمد هذا القدر. وبالعودة إلى كتابه نقول بأنه كتب بخبرة عريضة بعد اطلاع طويل على التاريخ البشرى، وكتب بروح إنسانية يتفاءل خلالها قليلا، ويتشاءم مرات من مستقبل هذا المخلوق المزعج المسمى إنساناً.
وأسأل البروفيسور «توينبي» عما إذا كانت نظرية (التاريخ دائما يعيد نفسه)، يمكن أن تنطبق هنا على العلاقات بين العرب وإسرائيل؟
وهنا يجيب قائلاً:
لا.. إن لكل قاعدة استثناء، واستثناء إعادة التاريخ لنفسه ينطبق على العلاقات بين العرب وإسرائيل، فالتاريخ يسجل بأن بدء العلاقات بين العرب وإسرائيل حدث أيام النبي محمد، عندما حارب اليهود في المدينة وخيبر لرفضهم الدخول في دين الإسلام، إلا أن التاريخ يسجل أيضاً أن الإسلام كان أكثر تسامحاً مع اليهود من المسيحية التي اضطهدت اليهود وحاربتهم في قسوة بعد زوال الإمبراطورية الرومانية، بل إن يهود أسبانيا قد استفادوا كثيراً من احتلال العرب، وفى عام 1912 زرت الإمبراطورية العثمانية، ورأيت الطوائف اليهودية تعيش في سلام ووئام تحت حكم الإسلام. ومن هنا فإن سجل معاملة العرب لليهود سجل رائع، خلافاً لسجل المسيحيين في الغرب الذين عاملوا اليهود بقسوة لقرون عدة، وضحك «أرنولد توينبي» ثم أردف قائلا: (ولهذا شعروا فجأة بعقدة الذنب، وقالوا: لا بد أن نعوض اليهود الآن، ودع العرب يدفعون الثمن)! منطق غريب ومعقولية أغرب)!!
وأسأل المؤرخ أرنولد توينبي عن أسطورة «الأرض الموعودة»؟
ومرة أخرى يبتسم في سخرية، ويردف قائلا: (إننى لا أستطيع أن أصدق ما يتردد من أن أرض فلسطين هي جنتهم الموعودة، ولا أستطيع أن أصدق بأن السماء قد وعدت الشعب الإسرائيلى بجنة وحده، ففي أرض فلسطين نزلت اليهودية والمسيحية، ومن أرض فلسطين أسرى نبى الإسلام، وعليه يمكن القول بأن أرض فلسطين هي الجنة الموعودة لمعتنقي الأديان الثلاثة جميعاً، ولكن لا أعتقد أنه من المنطق أن يتمسك اليهود بفلسطين ويشيعون أنها أرضهم الموعودة، لمجرد أنهم استولوا عليها عنوة في فترة من الفترات قبل 1800 سنة. لم تكن فلسطين ملكاً لهم وإنما احتلوها في فترات متقطعة، و فقدوها أكثر من مرة على مر التاريخ، إن أى استيلاء مؤقت على أراضى الغير لا يعطى الغازي الحق في المطالبة بها إلى الأبد، وإلا لكانت الولايات المتحدة الأمريكية الآن حقا شرعياً للهنود الحمر، وكانت بريطانيا اليوم حقا شرعياً لشعب ويلز. إنه من الاستخفاف و اللامعقولية تركيز ادعاءات الملكية على أساس إقامة مؤقتة في فترة من الفترات. إن التاريخ يميل إلى تصديق العرب بأنهم الملاك الشرعيون لأرض فلسطين، بحكم الثلاثة عشر قرناً الماضية التي قضوها فيها).
وأسأل أرنولد توينبي عما إذا كان التاريخ قد برهن على أن بإمكان دولة أن تحتل أرض دولة أخرى بالقوة ثم يتسنى لها البقاء فيها؟
(هذا يحدث أحياناً، ولكن غالباً ما يتزعزع بقاء المسيطر. وأقرب مثال يمكن لى أن أشير إليه هنا وينطبق على الشرق الأوسط هو إيرلندا الشمالية، منذ 300 سنة فعل الإنجليز ما فعلوه في فلسطين من قبل. زرعوا استعمارا بالقوة في دولة أخرى، وذلك عندما زرعوا البروتستانتية في دولة كاثوليكية. وحتى الآن وبعد كل هذه الفترة فإن البروتستانت فعلوا ما لا أرجو للاسرائيليين أن يفعلوه، وهو الإصرار على السيطرة، وتفضيلها على السلام والأمن. العقلاء لا يتصرفون هكذا). وللحديث بقية.
