بين إرهاق الإصلاح والسعى إلى مسار جديد
وعادت الأزمة الداخلية لتطلّ برأسها من جديد وبشكل أعنف، إذ فقد الجنيه أكثر من نصف قيمته فى أشهر معدودة مع توقعات بالمزيد، وتسارعت مستويات التضخم لمعدلات غير مسبوقة، وكذا ارتفعت تكلفة خدمة الدين الخارجى، ليصبح السؤال مطروحًا على نطاق واسع: هل نحن فى حلقة مفرغة من البرامج مع الصندوق، أم أن الوقت قد حان لتفكير جديد؟
نهاية برنامج وبداية جدل
أثارت تصريحات الدكتور محمود محيى الدين، الخبير الاقتصادى، المبعوث الخاص للأمم المتحدة لتمويل التنمية، جدلًا واسعًا، عندما قال إن الاقتصاد المصرى ظل لعقد كامل محكومًا بمنطق إدارة الأزمات، وإن الوقت قد حان للانتقال إلى برنامج اقتصادى جديد يتجاوز وصفات الصندوق التقليدية.
وقد فسّر بعض الأصوات هذه الكلمات كدعوة إلى القطيعة مع الصندوق أو إعلان لفشل البرامج السابقة، لكن جوهر ما قاله كان أعمق بكثير، فالإصلاحات النقدية والمالية -رغم أهميتها- لم تعد كافية وحدها، وأن مصر بحاجة إلى مسار شامل ومستدام يقوم على الاستثمار والإنتاج.
وهنا يكمن جوهر النقاش بالتفرقة بين انتهاء البرنامج وفشله، خاصة أن برامج الصندوق تُقاس بقدرتها على معالجة الاختلالات المالية والنقدية من خلال السيطرة على التضخم، وضبط العجز، وبناء احتياطيات، وإذا قُدر الموقف بما تحقق، فقد نجحت مصر فى أكثر من محطة.
لكن المشكلة أن هذه النجاحات بقيت سطحية ومؤقتة، لأنها لم تُستكمل بإصلاحات هيكلية عميقة، والنتيجة أننا بعد كل عقد تقريبًا نجد أنفسنا فى أزمة جديدة تستدعى برنامجًا جديدًا يحاول ضبط هذه الاختلالات، لكن بثمن اجتماعى أشد، ووضع اقتصادى أكثر هشاشة.
إرهاق الإصلاح: النصف المنفَّذ والنصف المؤجل
منذ التسعينيات، يتكرر النمط نفسه، حيث تكون البداية قوية، بتحرير سعر الصرف، وضبط العجز، ثم تحقيق فائض أولى، لكن ما إن نصل إلى الجزء الأصعب –إصلاح بيئة الأعمال، تحفيز الاستثمار الخاص، تقليص بصمة الدولة، تنويع القاعدة الإنتاجية– حتى يتباطأ التنفيذ أو يتراجع.
فى التسعينيات، توقفنا عند الاستقرار النقدى دون تعبئة ضريبية كافية أو قفزة إنتاجية، ثم فى 2016 كررنا التجربة نفسها، فبعد أن تحققت انفراجة مالية مرحلية، ظلّت الصادرات والاستثمار الخاص فى مستويات ضعيفة، وبعد 2022، وجدنا أنفسنا أمام المشهد ذاته، بإنجاز نصف الإصلاح، والنصف الآخر يبقى مؤجلًا.
هذه الظاهرة أُطلق عليها بعض الباحثين «إرهاق الإصلاح»، أى تحقيق نجاحات أولية سريعة، يقابلها تآكل تدريجى تحت وطأة الضغوط الاجتماعية والسياسية وتناقض الأولويات، والنتيجة أن كل مكاسب البرنامج تتعرض للتبخر بعد سنوات قليلة، ويعود الاقتصاد إلى نفس الدائرة لكن بظروف أسوأ وقدرات إنقاذ أقل.
هشاشة النمو واعتماد الريع الخارجى
يزيد الصورة تعقيدًا أن الاقتصاد المصرى أخذ يتحول تدريجيًا إلى نموذج هجين ريعى، خاصة أن مصادر النقد الأجنبى الأساسية ليست صادرات صناعية أو استثمارات إنتاجية، بل تدفقات خارجية: تحويلات العاملين التى تتجاوز 30 مليار دولار سنويًا، إيرادات قناة السويس التى تقارب 7-8 مليارات، عائدات السياحة التى تتراوح بين 15 و17 مليارًا فى سنوات الذروة، وأخيرًا القروض الخارجية التى تضخمت بعد 2016 لتتجاوز 160 مليار دولار.
