خلال السنوات الأخيرة استطاعت الدولة المصرية أن تحقق معادلة صعبة وشبه مستحيلة فى قطاع الزراعة يصفها البعض بالمعجزة، ففى الوقت الذى تعانى فيه مصر من قلة الموارد المائية فاجأتنا الدولة بنهضة زراعية غير مسبوقة، للحد الذى وصل فيه إجمالى حجم المساحة المزروعة إلى الضعف خلال 7 سنوات فقط، لذلك ومع بداية عام ميلادى جديد ما هى استراتيجية الدولة الزراعية ورؤيتها وأهم التحديات التى تواجه القطاع الزراعى المصرى والإنجازات التى تحققت على أرض الواقع؟
منذ اللحظة الأولى اهتمت القيادة السياسية بتدشين العديد من المشروعات الزراعية العملاقة مثل مشروع المليون ونصف المليون فدان ومشروع الدلتا الجديدة ومستقبل مصر، كما يوضح الدكتور خالد عياد، الأستاذ بمركز البحوث الزراعية، إضافة إلى المشروع القومى لتبطين الترع، وذلك لتقليل الفاقد من المياه، وهو ما ساهم بشكل مباشر فى توسيع المساحات الزراعية وتوفير المخصصات المائية التى تناسب مساحة كل مزارع.
ويُشير إلى أن مشروع الدلتا الجديدة تم إنشاؤه استيعاضًا لدلتا النيل التى عانت مع مرور الزمان من زحف العمران على المناطق والأراضى الزراعية، لذلك ظهرت الحاجة لتعويض المساحات المفقودة منها بهذا المشروع، خاصة أن حجم المفقود من الأراضى الزراعية فى مصر منذ عام 2011 يقدر بـ1.5 ألف فدان، لافتًا إلى أن قيام الدولة المصرية بإزالة التعديات على الأراضى الزراعية كان بمثابة رسالة ردع لكل من تسول له نفسه فى المستقبل التفكير فى التعدى على المساحات الزراعية، وذلك لخطورة الأمر على مستقبل الأمن الغذائى للأجيال القادمة.
المشروعات القومية
وسلط «عياد» الضوء على مشروع توشكى الذى شرعت فيه الدولة المصرية منذ عقود طويلة، إلا أنه بدأ يؤتى ثماره خلال السنوات القليلة الماضية، نظرًا لتوقف المشروع لسنوات طويلة بسبب وجود العديد من العوائق من الحوائط الصخرية الجبلية التى حالت دون المضى قدمًا فى إنجاز ذلك المشروع الضخم، إلا أن الإرادة السياسية المصرية كانت قويةً وقادرةً، وتمكنت من التعامل مع كافة المعوقات ليؤتى المشروع ثماره حاليًا.
ويؤكد «عياد» أن كافة المشروعات الزراعية القومية التى تم تدشينها مؤخرًا هى عبارة عن خطة ورؤية مصرية، ضمن خطتها الشاملة لتحقيق التنمية المستدامة وتوفير الأمن الغذائى المصرى للمواطنين لسنوات وعقود طويلة، وساهمت تلك المشروعات أيضًا فى تحقيق طفرة نوعية وكمية فى مجال تصدير المنتجات الزراعية إلى الخارج، الأمر الذى ينعكس بشكل مباشر على أداء الاقتصاد المصرى.

ويرى «عياد» أنه لولا سرعة تنفيذ كافة تلك المشروعات الزراعية لحدثت أزمات كبيرة جدًا فى الأسواق المصرية؛ بسبب غياب أصناف الخضراوات والفواكه، وهو ما لم يحدث منذ 2011 إلى الآن، فلم تشهد الأسواق المصرية اختفاء أو غياب نوع من أنواع الخضراوات أو الفواكه، فكانت متوفرة -رغم ارتفاع أسعار البعض منها- فى كافة أسواق الجمهورية، مضيفًا أن مصر يقارب عدد سكانها 110 ملايين نسمة إضافة إلى عدد كبير من الضيوف من الدول العربية والإفريقية، ولم يحدث إلى الآن خلل أو أزمة غذائية، مما يؤكد الرؤية والخطوات الناجحة التى تسير بها الدولة المصرية فى قطاع الزراعة وملف غذاء المصريين.
حتى الآن لم يتم استصلاح سوى 6 فى المائة من جملة أراضى مصر الصالحة للزراعة، كما يوضح «عياد»، لذا فإن مستقبل الاستصلاح الزراعى فى مصر واعد جدًا ويحتاج لجهد وتخطيط ورؤية مستقبلية طموحة مثل ما تم فى استصلاح الأراضى بسيناء والتى ظلت صحراء غير مأهولة لسنوات، ولكن استغلت المياه المعالجة ثلاثيًا فى زراعة أنواع مختلفة بأراضيها، منها بعض الأشجار المنتجة للوقود، موضحًا أن البحث العلمى لا يتوقف داخل مصر من أجل التوصل لأفضل نتائج مع توفير أنسب الاختيارات لخدمة المشروعات الزراعية من خلال أعمال الهندسة الزراعية التى تعمل على توفير بيئات زراعية مناسبة، وفقًا لأحدث معايير الاستصلاح عالميًا.
