في «بيت لحم»، حيث أضاءت النجمة الأولى سماء الميلاد، تُطفأ الأنوار هذا العام المنقضي على استحياء، و الأجراس التي طالما دقّت بشارةً وفرحًا، تصمت اليوم في «مهد المسيح عيسى بن مريم»، أو تدقّ بصوت خافت كمن يهمس بصلاة في معبد محاصر، إن هذه ليست المرة الأولى التي تشهد فيها الأرض المقدسة أعياد ميلاد جريحة ووطنا معذبًا تعلو صرخاته للعالم كله، لكن أبناءه يقفون بقوة وعزة صامدين في وجه الاحتلال، لكل جرح هنا ذاكرة تمتد إلى جذور الوجود الإنساني نفسه، وأن بعض القضايا لا تختار توقيتًا للظهور، بل تختارنا نحن لنحملها.. اخترنا فلسطين، وستبقى خيارنا الأول في عامنا الجديد 2026م وسنواتنا المقبلة.
وعلى هذه الأرض التي عبرها الرسل والأنبياء(عليهم السلام) وارتفعت منها الدعوات، إلى العالم كله، تتجدد المعاناة مع كل فجر ينتظر الشروق لعالم بلا طغيان واحتلال، إن فلسطين ليست مجرد قضية سياسية على خريطة الصراعات، إنها الجرح الذي لم يندمل في الضمير العربي وعرفه العالم بأسره في سنواتنا الأخيرة، هي النبض الذي يتسارع كلما ذُكر اسمها، هي القضية الأولى التي نحملها على الأكتاف منذ عقود، لا لأنها فُرضت علينا، بل لأننا اخترناها بوعي وضمير، وكما قال شاعر الأرض والمقاومة وصوت فلسطين الغائب الحاضر محمود درويش في قصيدته «الأرض».. «عَلَى هَذِهِ الأرْضِ مَا يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ: عَلَى هَذِهِ الأرضِ سَيَّدَةُ الأُرْضِ، أُمُّ البِدَايَاتِ أُمَّ النِّهَايَاتِ. كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين. صَارَتْ تُسَمَّى فلسْطِين. سَيِّدَتي: أَستحِقُّ، لأنَّكِ سيِّدَتِي، أَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ».
مصر.. الحارس الذي لا ينام
وفي القلب من هذا المشهد الموجع، تقف مصر كما عهدناها دائمًا: حارسة على البوابة، وسيطة لا تكلّ، وصوتًا لا يخفت، الدبلوماسية المصرية التي تتحرك بين عواصم العالم، لا تبحث عن مجد عابر أو صفقة سياسية، بل عن إنهاء حقيقي لمعاناة مستمرة منذ أكثر من سبعة عقود.
وتفاوض مصر، تضغط، تستقبل، تُرسل، تقترح مبادرات، وتفتح معبر رفح للجرحى والمحاصرين، ليس هذا دورًا طارئًا، لكن موقف تاريخي لدولة أدركت منذ البداية أن أمنها القومي مرتبط بفلسطين، وأن استقرار المنطقة لن يتحقق ما دامت القدس تئن تحت الحصار وغزة تنزف تحت القصف.
أرض بألف ذاكرة.. كل حجر يروي حكاية
وحين نكتب عن فلسطين، لا نكتب عن جغرافيا فحسب، لكننا نسطر بعزة وصمود شعب عظيم، عن ذاكرة جماعية محفورة في وجدان الأمة، هي أرض المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، وهي مسرى النبي محمد في رحلته الخالدة، وهي أرض كنيسة القيامة ومهد المسيح، وهي الأرض التي شهدت أنبياء كثر أرسلهم الله قبل أن تشهد محنتهم.
وكل حجر في القدس يروي حكاية، وكل زيتونة في الضفة تحمل شهادة صمود، وكل موجة على شاطئ غزة تحكي قصة بقاء، هذه ليست أرضًا عادية يمكن أن نختزلها في تقرير سياسي أو بيان دولي، إنها مساحة من الروح الإنسانية، امتداد لما نؤمن به، ولذلك نحملها قضية أولى.
عام جديد.. والأسئلة كثيرة وقديمة
مع إطلالة عام جديد، يتجدد السؤال الذي لا يشيخ: متى تنتهي المعاناة؟ متى يعود الأطفال إلى مدارسهم دون خوف من قصف؟ متى تُفتح المعابر لتصبح جسورًا للحياة لا أقفاصًا للحصار؟ متى نرى القدس حرة، وغزة آمنة، والضفة مستقرة؟
إن الأسئلة كثيرة تحاصر العقل وفي القلب آلام عصيبة ومُرّة، لكن الإصرار على طرحها هو ما يبقينا أحياء، إن اختيارنا لفلسطين قضية أولى ليس موقفًا عاطفيًا، لكنه قرار استراتيجي وأخلاقي، هي بوصلتنا الأخلاقية التي تذكّرنا بأن العدالة ليست رفاهية، وأن الحرية ليست منحة، وأن الكرامة الإنسانية لا تتجزأ.
