عادة ما يشير مرور المائة يوم على تولى أى زعيم عالمى لمنصبه إلى نهاية فترة شهر العسل؛ لكن يبدو أن المستشار الألمانى فريدريش ميرز لم ينل قسطًا من الراحة منذ توليه منصبه. فبعد أن حقق طموحه فى سن التاسعة والستين بقيادة أكبر اقتصاد فى القارة العجوز، سارع ميرز إلى دفع عجلة التغيير فى سياسات الأمن والهجرة والاقتصاد. وبالرغم من حرص ميرز على توطيد مكانة برلين على الساحة الدولية، إلا أن محاولاته فشلت فى إسكات الانتقادات الداخلية وسط فوضى ائتلافية وتراجع عن الوعود الانتخابية.
لم تبدأ فترة ولاية المستشار الألمانى فريدريش ميرز بسلاسة، حيث أخذ المستشار على عاتقه مسئولية إحياء مكانة برلين على الساحة العالمية، وترسيخ القيادة الألمانية بين الحلفاء الأوروبيين من خلال مواصلة الدعم القوى لأوكرانيا، والتعهد ببناء «أكبر جيش تقليدى فى أوروبا» فى مواجهة روسيا المعادية. كما أدى وعده بزيادة الإنفاق الدفاعى إلى ترسيخ مكانة ميرز لدى ترامب، الذى استقبله بحرارة فى اجتماع بالبيت الأبيض فى يونيو الماضي.
وبعد أسابيع من الانتقادات المتزايدة لرئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو مع ارتفاع عدد القتلى المدنيين فى قطاع غزة، أصدر ميرز إعلانًا صادمًا مفاده أن ألمانيا لن توافق بعد الآن على إرسال شحنات أسلحة إلى إسرائيل حتى إشعار آخر، مما عرَّضه لانتقادات شديدة من داخل صفوفه. فبالرغم من تأييد غالبية الناس فى ألمانيا الحد من صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، وهو ما أيده الحزب الاشتراكى الديمقراطى أيضًا، إلا أن اتخاذ القرار بشكل منفرد دون تشاور أثار استياءً بالغًا، حيث شعر الحلفاء بالتهميش. بينما انتقد اليسار والخضر الحظر الجزئى الذى فرضه ميرز ووصفوه بأنه «قليل جدًا ومتأخر جدًا» فى ضوء معاناة الناس فى قطاع غزة، وفقًا لما أوردته «يورو نيوز».
وقد أدى تركيز ميرز الشديد على الأحداث العالمية إلى منحه لقب «المستشار الأجنبي»، لكن المشاكل تلوح فى الأفق فى الداخل. فعلى الصعيد الداخلي، اتخذت الحكومة تدابير صارمة للحد من الهجرة غير الشرعية لوقف صعود حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD)، وعزز وزير الداخلية ألكسندر دوبريندت الرقابة على الحدود، بما فى ذلك رفض طالبى اللجوء، وهى خطوة مثيرة للجدل تعتبر انتهاكًا لقانون الاتحاد الأوروبي. وبعد أن أعادت ألمانيا فرض الرقابة والتفتيش على حدودها مع بولندا، ردت بولندا من جانبها بالمثل، حسب ما أفادت به «دويتشه فيله».
وفى استطلاع رأى أجرته مؤسسة «فورسا»، يتقدم حزب البديل من أجل ألمانيا على كتلة ميرز المحافظة المكونة من الاتحاد الديمقراطى المسيحى والاتحاد الاجتماعى المسيحى من حيث الدعم بنسبة 26 فى المائة مقابل 24 فى المائة. كما أظهر استطلاع رأى أجرته هيئة الإذاعة والتلفزيون الألمانية (ARD) أن 28 فى المائة فقط من السكان راضون عن الحكومة، بينما يثق 26 فى المائة فقط بأسلوب قيادة رئيس الوزراء الألماني.

