رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

شاعر الأمل يمضغ الذكريات


8-8-2025 | 15:00

الشاعر الراحل أحمد رامي

طباعة
يقـدمـــها: أشــرف التعـلبى

شاعر الحب.. شاعر الشباب.. قل عنه ما شئت من ألقاب، يكفى أن نقول «أحمد رامى» بدون أى لقب أو صفة.. وقد ارتبط اسمه بكوكب الشرق أم كلثوم، إذ كتب لها ما يقرب من 110 أغان، من بينها روائع خالدة مثل: «على بلد المحبوب»، «يا ظالمني»، «دليلي احتار»، «هجرتك»، «حيرت قلبى معاك»، و«أقبل الليل».

هنا فى «كنوز المصور»، وبمناسبة ذكرى ميلاد الشاعر أحمد رامى التى تحل فى 9 أغسطس، نعيد فتح دفاتر الذكريات، ونستعيد حكايته كما رواها بنفسه فى حوار نادر مع الصحفى صفوت عبدالحليم عام 1973، حيث تحدث فيه عن الحب، والشعر، وأم كلثوم، والعائلة، والأحفاد.

 

رحلة طولها 84 عامًا حفظه الله ـ أكسب فيها أحمد رامى الحياة من حوله مذاقا مميزا وطعما خاصا.. مصر فى القرن العشرين بآهاتها وبسماتها مقفاة فى أشعار منغمة فى كلماته.. خرج بالأغنية من الموال الطويل بالبطانة والمرددين، ثم من الطقطوقة الرومانسية، ثم أغانى الغزل الهابط المتسكع حول أجساد النساء، إلى عالم فسيح من المعانى الروحية والحب السامى للحياة وللإنسان وللأمل «رق الحبيب وواعدني» عادت ليالى الهنا، هلّت ليالى القمر، على غصون البان، أنت الحب» عشرات غيرها وعشرات.. وطربت مصر.. أحمد رامى نفسه رفيق طريق مع الأحزان الحس المرهف أرق من حركة الحياة.. من دوران الأرض من صراع الوجود.... أرق من الجميع.

لماذا تأخر شراعك عن مرفأ الزواج؟

خفت من الحب، حب الأبناء أقوى من عواطفى، أعنف من رقتى: ظللت أهرب من قدرى حتى سن الأربعين، أنا لا أطيق حمل عاطفة الأبوة لأنها شديدة على نفسى، فهى الحب الذى لا أطمع فى نيْل مثله.

زوجته وأم أولاده تلتقط الحديث

فى العام الماضى: خلت دارنا من خطى الأولاد، سافر محمد فى بعثة دراسية إلى الخارج؛ ليستكمل دراساته العليا فى طب العظام، وهاجر توحيد –مهندس- حيث يعيش فى نيويورك، وإلهام صغراهم -مهندسة كهرباء- طارت وراء العلم إلى ألمانيا، كم عذبنى رامى.. وأُصيب باكتئاب شديد لمدة سبعة أشهر، الدواء بإلحاح.. أما الطعام والشراب فمن طرف اللسان، راقد على سريره ووجهه إلى الحائط وظهره إلى الدنيا. شاعر الأمل يهرب من وحدته إلى الخلان ويجالس الأصحاب.. ولكن طبيعته تغلبه فيعود هاربا إلى خلوته ويعيش فى قوقعة من نفسه، ويقول:

بحّ صوتى فى ضجة الناس

لا أسمع فيهم تناوحى وأنينى

فإذا ما خلوت أسمع فى الوحدة

نفسى وأستجيش حنينى

وأرانى وقد غنيت عن الناس

بنجوى خواطرى وظنونى

خلت أنى أعيش فى عالم

الأرواح لا فى سلة من طين

الكتاب.. جليس الزمان!

وأمتع أوقاتك

أحلى الوقت عندى الذى أقضيه مع كتاب جديد كأنى آكل فاكهة جديدة أو أستقبل عيدا من أعياد الدهر، وصدق مَن قال «وخير جليس فى الزمان كتاب».

وأسعد لحظات حياتى حــــــين أستطيع أن أُدخل السعادة إلى نفس غيرى من الناس، فإن أردت تفسيرا لهذا، أقول إنى أحب رؤية البشر على كل الوجوه. وأحب المجلس الشهى الذى أفتح فيه قلبى إلى صديق أو أكثر وأسمع منهم ما يخالجهم من الشعور والإحساس، فذلك هو النبع الذى أستقى منه شعرى. ويسعدنى أن أسمع من غيرى فكرة قلتها أو رأيا أبديته أو إحساسا صورته لأنى فى هذا الموقف أعتقد أن ما يفيض به خاطرى يفيض من خاطر إخوتى فى الإنسانية.. وهكذا يكون الشعر فالعرب سموه شعرا لأنهم شعروا به وفطنوا إليه.