التوسع الرأسى
فى سياق متصل، أكد د. أشرف كمال، أستاذ الاقتصاد الزراعى، أن المشروعات القومية الزراعية الكبرى فى مصر تعتبر إنجازًا ضخمًا منذ تولى الرئيس السيسى فى عام 2014، وهذه المشروعات لا تخطئها العين، مؤكدًا أن مشروعات المليون ونصف المليون فدان ومشروع توشكى الخير بمساحة مليون فدان ومشروع مستقبل مصر بمساحة 1.1 مليون فدان فى إطار مشروع الدلتا الجديدة بمساحة 2.2 مليون فدان ومشروع استصلاح واستزراع أراضى شمال ووسط سيناء 500 ألف فدان ومشروع شرق العوينات، قد ساهمت فى تحقيق نسب عالية من الاكتفاء الذاتى، خاصة من المحاصيل الاستراتيجية، حيث أعلن إبان افتتاح الرئيس لموسم حصاد القمح خلال العام الماضى عن إضافة مئات الآلاف من الأفدنة المزروعة قمحًا فى مشروعى مستقبل مصر وتوشكى الخير.
ويُشير «كمال» إلى أن الدولة تسير أيضًا بخطى ثابتة فى محور التوسع الرأسى من خلال العمل على زيادة الإنتاجية للفدان بفضل جهود المراكز البحثية وعلى رأسها مركز البحوث الزراعية الذى يعد أكبر صرح علمى زراعى فى منطقة الشرق الأوسط، بجانب تطوير المعاملات الزراعية نفسها، فضلًا عن السياسات الرصينة التى اتبعتها الدولة من خلال تحديد أسعار ضمان مجزية للمزارعين وليست أسعار إذعان، كما كان الوضع فيما سبق، فتم تحديد 2200 جنيه لإردب القمح، وكذلك تم تحديد أسعار ضمان أيضًا لمحاصيل فول الصويا وعباد الشمس والذرة الشامية.
ويُوضح أن الدولة أيضًا قطعت شوطًا كبيرًا فى تطوير أساليب الرى الحديثة من رى بالرش وبالتنقيط ورى نهرى، فضلًا عن تنمية المصادر المائية من خلال إعادة تدوير مياه الصرف الزراعى من خلال محطات عملاقة مثل محطة المحسمة وبحر البقر، وفى سيناء توجد الأراضى الجديدة هناك بجانب المسار الجديد بطول 174 كم لتجميع مياه الصرف الزراعى فى محطة الحمام، والتى تغذى مشروع الدلتا الجديدة، منها 22 كم مواسير مغطاة يتم تجميعها من 7 مسارب ومجهزة بـ12 محطة رفع للمياه.

وعن استراتيجية التنمية الزراعية المستدامة لمصر، يبين «كمال» أنها تستهدف تحقيق أهداف محددة بحلول عام 2030، وهذه الأهداف تتمثل فى الحفاظ على الموارد المائية السطحية والجوفية وصيانتها ورفع درجة الاكتفاء الذاتى من المحاصيل الاستراتيجية وتحقيق درجة أعلى من الأمن الغذائى وتحسين القدرة التنافسية للمنتجات الزراعية المصرية فى الأسواق المحلية والدولية والارتقاء بحجم الاستثمارات الزراعية بجانب تحسين مستوى معيشة السكان الريفيين.
ويُضيف أن الدولة المصرية تسير بخطى ثابتة فى تحقيق تلك الاستراتيجية، من خلال خطة طموح مثل تحقيق نسبة 90 فى المائة اكتفاء ذاتيًا من السكر، والوصول لنسبة 100 فى المائة العام المقبل، وستشهد السنوات المقبلة العديد من الأمثلة الأخرى لمحاصيل مختلفة قد تحقق بها نسب الاكتفاء الذاتى.
الأمن الغذائى
من جانبه، يقول د. محمد فهيم، مستشار وزير الزراعة، ورئيس مركز معلومات تغير المناخ ومسؤول ملف الأمن الغذائى بالوزارة، إن الدولة المصرية منذ 2015 تسير وفق استراتيجية واضحة لها مبدأ مهم بعنوان أن «الزراعة هى قلب الأمن الغذائى» والذى يُعتبر جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومى، ولذلك بدأت فى التعامل مع ملف الزراعة باعتباره شقًا رئيسيًا فى الأمن القومى، ومن هذا المنطلق جاءت المبادرة الرئاسية لاستصلاح الأراضى الزراعية من خلال مشروع قومى عملاق يستهدف توسعات أفقية ضخمة فى المساحة المزروعة والتى كانت تزيد بمعدل بطيء للغاية خلال العقود الماضية بلغ 1.9 مليون فدان فقط فى الفترة من الستينيات وحتى 2014.
