وإنما شُرع الجهادُ فى الإسلام لا شهوةً فى القتل، ولا تطلعًا إلى مكاسب دنيوية، ولا قسرًا للناس على الدخول فى دين الله، وهو افتراءٌ لطالما تذرَّع به أعداؤه وخصومه، بل شُرِع الجهادُ لغاياتٍ نبيلةٍ وأهداف عظيمة؛ منها التخلية بين العباد وبين حرية اختيار ما يعتقدون، ومنها إقامة العدل والحق، ومنها ردُّ العدوان وردْع الأعداء.. إلى غير ذلك من الدواعى التى فيها عزُّ الأمة وتقدُّمها.
ولأن الإنسان مفطور على حُبِّ النفس وتجنيبها موارد الهلكة حثَّ الله عز وجل عباده المؤمنين على الجهاد فى سبيله، ووعدهم - إن هم جاهدوا فى سبيله حق الجهاد - الثوابَ الجزيل والعطاء العظيم، وهو الجنة؛ فقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».
كما رَفَعَ الله شأن الجهاد والمجاهدين؛ فلم يُسوِّ بينهم وبين القاعدين؛ فقال تعالى: «لَا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا»، وإمعانًا فى بيان أفضلية الجهاد على غيره من الأعمال وإن كان عمارةَ المسجد الحرام قال: «أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».
وتخبرنا كُتبُ السُّنة الشريفة بأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الجهاد فى رمضان غير مرة؛ منها غزوة بدر الكبرى التى وقعت فى السنة الثانية من الهجرة، ومنها فتح مكة الذى كان فى السنة الثامنة من الهجرة؛ فقد أخرج البخارى فى صحيحه، باب: غزوة الفتح فى رمضان، عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم «خرج فى رمضان من المدينة ومعه عشرةُ آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مَقدِمِه المدينةَ، فسار هو ومَن معه من المسلمين إلى مكة، يصوم ويصومون، حتى بلغ الكَدِيد، وهو ماءٌ بين عُسْفَانَ وقُدَيْد، أفطر وأفطروا».
ويُستنبط من هذا الحديث الشريف أمور؛ منها: أن الجهاد لا يؤخَّر متى تَحتَّم على المسلمين وصار قَدَرًا لا مفر منه، ولو تزامن مع أفضل أوقات العبادة وأرجاها، ومنها أن «رمضان» كما أنه شهر الجد والاجتهاد فى العبادة فهو أيضًا شهر العمل والجهاد؛ فهو إذًا يجمع بين الجهاد الروحى والجهاد البدني.
كما يخبرنا الحديث بأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سار هو ومَن معه من المسلمين هذه المسافة الطويلة من المدينة إلى مكة، وكان حريصًا على أن يصوم ويصوم المسلمون؛ فلما بلغ «الكَديد» رخَّص لهم النبى فى الفطر، وليس ثمَّ تعارُضٌ بين التنويه بجهاد النبى فى رمضان وترخيصه فى الفطر؛ فإن الله عز وجل يحب أن تؤتى رُخصُه كما يحب أن تؤتى عزائمُه، كما أن المقصود الأعظم من الصيام ليس فى المشقَّة على النفس والجسد، وإنما مقصوده فى الانقياد لأمر الله تعالى، ومثلما أمر الله تعالى بالصوم أمر كذلك بالفطر فى حالاتٍ مخصوصة؛ تخفيفًا على المسلم وإنقاذًا لحياته.
وسيرًا على هذا النَّهْج النبوى فى الخروج إلى الجهاد فى رمضان شهد تاريخنا الإسلامى كثيرًا من الحروب الفاصلة التى جرت وقائعها فى هذا الشهر الكريم؛ منها:
معركة القادسية: فى رمضان سنة 15هـ، وانتصر فيها المسلمون بقيادة سيدنا سعد بن أبى وقاص على الفُرس.
فتح الأندلس: فى 28 رمضان سنة 92هـ، على يد القائد المسلم طارق بن زياد.
فتح عمورية: سنة 223هـ، فى عهد الخليفة العباسى المعتصم بالله، وانتصر فيها المسلمون على الروم.
معركة الزلَّاقة: فى 9 رمضان سنة 479هـ، وانتصر فيها يوسف بن تاشفين قائد جيوش المرابطين على الصليبيين بقيادة ألفونس السادس.
موقعة حطين: كانت فى رمضان سنة 584هـ، وانتصر فيها المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبى على الصليبيين.
معركة عين جالوت: سنة 658هـ، وانتصر فيها المسلمون بقيادة السلطان سيف الدين قطز على المغول.
فتح أنطاكية، سنة 666هـ، وانتصر فيها السلطان الظاهر بيبرس على الصليبيين.
حرب العاشر من رمضان 1393هـ، 6 أكتوبر1973م: وانتصر فيها جيش مصر العظيم على الصهاينة، وحطم أسطورة «الجيش الإسرائيلى الذى لا يُقهر».
إلى غير ذلك من المعارك التى كُتب للمسلمين فيها ببركة هذا الشهر الكريم النصرُ على أعدائهم.
هذا هو تاريخنا، فماذا عن حاضرنا؟!!
إن الأمة الإسلامية الآن تعيش محنة حقيقية، بل صراعَ وجود؛ فقد اجتمع عليها أعداؤها من كل مكان، وصاروا يجاهرون بالعداء، بل ويُمعنون فى إظهار الغطرسة وكأنهم قد أَمِنُوا العقاب، وقد بلغ الأمر مداه فى عدوان الصهاينة – الذى لا يزال قائمًا - على إخوتنا الفلسطينيين فى غزة والضفة الغربية.
إن هذه الأمة الإسلامية، التى قال فيها ربها إنها خير أمة أُخرجت للناس، لا سبيل لها لاستعادة مجدها وعزها ودَحْر عدوِّها إلا بإقامة فريضة الجهاد، وفق الضوابط التى وضعها الإسلام، ولن يتسنى لها ذلك إلا إذا اعتصمتْ بحبل الله، وإلا إذا وحَّدت صفَّها، وجمعت كلمتها، وليس لها مِن طريق إلا ذلك إن كانت تريد أن تعيش عالية الرأس مرفوعة الراية.
وأستضيء فى هذا المقام بكلمات فضيلة الإمام الأكبر، الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، التى دعا فيها إلى اتحاد الأمة ضد ما يواجهها من تحديات؛ قال: «أؤكد أهمية وحدة الصَّفِّ الإسلامى والعربى فى مواجهة التحديات المعاصرة التى تواجه الأمة، وفى مقدمتها العدوان الوحشى على غزة ولبنان؛ فلا سبيل لكبح جماح هذا المحتل المتعطش لمزيدٍ من دماء الأبرياء إلا بالامتثال لقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين فى توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
تقبَّل الله منا ومنكم الصِّيام والقيام وقراءة القرآن، ووحَّد كلمة المسلمين، وكتبنا وإيَّاكم فى المجاهدين.