وهوايات البشر.. ورياضة الأبدان مثلا!!!

أنا ابن الكتاب، لم أعرف يوما ألعاب الصبا.. لم أمارس السباحة ولا الكرة ولا ركوب البســــــكليت.. لم أتعلمها..!!

ومتى تضيق بالمجالس؟!

عند وجود الجهلاء.. أضيق إذا وُجد فى مجلس جاهل فهو يلقى الكلام على عواهنه ويعيش على رأى غيره ويناقش فى الحقائق. أضيق أيضا بالذى يتكلم بصوت عالٍ ويكثر الإشارة بيديه ورأسه «ويبتسم لذكرى خاطر» جالسنى رجل تلازمه عادة جذب انتباه المستمع بأن يربت على كتفه وأرهقتنى عادته.. فضربته، وأضيق بالناس إذا بدا لى خاطر وأحببت أن أنظم فيه أبياتا عند ذلك أترك من حولى وأخلو بنفسى؛ إما منطلقا إلى الجو الطلق، وإما قابعا فى ركن من أركان غرفتى.

سعيت إلى الخلوة فأصبحت لك بعد أن استقل أبناؤك، كلٌّ فى بيته.. كيف تراها الآن؟!

مستوحشانى جدا أنا وزوجتى.

وتقول «حبوبة» اسم التدليل الذى ينادى به رامى زوجته.

حالفنا الحظ ونُقلت شقيقتى وزوجها للعمل فى القاهرة فاستضفناهما، وزادت الأنفاس التى تتردد فى حجرات البيت الكبير الواسع.

ويهمس هو فى أذنى كأنما يذيع سرا:

خمس حجرات رحبة واسعة نسكنها منذ 34 عاما «ويخفت همسه» بستة جنيهات فقط لا غير.

لسعات الوحدة وليالى الطرب!

الحزن من سماتك.. تفضحه أشعارك ومقتطفاتك.. من أى نبع سقيته؟!

ربيت يتيما فى حياة أبى وأمى، أبى كان طبيبا فى الجيش المصرى وكثرت إقامته وأمى فى السودان. وكثرت إقامتى فى دار جدى المطلة على جامع السلطان حنفى وكنت أصحو مع الفجر على الأذان وأسمع الأوراد الدينية والقرآن الكريم، فأشعر بحنين إلى الغائبين، وتلسعنى الوحشة.. وقضيت عامين فى رعايتهما فى جزيرة «طاشيوز»، وهى تقع أمام مدينة قولة التى وُلد فيها محمد على وكانت تابعة لمصر، عطية من تركيا لوالى البلاد، وفى التاسعة من عمرى أعادانى إلى القاهرة للالتحاق بالمدارس وتجدد الفراق، وعشت هذه المرة فى منزل عمتى التى راق لزوجها أن يجاور الإمام الشافعى أسوة بالمرحوم الأديب إبراهيم عبدالقادر المازنى. وفى هذه النواحى كنت أسمع أنين الثكالى وبكاء اليتامى فيشق علىّ ذلك وأحس بتفاهة البكاء على الحياة.. وتلسعنى الوحدة. عاد أبى وعدت إلى دارنا حيث وُلدت فى حى الناصرية وكان يعشق الغناء وكانت لنا «مندرة» فى ذلك البيت تجمعه بالهواة العازفين والمغنين.. وغناؤنا حزين النبرة شجى النغم.. وتلسعنى الوحشة. خرجت من تجربة الوحدة فى طفولتى وصباى بفلسفة لحياتى وهى عدم الاهتمام بما مضى وعدم القلق مما هو آتٍ، فأنا لى الحاضر وأحمد الله على ما تبقى من فضله علىّ لأن إيمانى بالله يملأ روحى ويعمر قلبى، ومن هنا تجدنى لا أومن باستطلاع الغيب ولا قراءة المستقبل والتنجيم.. وأعيش على ضوء البيت الشهير:

ما مضى فات والمؤمل غيب

ولك الساعة التى أنت فيها

وقد قال الخيام:

وما طويت النفس هــمّـا على

يومين: أمس المنقضى والــغـــد

غد بظـهـر الغيب واليوم لى

وكم يخيب الظن فى المقبل

عام 1922 التقى غريبان من الشرق على ضفاف السين وبينهما فارق فى العمر تسعة قرون، أحدهما باحث علم فى الكتب والآخر مسجى عبر التاريخ داخل الكتب.. أحمد رامى وعمر الخيام.