ويوضح أن الدولة المصرية استشعرت سريعًا منذ تولى الرئيس السيسى لذلك الخطر المحدق بقطاع الزراعة، فبدأت على الفور بتنفيذ مشروعات ضخمة تزيد من إجمالى مساحة الرقعة المزروعة، فبلغ إجمالى ما تمت إضافته منذ 2015 وحتى نهاية 2023 ما يقارب من 2 مليون فدان بمعدل متوسط سنويًا 150: 200 ألف فدان كل عام، وهو ما يصل إلى 10 أضعاف ما كان يتم استصلاحه لعقود.
الصادرات المصرية
يشير «فهيم» إلى أن الـ 2 مليون فدان المضافة للرقعة الزراعية يعمل بها آلاف العمال فى صحراء مصر الغربية من خلال مشروعات توشكى ومستقبل مصر والدلتا الجديدة وشرق العوينات والواحات والريف المصرى وما تم استصلاحه فى شمال سيناء، ويمكن للجميع ملاحظة تلك الرقعة عبر تطبيقات الخرائط المتاحة عبر الإنترنت، مؤكدًا أن توافر المنتجات والمحاصيل الزراعية بالأسواق دليل مادى أيضًا على هذا الحجم الضخم من المساحة التى أضيفت خلال العقد الأخير، فمتوسط إنتاجية الفدان الواحد سنويًا من 10: 15 طنًا من ذرة أو فول صويا أو قمح أو خضراوات وفاكهة أى ما يصل إجماليه إلى 20 مليون طن سنويًا يتم إنتاجها من تلك المساحة الجديدة، وهو ما انعكس على حجم الصادرات المصرية الزراعية للخارج والتى كانت تقدر بحوالى 4 ملايين طن حتى عام 2014 وتضاعفت حاليًا لتصل إلى 8 ملايين طن، بجانب الصادرات الزراعية التى قدرت بنحو 10 مليارات دولار ما يعادل 25 فى المائة من إجمالى الصادرات المصرية.
يثمن «فهيم» جهود الدولة فى التغلب على مشكلة توفر المياه اللازمة للتوسع الزراعى من خلال إنشاء محطات عملاقة لتحلية مياه الصرف الزراعى مثل محطة المحسمة غرب السويس ومحطة بحر البقر فى جنوب بورسعيد، وتعمل الدولة حاليًا على إنشاء محطة الدلتا الجديدة بطاقة معالجة تصل إلى 15 مليون متر مكعب يوميًا، وهو ما يعنى 4: 4.5 مليار متر مكعب سنويًا ما يعادل حجم المياه الجوفية فى مصر.
أما عن أسعار المنتجات الزراعية التى يردد البعض أنها مرتفعة رغم تلك المشروعات، يؤكد «فهيم» أنه لولا تلك المشروعات الضخمة لوصلت الأسعار إلى ثلاثة أضعاف ما هى عليه فى الوقت الحالى مع غياب الكثير من الأصناف المتاحة حاليًا بوفرة فى كافة الأسواق المصرية، لافتًا إلى أنه رغم الأسعار الحالية إلا أنها تظل الأقل على مستوى العالم أجمع.
ويتابع أن الدولة أيضًا توسعت فى مشروعات الصوب الزراعية من خلال مشروع 100 ألف فدان «صوب» والذى يتميز بالإنتاجية العالية، حيث يبلغ إجمالى إنتاج فدان الصوبة 7 أضعاف الفدان المكشوف، الأمر الذى يُعد أحد أنماط التكثيف الزراعى، مضيفًا أنه لا يزال هناك العديد من التحديات الكبيرة التى تتطلب جهدًا متضافرًا من كافة مؤسسات الدولة، يأتى على رأسها تحدى الموارد المائية باعتبارها مطلبًا رئيسيًا من متطلبات الزراعة فى مصر، خاصة فى ظل التغيرات المناخية التى يمر بها العالم وتؤدى لزيادة الاستهلاك فى عملية الزراعة عن العادى، وغيرها من التحديات الأخرى التى تحتاج الكثير والكثير لتأمين ملف الأمن الغذائى فى مصر.
البحوث الزراعية
يرى «فهيم» أن كافة تحديات القطاع الزراعى المصرى يمكن التغلب عليها من خلال توسيع الاستثمار فى مجال البحوث الزراعية العلمية، لأنه السبيل الوحيد للتوصل إلى حلول جذرية وفعّالة لمختلف المشكلات التى تعانى منها مصر وتقف كحائط سد أمام انطلاقة زراعية حقيقية توفر للمصريين الأمن الغذائى، مضيفًا أنه يجب التوسع فى تحفيز وتشجيع العقول المصرية الشابة والكوادر المؤهلة للعمل فى مجال البحث العلمى الزراعى، حتى نحقق أقصى استفادة ممكنة من الطاقات والموارد المتاحة لدينا.