فلسطين.. أرض الثلاث ولادات
هنا في بيت لحم، وُلد المسيح عليه السلام في مغارة متواضعة، وفوقها بُنيت كنيسة المهد عام 335 ميلاديًا، لتصبح أقدس الأماكن المسيحية على وجه الأرض، وأقدم كنيسة مسيحية لا تزال تقام فيها الطقوس الخاصة بأعياد الميلاد المجيد حتى اليوم.
وفي بيت لحم النجمة الفضية ذات الأربعة عشر رأسًا المحفورة على الرخام، في مغارة الميلاد، و المكتوب عليها باللاتينية مايعني «هنا ولد المسيح عيسى بن مريم»، وفي القدس القديمة، درب الآلام، ذلك الطريق المقدس الذي يمتد كيلومترًا واحدًا عبر 14 مرحلة من المعاناة، يمتد كيلومترًا واحدًا من باب الأسباط إلى كنيسة القيامة.
ولا ننسى قول «درويش» في قصيدة «الأرض» عن الوطن فلسطين الأبية:
«سيّدتي الأرضَ! أيُّ نشيدٍ سيمشي على بطنك المتموِّج، بعدي؟، وأيُّ نشيدٍ يلائمُ هذا الندى والبَخُورَ
كأنَّ الهياكل تستفسرُ الآن عن أنبياء فلسطينَ في بدئها المتواصل، هذا اخضرارُ المدى واحمرارُ الحجارةِ
هذا نشيدي، وهذا خروجُ المسيح من الجرح والريح أخضرَ مثل النبات يُغطّي مساميرَهُ وقيودي
وهذا نشيدي، وهذا صعودُ الفتى العربيّ إلى الحلم والقدس)»
المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين
وفي فلسطين المسجد الأقصى، ثاني مسجد بناه إبراهيم عليه السلام بعد الكعبة، وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج، وقبة الصخرة المشرفة، المكان الذي عرج منه الرسول محمد خاتم الأنبياء« صل الله عليه وسلم» إلى السماء، والتي بُنيت في العصر الأموي لتظل شاهدة على قدسية المكان.
لا توجد بقعة على وجه الأرض تجمع هذا القدر من القداسة في مساحة ضيقة، المسجد الإبراهيمي في الخليل، حيث دُفن نبي الله إبراهيم وزوجته، ويعقوب ويوسف وإسحق عليهم السلام، وكنيسة البشارة في الناصرة، حيث بُشّرت مريم العذراء، وكنيسة «القيامة» في القدس.
سجل حي لتاريخ الإيمان الإنساني وأرض المقاومة
هذه الأرض المقدسة فلسطين الغالية ليست مجرد جغرافيا، إنها سجل حي لتاريخ الإيمان الإنساني، كل حجر فيها شهد نبيًا، وكل طريق فيها حملت رسالة سماوية، وكل شجرة زيتون فيها تحكي قصة صمود عمرها آلاف السنين.
في بيت لحم اليوم، ربما تكون الأنوار خافتة والاحتفالات متواضعة، لكن الإيمان بالفجر القادم لم ينطفئ. وفي القاهرة، تستمر الجهود الدبلوماسية المصرية بلا كلل، حاملة رسالة واحدة: لن نتركهم وحدهم.
مع بداية العام الجديد، نجدد عهدنا: فلسطين قضيتنا الأولى، ليس لأنها مجرد قضية سياسية، بل لأنها قضية إيمان وضمير وانتماء. لأن فيها مهد المسيح ومسرى النبي، لأن فيها ولادة الديانات وآلام الشعوب، لأنها الأرض التي لا يمكن أن تُنسى أو تُختزل في أرقام ومفاوضات.
هذه الكلمات ليس مجرد صورة نرسمها مع بداية العام، لنا نحاول بها أن نضع نصب أعيينا عهدًا والتزامًا نجدده، وعهد نؤكده، ووعد نحمله: «فلسطين لن تُنسى، وأن صوتها سيظل عاليًا، وأن قضيتها ستبقى قضيتنا الأولى، حتى يأتي اليوم الذي تدق فيه أجراس بيت لحم بلا خوف، وتُرفع فيه الأذان من الأقصى بلا حصار، وتبتسم فيه طفلة من غزة وهي تركض نحو البحر.. نحو الحرية».
وحتى تعود فلسطين«أرض العزة والنضال» الأرض والوطن كاملة لأصحابها، ستظل كلمات شاعر الأرض محمود درويش في آذننا نتلوها على مسامعنا، من قصيدته «الأرض».. «سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل، سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل، سنطردهم من هواء الجليل».