رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

البلاغة العربية الجديدة


1-9-2025 | 14:30

.

طباعة
بقلم: د. محمد زيدان شاعر وناقد أدبى

المدخل النظري لدراسة البلاغة العربية الجديدة لم يعد يسلك الطريق نفسه الذي سلكه في الدراسات التاريخية للبلاغة، ولم يعد يسلك مسلك الدراسات الوصفية والمعيارية، ولأن علامات الطريق تغيرت، والأدوات والمفاهيم أصبحت هي الأخرى لا تتواءم مع الفكرة التاريخية والوصفية؛ فقد أصبح مفهوم البلاغة، والغرض من دراستها مختلفًا تمام الاختلاف، ومن وجهة نظر النصوص الجديدة يمكن أن نحدد مدخلين لدراسة البلاغة العربية الجديدة.

الأول: تعريف البلاغة. والآخر: الأثر المنشود من وجود البلاغة الجديدة.

وبدايةً، لابد أن نعترف أن هناك تغيّرًا نوعيًا أحدثه النص الأدبي المعاصر في دراسة البلاغة العربية، فلم تعد البلاغة الشعرية - والتي تصلح لنص قصير نسبيًا- جزءًا من المفاهيم النصية الجديدة، لدرجة أن مستقبل النص الأدبي المعاصر يمكن أن يعتمد على ما أسميه بالبلاغة النوعية، بمعنى أن النوع الأدبي سيحظى بأفكار وتصورات بلاغية تعتمد على أفكار وتصورات هذا النوع، وسوف تتحقق قريبًا أدوات البلاغة السردية، أو الروائية، كما تحقق أدوات من بلاغة النص الشعري، ثم بلاغة النص المسرحي، وهكذا.

وإذا أردنا أن نقدّم تعريفًا للبلاغة الروائية الجديدة فلن نعتمد على أيٍ من التعريفات التي انتشرت في الدراسات القديمة، فلم يعد هدف البلاغة هو مجرد توصيل المعنى بأسلوب معين كما هو موجود في المعاجم والدراسات المؤسسة، بل ينصب تعريف البلاغة هنا على تشكيل المعنى وبسطه وتقديمه بالصورة التي لا تسمح فقط بالفهم والإدراك، ولكن بالصورة التي تجعل هذا المعنى يقدم نفسه بالأداة المعاصرة التي تخاطب حواس المتلقي، ليس المتلقي فحسب، بل التي تقدم العالم بالشكل الأنقى والأبقى، ولن يكون ذلك مع التعريفات القديمة للبلاغة، سواء في النظرية العربية أم في النظرية الغربية، والتي تمحورت حول دراسة النص بلاغيًا بصورة تظهر السمات النحوية والأسلوبية سعيًا للوصول إلى معيارية النص والنظرية البلاغية في آنٍ واحد، وهذا ما حدث في تاريخ البلاغة العربية، فلو نظرنا إلى الدراسات البلاغية من الجرجاني وحتى السكاكي، ووصولا إلى حازم القرطاجني في القرن الثامن الهجري، لوجدنا الفقه المعياري هو الذي يسيطر على المنهج في تصورات النص والنظرية، بل لم يحدث مرة أن تعمد علماء البلاغة العربية تقديم المعيار البلاغي من داخل النص، وحتى إن فعلوا، فقد تصدّر النص الشعري واجهة الدراسات البلاغية، وأغرق علماء البلاغة التفكير النقدي آنذاك بتفاصيل وجزئيات تلفت إلى نفسها أكثر مما تلفت إلى النص ذاته. ومن هنا، لم يلجأ نقاد الأدب المعاصرون إلى البلاغة العربية وهم بصدد الدراسات التطبيقية عن بلاغة النص الروائي، وإنما لجأوا إلى منجزات النظرية البلاغية الغربية، والتي خرجت هي الأخرى من عباءة المعيارية في القرون الوسطى إلى النظريات الجديدة التي بدأت مع تغيّر المجتمعات وطابعها الفردي إلى النظريات التي واكبت تطور أدوات الحواس البشرية والاتصال الإنساني، وبالأخص ما يمكن أن يكون جزءًا من مفاهيم تربط النص الأدبي بالواقع الفعلي، ولذلك نجد أن النظريات البلاغية التي ترتبط بالفكرة الشمولية شاعت في الدراسات الغربية، كالتصورات التداولية والعلاماتية، وبالأخص نظرية الحجاج باعتبارها تهتم بالفعل ورد الفعل داخل النص الأدبي، وغير الأدبي، ولكنها من وجهة نظري لا تفي معطيات النص الأدبي، وبالأخص النصوص السردية الطويلة، والتي تحتاج إلى أفكار شمولية بلاغية تتماشى مع التصور الحكائي بصفة خاصة، والتصور السردي بصفة عامة.