وهذه التدفقات، رغم أهميتها، ليست ناتجة عن إنتاجية محلية تنافسية، بل أقرب إلى ريع يعتمد على الموقع الجغرافى والديموغرافى، ولذلك فهى عرضة للتقلبات، فأزمة عالمية أو حادث أمنى قادر على أن يوقف السياحة، أما إن توجه العالم نحو موجة تشديد نقدى، فالأموال الساخنة سوق تتوقف، وإذا انخفضت أسعار الشحن أو شهدت المنطقة تقلبات، فعوائد القناة سوف تتقلص، وبهذا تصبح المالية العامة رهينة الخارج، بلا قدرة ذاتية على الصمود.
أصوات جديدة تطالب بمسار آخر
من هنا، لم يكن غريبًا أن تتعالى الأصوات فى السنوات الأخيرة مطالبة بمسار بديل، مع الفارق الكبير بين مَن يدعو إلى الاستغناء عن الصندوق كلية، ومَن يرى أن المطلوب ليس القطيعة بل الانتقال إلى برنامج وطنى أوسع.
فالفارق كبير بين التوجهين، إذ يحمل الانسحاب من الصندوق كلفة سياسية واقتصادية هائلة، أما صياغة مسار جديد فتعنى ببساطة تجاوز «نصف الإصلاح» إلى إصلاح كامل، وهو المطلوب بالضبط فى تقديرى.
والتصريحات التى أثارت الجدل مؤخرًا لم تكن إعلانًا للفشل بقدر ما كانت إقرارًا بأن النجاح الجزئى لم يعد يكفى، فمصر التى تمثل أكثر من 1.3 فى المائة من سكان العالم، لا يتجاوز اقتصادها 0.3 فى المائة من الناتج العالمي.
وتعنى هذه الفجوة الصارخة أن الاقتصاد أصغر من وزنه الطبيعى بأربع مرات تقريبًا، وردم هذه الفجوة يتطلب معدلات نمو حقيقية تتجاوز 7 فى المائة لسنوات طويلة، وهو ما لا يمكن تحقيقه بالاقتراض أو بالتحويلات أو بصفقات العقارات، بل بالاستثمار الخاص والتصدير.
ما هو البرنامج الجديد المطلوب؟
الرؤية البديلة التى يطرحها كثير من الخبراء تقوم على تغيير الأولويات، بالتحول من الاستدانة إلى الاستثمار، وتمكين القطاع الخاص بدلًا من إقصائه، وتحسين بيئة الأعمال، وخفض تكلفة التمويل، وتوجيه الإنفاق العام نحو التعليم والصحة والبنية التكنولوجية بدلًا من الاكتفاء بالبنية التحتية المادية، بمعنى أن المطلوب هو برنامج إنتاجى تنموى يركز على الاستدامة والعدالة الاجتماعية، لا مجرد إجراءات مالية ونقدية.
لكن هذا المسار ليس سهلًا، فالدين المحلى قد تجاوز 8 تريليونات جنيه، بفوائد تقارب 25 فى المائة، ما يعنى أعباء خدمة ديون بمئات المليارات سنويًا، كما أن واردات الغذاء لا تزال تمثل نحو 60 فى المائة من الاستهلاك، وإنتاج الغاز تراجع بعد الطفرات السابقة، ما زاد من هشاشة ميزان الطاقة، وهذه كلها مؤشرات على أن الإصلاح الهيكلى لم يعد خيارًا بل ضرورة وجودية.
خاتمة: بين الفشل والانتقال
الجدل الحالى يعكس خلطًا بين مفهومى الفشل والانتهاء، فبرنامج الصندوق لا يُقاس بقدرته على تحقيق التنمية الشاملة، بل بقدرته على ضبط الاختلالات العاجلة، وفى هذا، يمكن القول إن مصر أنجزت بعض النجاح، لكن المشكلة أن النجاح الجزئى لم يتحول يومًا إلى نجاح كامل، وأن نصف الإصلاح أصبح هو القاعدة.
لذلك فإن الانتقال إلى برنامج وطنى جديد لا يعنى أن التجارب السابقة فشلت تمامًا، بل يعنى أن مصر بحاجة إلى ما هو أبعد من الاستقرار المالى، بالتوجه إلى عقد اقتصادى جديد يبنى قاعدة إنتاجية قوية ويحقق نموًا مستدامًا، وهذه بالطبع ليست دعوة للقطيعة مع الصندوق بقدر ما هى دعوة لتجاوز منطق إدارة الأزمات، والانتقال إلى مسار إنتاجى تنافسى يليق بدولة بحجم مصر.