لقاء مع الخيام!

ولماذا الخيام؟!

أعجبتنى روحه ومذهبه فى الحياة وخاصة الاستمتاع بما يطيب الحاضر من نعم، وعدم الندم على ما فات، والاستبشار بالمستقبل والعيش بالأمل ومناجاة الأمل.. هذه الأشياء تسرى فى دمى وتسرى بثراء فى أشعار الخيام وبين سطوره رباعياته.. وأحببت الرجل.. وكان أول لقاء بيننا وأنا فى الثانوى حين قرأته بالعربية من ترجمة لوديع البستانى عن الإنجليزية للشـــــــاعر المعروف «فيتز جيرالد» الذى كان يجيد الفارسية لغة الخيام، ولم يكن يجيد التعرف على روح الشرق، أحسست من الكتاب أن هناك شيئًا ما قد ضاع من جيرالد، وخصوصًا بعد أن قرأت الترجمة الإنجليزية من الفارسية، وكنت قد أنهيت المعلمين العليا، وازددت حيرة فى فهم عمر الخيام لأن كثيرا من التعبيرات الروحية الواردة فى الرباعيات لا يحسها إلا شرقى عربى، وقد صدق ظنى لأنى قرأت فى مقدمة هذا الكتاب أن ناقدا يقول إن جيرالد لم يقيد نفسه بالأصل وأنه تصرف تصرفا كثيرا وأنه أعطانا شعرا إنجليزيا جميلا ولكنه ليس خياميا.

بقيت ثمانى سنوات أحلم بتعلم الفارسية من أجل الخيام حتى سافرت إلى باريس وتعلمت الفارسية، وسهّل علىّ أن أفهم روحه كما يجب وساعدنى أنى وجدت نسخة لهذه الرباعيات مترجمة نثرا لا شعرا إلى الفرنسية، فكان هذا أدعى إلى الإلمام التام بما يقصد الخيام؛ لأن الشاعر لا يترجم الشعر كما يجب -اللهم إلا فى أسطر وأبيات ورباعيات، فإن هذا يسهل فهم مغزاه ومعناه فى ترجمة سليمة.. أضف إلى ذلك أن اللغة الفارسية ظهرت بعد الإسلام، وهى تطوير للغة البهلوية التى ترجم منها ابن المقفع جزءا من كليلة ودمنة، وهذه اللغة فى أصلها من «الزندافستا»، لذلك تعمر الرباعيات فى أصولها الفارسى بالألفاظ العربية وخاصة فى القوافى التى حافظت عليها عند ترجمتى، وكنت أول عربى يقوم بهذه الترجمة من الفارسية مباشرة، وجاء بعدى شعراء عديدون ترجموها، أمثال صدقى الزهاوى والصافى النجفى وحامد الصراف وعبد الحق فاضل..

فى سماء الأغنية:

كيف انتقل طائرك من الشعر إلى الأغانى؟!

الأغنية فى دمى منذ نظمت الجزء الأول من ديوانى فإن أكثره من المقطعات القصيرة الأبحر، الرنانة القوافى، وهى أصلح ما يكون عند الغناء، ولكن شعرى الغنائى لم يتفتح على أبواب جديدة من النظم إلا عندما تشرفت بمعرفة مطربة العرب أم كلثوم وهبها الله الصحة وطول العمر.. حين جمعت الأيام بينى وبينها آنست إلى عشرتها وراقنى صوتها وأحببت وأحبت معى أن أسهم فى وضع بعض الأغانى ليلحنها الموسيقار الكبير المرحوم محمد القصبجى، وقد طلبت منى أن أنظم شيئًا من الأغانى الدارجة، فأبيت أول الأمر لأنى كنت قد طبعت ثلاثة دواوين وترجمت رباعيات الخيام ولم أنظم بيتا واحدا من الزجل.. ولكنها انتصرت علىّ حين قالت «أيرضيك ما تسمع من هذه الأغانى الهزيلة السافرة؟!» قلت لا.. قالت « ما الذى يضيرك لو وضعت معانيك وصورك الشعرية فى إطار من اللغة التى يفهمها كل الشعب؟!» الحقيقة أنها حاجتنى وأطعت أمرها، فكنت أزاوج فى نظمى بين اللغة الفصحى واللغة الدارجة، حتى نظمت لها فى بحر سنوات عشرتنا ما يقرب من المائتى أغنية.