فمنذ أرسطو نجد أن علاقة النظرية الأدبية بالمتلقي هي علاقة تأثير وتأثّر، “وبالرغم من أن أرسطو يجد أن الشعر دائمًا ما يؤثر في الجمهور، وبهذا يكون له علاقة بالبلاغة، إلا أنه يشجب كل البلاغة الواضحة المنفصلة لأنها خارجية، فمن ناحية، لدينا ما هو متناسق، أي شاعري (الحدث الذي تم تقليده)، ومن ناحية أخرى لدينا تعليقات المؤلف والكورال التي تشبه العروض الدرامية. وهذا يعني أن بلاغة الشعر كانت مرتبطة في مفهوم أرسطو ببلاغة الخطابة والشكل المسرحي، والشكل المسرحي قريب إلى حدٍ ما من السرد الحكائي.

إن تعريف البلاغة أصبح مختلفًا باختلاف الزمن والسياق الذي يمثله الناقد، فلن نعتمد هنا أيضاً على تعريفات أرسطو التي ارتبطت بأشكال خطابية مختلفة، لا من ناحية الأثر، ولا من ناحية البنية الفنية، كما أننا لن نعتمد على التفكير النقدي في القرون العربية الأولى، لأنها ارتبطت من ناحية بالشعر، ومن ناحية أخرى بفكرة الاعتماد على الجزء، وأي من النظريات البلاغية في تاريخ الفكرة لم تكن تهتم بالبعد الجمالي اهتمامها بالأبعاد المعرفية، والأبعاد الذاتية في تصورات القارئ والمؤلف على حدٍ سواء، ولعل أقرب التصورات للتعريف الذي يسعى إليه البحث هو الذي يتصل بالتفكير الشمولي للخطاب الأدبي، وغير الأدبي، فلسنا هنا بصدد الرؤية الحجاجية التي تقدم أفكار البلاغة الجديدة في الثقافة الغربية وبعض الثقافات العربية، ولسنا بصدد لسانيات الخطاب الشائعة في الدراسات الأسلوبية، ولكننا بصدد أفكار بنائية من قلب النص السردي (الروائي) قد يصلح البعض منها للنص الشعري، وهي في مجملها تفكير صوري ورمزي يمكن أن نجد صداه في مباحث بلاغية عربية، مثل الاستعارة، بالإضافة إلى فكرة المجاز الكلي، وهي فكرة شائعة في الدراسات النقدية، يمكن الاستفادة منها في وضع تصور فني عن البلاغة العربية الجديدة، وهنا أحب أن أصف البلاغة الجديدة بالعربية حتى أبتعد نسبيًا عن المفاهيم الغربية في التفكير البلاغي، وإن كانت التصورات الخطابية في بعض شروحها سيقدمها البحث باعتبارها أداة مساعدة في البحث، وليس باعتبارها مرتكزًا جوهريًا، وقد تأتي الدراسات الأسلوبية في المرتبة التالية لتعويض البعد البلاغي المفقود في الدراسات النقدية العربية.

أما البعد المعرفي في تعريف البلاغة فهو حاضر بشكل قوي ، لأن المعرفة أصبحت جزءًا من التفكير الجمالي المفترض في كل العلاقات الإنسانية، ومن هنا يمكن تعريف البلاغة على النحو التالي: “هي نوع من التفكير الجمالي الذي يربط حواس المتلقي بالواقع”.وتأتي مفردات الواقع لتقدم المبررات الثقافية والمعرفية لهذا التعريف، وبخاصة أن النص الروائي نصٌ كلي المعرفة، وممتد من الناحيتين الرأسية والأفقية في آنٍ واحد، ومتنوع في ارتباطه بالمعارف الإنسانية، والتي تتيح له آفاقًا بلاغية جديدة، مثل علم الجمال وعلم النفس. وبالتالي، فإن مفهوم التفكير الجمالي مفهوم واسع، ويراه بعضهم أحيانًا غائمًا ولا يمثل الواقع النصي، ولكنه من وجهة نظر البحث مفهوم يرتبط بكل المعارف الإنسانية، ويحاول أن يصل إلى عمق التأثير المتبادل بين فقرات النص الأدبي بعضها بعضاً أولاً، وبين مفردات النص الأدبي والواقع الذي يمثل السياق المعرفي والثقافي ثانيًا، والجمالي ثالثًا.

الاكثر قراءة