تعليقًا على ما سبق، أوضح حسين خضر، عضو مجلس بلدية هيدنهاوزن ونائب رئيس الأمانة العامة للاندماج والهجرة بالحزب الاشتراكى الديمقراطى الألماني، فى تحليل واسع ومفصل لمجلة «المصور»، أن استطلاعات الرأى العامة بعد المائة يوم تشير إلى تراجع شعبية ميرز وحكومته مقارنة بالتوقعات العالية التى رافقته أثناء التشكيل. ويعزى ذلك إلى الوعود الانتخابية القوية التى لم تترجم بسرعة إلى تحسين ملموس فى مستوى المعيشة، فضلًا عن توقعات لدى الناخبين بحلول سريعة لمشكلات مثل السكن والطاقة والهجرة لم تتحقق، وكذلك انقسامات الائتلاف التى أظهرت بطئًا فى اتخاذ القرار. كما يرى الإعلام أن الحكومة بدأت بنبرة طموحة، لكن تنفيذ السياسات يعانى من بطء وضرورة الموازنة بين الضغوط الداخلية وملفات السلامة الدولية. كما أن المعارضة السياسية وصعود قضايا ثقيلة فى الإعلام ساهمت فى تشويه الانطباع العام.
وبشأن الملفات الداخلية المفتوحة والتحديات الكبرى التى تواجه الحكومة، أشار خضر إلى قضية الهجرة واللجوء لكونها تظل قضية محورية. فالضغوط على النظام الإدارى لطلبات اللجوء، والنقاش السياسى بين تشديد القوانين من جهة وحماية حقوق اللاجئين من جهة أخرى، والاختلافات داخل الائتلاف حول مقاربات مضبوطة؛ كل هذا يؤخر إصلاحات عملية سريعة. كذلك تعانى ألمانيا من نقص معروض الإسكان، خصوصًا فى المدن الكبرى، مما يفاقم ارتفاع الإيجارات ويضغط على الأسر والطبقات الوسطى، ويتطلب سياسة إسكان طموحة، لكن التنفيذ يحتاج وقتًا وموارد.
وأضاف «خضر» أنه على الرغم من تراجع التضخم من ذروته، يظل عبء الطاقة والسكن وتكاليف المعيشة على الأسر محسوسًا، والمواطنون يتوقعون تدخلًا حكوميًا أكثر مباشرة لدعم الدخل أو خفض التكاليف. كذلك، فإن تضخم الإنفاق على الشيخوخة والاحتياجات طويلة الأمد وضرورة تأمين أنظمة المعاشات تحتاج إلى إصلاحات مالية هيكلية لتفادى ضغوط مالية مستقبلًا. بجانب نقص كفاءات فى قطاعات حيوية والتحولات الرقمية والبيئية، ما يفرض سياسات تدريب وإدماج فعالة. كما أن انتشار البيروقراطية يعوق سرعة تطبيق السياسات الجديدة، خصوصًا على المستوى الاتحادى والولايات.
كما أشار «خضر» إلى الاقتصاد الألمانى الذى حقق فترات ضعيفة من النمو أو شبه ركود فى الفترات الأخيرة قبل تشكيل الحكومة، والمخاوف من تباطؤ إضافى بسبب ضعف الطلب العالمى وتأثيرات سلاسل الإمداد. ويواجه ميرز وحكومته معضلة تقليدية: الحاجة إلى استثمارات واسعة من جهة، والالتزام بقواعد مالية محافظة مثل «حاجز الدين» من جهة أخرى. فالتمسك الصارم بالقيود على الديون يحد من قدرة الحكومة على تحفيز الاقتصاد عبر الإنفاق، بينما تخفيف القيود قد يرفع مستوى الاقتراض، ويثير مخاوف من استدامة الدين على المدى المتوسط. والخيارات هنا سياسية صعبة: تحفيز جزئى موجه، إعادة هيكلة أولويات الإنفاق، أو إصلاحات ضريبية لزيادة الإيرادات.
وبسؤاله عما إذا كان التركيز على الشأن الخارجى أدى إلى تهميش القضايا الداخلية، أجاب خضر أن من أولويات ميرز الخارجية استعادة مكانة ألمانيا الدولية، وتعزيز العلاقات الأوروبية، والتعامل مع قضايا أمنية جيوسياسية طارئة. هذه التوجهات مطلوبة من منظور استراتيجي، لكنها تتطلب وقتًا وموارد سياسية وإدارية. لذلك، لدى الجمهور والإعلام إحساس بأن التركيز الدبلوماسى والسياسى الخارجى جاء على حساب الحلول السريعة للمشكلات اليومية. وهذا الانطباع فاعل سياسيًا، لأن المواطنين يقيسون أداء الحكومة بحجم تأثيره المباشر على حياتهم اليومية. وبالتالي، تحتاج الحكومة الألمانية إلى إدارة الصورة والتواصل بشكل يبين أن الانخراط الدولى يخدم الأمن الاقتصادى طويل الأجل، وفى الوقت نفسه تقديم مقترحات ومقاييس زمنية ملموسة للتعامل مع الملفات المحلية.
