هل تطبيق الفكرة يعنى إعاقة النجاح؟ «الله خلق البشر بقدرات: التفكير، الابتكار، وتحقيق الذات، وتشجيع الناس على الوصول لأهدافهم هو السبيل لنمو المجتمعات.. الضرائب المرتفعة تعنى فشل السياسات وفشل الدولة».. هكذا علق أحدهم منطلقاً من قناعة بأن الحوافز الفردية هى وقود التنمية، وأن أى تدخل مفرط من الدولة عبر الضرائب قد يُفسد آليات السوق.
وفى الحقيقة فإن هذا تخوف مشروع، وله شواهد فى حالات كثيرة حين تتجاوز الضرائب حدود المعقول أو تُصمم بشكل متسرّع، لكن من جهة أخرى، تُظهر التجربة الدولية أن التوازن ممكن.
ففى سويسرا مثلًا، توجد ضريبة على صافى الثروة على مستوى الكانتونات، وهى تُطبق منذ عقود بنسبة تتراوح بين 0.1 فى المائة و1 فى المائة حسب الشريحة، دون أن يؤدى ذلك إلى هروب جماعى لرؤوس الأموال أو انهيار تنافسي، بل إن الاقتصاد السويسرى يحتل مراتب متقدمة فى مؤشرات الابتكار والحرية الاقتصادية.
كما عبر آخر عن الفكرة نفسها لكن من زاوية مختلفة بحديثه: «كلما زادت الضرائب قلت الإيرادات وازداد الاقتراض، ثم تعود الدولة إلى فرض المزيد من الضرائب دائرة مفرغة».
يشير هنا إلى ما يُعرف اقتصادياً بـ«حلقة الاستدانة الضريبية»، التى تحدث عندما تفقد السياسات المالية الاتساق وتُستخدم الضرائب كحل قصير الأجل لتمويل العجز، لكن التحليل المقارن بين النماذج الدولية يُظهر صورة أكثر تعقيدًا.
ففى الدول التى تقترب من 40 فى المائة عبء ضريبى (مثل بلجيكا والدنمارك)، لم ينكمش بها النمو، بل تحققت معدلات نمو تتجاوز «1.8–2.2» فى المائة سنوياً خلال العقد الأخير، وفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي، كما أنه فى دول ذات عبء ضريبى منخفض جداً (أقل من 15 فى المائة)، مثل نيجيريا أو باكستان، لم يتحقق بالضرورة نمو قوي، بل ظلت الهشاشة المالية قائمة نتيجة ضعف الجباية وانعدام الخدمات العامة.
وبالتالي، فالمسألة ليست فى «كم نأخذ»، بل كيف نأخذ، ومِن مَن، ولأى غرض؟.
هل ضريبة الثروة «منفرة» للاستثمار؟ وفى ضوء ذلك، فإن ضريبة الثروة ليست بالضرورة من العوامل المنفرة للاستثمار، فالعلاقة بين فرض هذه الضريبة وحجم الاستثمار تعتمد بشكل رئيسى على كيفية تصميمها وتطبيقها فى السياق الاقتصادى العام، ومع هذا تبقى التحفظات الاقتصادية على تطبيق هذه الضريبة فى ثلاث صور.
الأولى تكمن فى احتمالية نزوح رؤوس الأموال (Capital Flight) من الدولة إلى دول أخرى ذات أنظمة ضريبية أكثر جاذبية، خاصة فى حال فرضها بشكل مفاجئ وغير مدروس، إلا أن التجارب العملية، مثل تجربة فرنسا، أظهرت أن حجم نزوح رأس المال كان أقل مما كان متوقعًا، حيث تبين أن مدى تأثر الاستثمار مرتبط بكفاءة تصميم الضريبة وآليات فرضها ومراقبتها، وليس بفرضها بحد ذاته.
التحفظ الثانى يتمثل فى تقييم الأصول بدقة إذ إنه تحدٍ كبير، خصوصًا فى الاقتصادات التى تشهد نشاطاً اقتصادياً غير رسمى أو تحتوى على أصول يصعب تحديد قيمتها الحقيقية، غير أن التطورات الحديثة فى أدوات التقييم، وخصوصًا استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، ساهمت فى تخفيف هذه العقبة وجعلت من الممكن تطبيق الضريبة بشكل أكثر دقة وعدالة.
أما الثالث، ففى احتمالية وقوع ازدواج ضريبي، حيث قد تُفرض ضريبة على الأصول نفسها إلى جانب ضرائب أخرى مثل ضريبة الدخل أو أرباح رأس المال، ما قد يثنى المستثمرين ويزيد الأعباء الإدارية، لكن هذا الأمر يمكن تداركه عبر تنسيق السياسات الضريبية ووضع قواعد واضحة لتفريق أنواع الضرائب، بالإضافة إلى اعتماد إعفاءات ذكية.