وبدأ زميلى المصور يسجل للشاعر نشاطه اليومى فى صومعته وكما يسميها «منامة ومكتبة ومسمعة»، ففى حجرته ينام ويقرأ ويكتب ويسمع تسجيلات أم كلثوم، امتدت أصابع الزوجة اليقظة تسابق عدسة التصوير تلتقط كل بقايا آثار الحياة اليومية، فهى زوجة وتريد لزوجها أمام الناس لامعا مزوقا فى لوحات.. ويتبرم الشاعر ويحتج ويرفض، ومع ذلك ينتصر النظام.. ويقول «باسم النظام تقتحم الأيدى حجرتى.. عدت مرة من سفر واكتشفت أن أخشاب الأرض نظفت بالورنيش، وأنا لا أطيقه وأمنعه.. لقد اكتشفت ما فعلوه» وينظر بشماتة إلى حبوبته.

همست أرجوها أن تعد نفسها لنصورهما معا.. وغابت لحظات..

إلى جوار السرير لمحت صورة طفلة وقال بمرح:

حفيدى من ابنتى اسمها رانية وتصلح رامية.

حفيدى ابنى مرتين

كنت تخاف عاطفة الأبوة.. كيف عاطفتك وأنت جد؟!

أبلغ ما قاله شاعر «هذا الحفيد ابنى مرتين».. انتظرتها يوما وكانت فى طريقها من الإسكندرية لزيارتى، وأمسكت قلمى، وكتبت:

أنا أحب رانية

قرة عينى الغالية

إذا رأيت وجهها

نسيت كل ما بي

أشتاق أن أضمها

وهى على حانية

وأستطيب قبلة

من الشفاه القانية

وأستطيل نظرة

من العيون الساجية

لله ما أحبها

حين تكون راضية

وما أجمل خطوها

رائحة وغادية

تقول جدو أنا

أقول يا حياتي

أفديك يا صغيرتي

بالروح وهى غالية

وأسأل الرحمن أن

تحيا حياة هانية

ماذا ترى فى أغانى اليوم؟!

«أنا حا أشتــــــــم وأنتم أحرار»، كانت الألحان على يد القصبجى وزكريا أحمد -رحمهما الله- وعلى يد السنباطى -أطال الله عمره- شرقية أصيلة لا تدخل فيها آلة غربية ولا لحن غربى، فكانت تمس القلوب وتملأ رحاب النفس حتى بدأت فى هذه السنوات الأخيرة التى ضاق فيها العالم بالخوف والحيرة تتجه إلى الأغانى القصيرة الصاخبة التى تؤثر على الأعصاب لا على العواطف، وأكبر خوفى أن يطغى هذا السيل من التأليف واللحن فيمس فننا العريق بشيء يفقده شخصيته.. لكن أملى فى أم كلثوم وفى فرقة الموسيقى العربية تحت رئاسة عبد الحليم نويرة عظيم فى الاحتفاظ بموسيقانا العربية الشرقية الأصيلة؛ لأن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث فى الأرض، ولا يبقى إلا ما تردد على ألسنة الناس من تجويد القرآن الكريم وترتيل الأوراد الدينية، ومناغاة الطفل عند نومه ومناجاة سائل فى سكون الليل يسأل من الكريم عطاءه، هذه هى الموسيقى التى تنبع من النفس فتصل إلى النفس، أما اللحن الشرقى المطعّم بالغربى آلة وأداء فهو كالذى يلبس الجلباب والمركوب ويضع على رأسه قبعة أو كمَن يقدم إليك صحنا من الملوخية وإلى جانبه طبق من المايونيز».

خرج من الحجرة وغاب لحظات عاد بعدها محتجا «لقد تآمرتم ضدى مع زوجتى طلبتم أن تجمعها معى صورة وهذا معناه أن أغيّر ملابسى لأكون فى المظهر الملائم.. هكذا هيا ترى» وخرج برما.. ومع رشفات عصير البرتقال لم تطُل غيبته، وعاد متحديا: «لن أغيّر ملابسى.. هكذا أكون أكثر راحة».. وبدأت طرقعات بآلة التصوير.. وانتصر الفنان..