البعض قد تناول الطرح معارضاً، مستنداً إلى مخالفتها لنص الدستور، لكن فى الواقع فإن تطبيق ضريبة الثروة يتسق تماماً مع نص الدستور المصري، وتحديداً المادة 38 التى تنص على أن «النظام الضريبى يقوم على العدالة الاجتماعية وتعدد المصادر، مع ضمان الشفافية وربط التحصيل بالخدمات».
وبناءً على هذا النص، فإن فرض ضريبة على الثروات - إذا ما صُممت وفق معايير عادلة وتدرّجية - لا يُمثّل خروجاً على الدستور أو مخالفة له، بل على العكس، يُمكن اعتباره امتداداً طبيعياً لمبدأ التصاعدية فى فرض الضرائب، وتكريساً للعدالة الاجتماعية التى يُفترض أن تشكل حجر الزاوية فى أى نظام ضريبى حديث.
يبقى السؤال الجوهري: كم يمكن أن تدرّ ضريبة الثروة على الخزانة العامة؟.. رغم غياب قواعد بيانات دقيقة ومُحدثة عن توزيع الثروة فى مصر، يمكن إجراء تقدير تقريبى بالاعتماد على مصادر دولية مثل تقارير Credit Suisse وKnight Frank، والتى تشير إلى وجود ما بين 15000 إلى 20000 فرد فى مصر يمتلكون ثروات تفوق 5 ملايين دولار، من بينهم نحو 600 إلى 700 فرد تتجاوز ثرواتهم حاجز 30 مليون دولار.
وبناءً على ذلك، فإن تطبيق ضريبة سنوية بنسبة 0.5 فى المائة على صافى الثروات التى تتجاوز 50 مليون جنيه قد يشمل قاعدة ضريبية محدودة لا تتعدى بضعة آلاف من الأفراد، مما يجعلها ضريبة عالية الاستهداف، لكنها فى الوقت نفسه قادرة على توليد إيرادات أولية تتراوح ما بين 8 إلى 12 مليار جنيه سنوياً.
وإذا ما تم توسيع نطاق الضريبة تدريجياً ليشمل الأصول العقارية، والأصول المالية السائلة، والمقتنيات الفاخرة، وفقًا لآليات تقييم دقيقة، فقد ترتفع الحصيلة لتتراوح بين 20 - 25 مليار جنيه سنوياً، وهو رقم كفيل بإحداث فارق ملحوظ فى تمويل قطاعات استراتيجية مثل التعليم والصحة والحماية الاجتماعية.
أما بالنسبة للنموذج المقترح لتطبيق ضريبة الثروة فى مصر، فيمكن التفكير فى صيغة مرنة ومتدرجة تراعى خصوصية المرحلة الاقتصادية، وتوازناً بين الحاجة لتعبئة الموارد وتحفيز الاستثمار.
فى هذا السياق، أقترح أن يبدأ التصميم بحد إعفاء مرتفع -على سبيل المثال 50 مليون جنيه - لضمان طمأنة المستثمرين وتوجيه الرسالة بوضوح أن الضريبة تستهدف الثروات الكبيرة جدًا، لا الطبقة المتوسطة أو أصحاب الأصول الصغيرة، ويُفضل أن تُطبق بنظام شرائح متدرج، كأن تُفرض بنسبة 0.5 فى المائة على الشريحة الأولى، وترتفع إلى 1 فى المائة على الشريحة الأعلى، ما يسمح بعدالة أكبر فى التوزيع.
ومن الضرورى كذلك استثناء الأصول الإنتاجية من نطاق الضريبة، مثل المصانع والأراضى الزراعية، للحفاظ على قدرة القطاعات المنتجة على التوسع والتوظيف، كما سيكون من المهم ربط حصيلة هذه الضريبة بشكل مباشر وواضح بمشروعات عامة ذات طابع اجتماعي، مثل التعليم والصحة وسد العجز فى صناديق التأمينات، بما يعزز من قبولها المجتمعى ويمنحها طابعاً تنموياً.
أما من الناحية الفنية، فيُستحسن أن يتم إدخال نظام تقييم رقمى للأصول بشكل تدريجي، يبدأ اختياريًا وبالتعاون مع الممولين، مما يسهل بناء الثقة وتحديث قواعد البيانات تمهيدًا لتطبيق أكثر كفاءة فى المستقبل.
ختاماً، فالضريبة ليست عقاباً ولا مديحاً.. ليست ضد النجاح، ولا أداة مساواة قسرية، بل هى إحدى أدوات تجديد العقد الاجتماعي، حين تُصمم وتُطبق ضمن رؤية شاملة للإصلاح المالي، بحيث تراعى فى المقام الأول العدالة فى التطبيق والثقة فى المنظومة والأثر الإيجابى على المجتمع.
فى المقال القادم من سلسلة «إصلاح المنظومة الضريبية»، نفتح ملف الضريبة العقارية: أبعادها، تحدياتها، دورها فى تنظيم السوق العقارى وتوسيع القاعدة الضريبية، مع عرض لتجارب ناجحة فى دول نامية ومتقدمة.