رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

زيـــاد الرحبــــــــــانى الــذى ظــل مجهـولاً


15-8-2025 | 16:34

.

طباعة
بقلم: أشرف غريب

فى أحيان كثيرة يكون الموت لحظة كاشفة ينجلى فيها ما كان خافيًا قبلها، أو على الأقل ما كان غير معروف للكثيرين، فتتضح الصورة، وتتمثل أمام الأعين حقائق ومعلومات، ربما تكون قد تاهت فى ركام الحياة وزحامها الخانق.

وفى ظنى أن رحيل الموسيقار الكبير والفنان متعدد المواهب زياد الرحبانى، قبل أيام عن تسعة وستين عاما، كان واحدًا من هذه الأحايين التى أقصدها، فمع إعلان نبأ رحيل الرحبانى الابن، فى العاصمة اللبنانية بيروت

 

تسابقت وسائل الإعلام المصرية واللبنانية على تسليط الضوء على مسيرة الرجل الذى مارس كل أنواع الإبداع، وهى اللحظة التى تعرف فيها الكثيرون على أشياء تخصه ظلت متوارية خلف وهج وبريق أمه السيدة فيروز، وكذلك والده وعمه الأخوان عاصى ومنصور الرحبانى.هذه الحقائق التى ظهرت للعلن مع موت زياد كشفت عن حياة ثرية وجوانب كنا نحن فقط أرباب المهنة والاهتمام نعرفها، أو على الأقل أنعشت ذاكرتنا، التى كانت دائما أسيرة نجومية جارة القمر فيروز، ومن خلفها الأخوان رحبانى، من بين هذه الجوانب:

أولا: كان زياد الرحبانى محبا حقيقيا وأصيلا لمصر ومقدرا لتراثها الفنى، بل وملما به، ولاسيما عند سيد درويش وزكريا أحمد، ويوم أن غنت والدته «زورونى كل سنة مرة» و«أهو ده إللى صار» لخالد الذكر الموسيقار سيد درويش، سمعته يقول فى حواراته المتلفزة مقولته الشهيرة: وكأن سيد درويش قد وضع هذه الألحان لفيروز، وأن كثيرين كانوا يظنون أنها من ألحان الأخوين رحبانى، أما الشيخ زكريا أحمد فكان زياد يحتفظ له وحده بصورة كبيرة تزين صالون بيته فى لبنان تقديرا لفنه وإجلالا لموهبته العظيمة، كاشفا فى الوقت ذاته عن أن زياد المنحاز لموسيقى الجاز الأمريكى كان منغمسا فى التراث الموسيقى العربى وملما به، وفى محبة زياد لمصر تحضرنى مقولة طريفة قالتها فيروز فى يونيو 1966 لمندوب «دار الهلال» فى لبنان قبل أيام من زيارتها للقاهرة فى حوار نشرته فى حينه مجلة الكواكب أنها سعيدة بتلك الزيارة؛ لأنها تحمل فى نفسها لمصر ذكريات قضاء شهر العسل الذى أمضته على أرضها أثناء زيارتها الأولى للقاهرة عام 1955، منهية تصريحاتها بقولها: ولا تنسَ أن ابنى الأكبر زياد قد «تفبرك» فى مصر، إشارة إلى بداية حملها به، وربما كان ذلك سببا فى ترديد والده عاصى له دائما بأن به «شلش» أى عرق مصرى.

ثانيا: وانطلاقا من محبته لمصر، ومن استيعابه لكافة ألوان الطيف الموسيقى، فإنه كان يتمنى أن يغنى الشيخ إمام من ألحانه، وبخاصة أغنيته الشهيرة «أنا مش كافر»، بل وسعى بالفعل إلى ذلك، لكن مساعيه لم تكتمل.

ثالثا: ظل الناس يتصورون أن زياد بالنسبة لفيروز المطربة هو «كيفك إنت» أو «وقت فراق» أو «خليك بالبيت» أو «زعلى طول»، لكن تسليط الأضواء الذى صاحب خبر الرحيل كشف عن أن موهبة الفنان الراحل قد أريقت على مذبح الأخوين رحبانى، وأنها تعرضت لظلم واضح ربما كان غير مقصود لكنه حدث، فكم من الألحان التى قدمها زياد لفيروز نُسبت خطأ لعاصى ومنصور بفعل الوهج والبريق والكم الكبير من الأعمال التى صاغها الأخوان رحبانى لفيروز، من هذه الأعمال: «سألونى الناس» أول ألحان ابن السابعة عشرة لأمه، «نسم علينا الهوى»، «ع هدير البوستة»، «عودك رنان»، «أنا لحبيبى»، وغيرها، الأمر نفسه تكرر مع رحيل إلياس رحبانى الشقيق الثالث لمنصور وعاصى قبل سنوات، حين تعرف الناس على أن أعمالا مثل «سهر الليالى» و«آخر أيام الصيفية» هى ليست من ألحان الأخوين؛ وإنما هى إبداع خالص للشقيق الثالث إلياس.

رابعا: لم تكن العلاقة بين زياد وأمه على المستوى الشخصى دافئة دائما، فقد شهدت القطيعة أكثر من مرة ولأوقات طويلة، ليس من منطلق عدم المحبة أو التقدير، وإنما كان مردّ ذلك إلى روح التمرد التى سيطرت على زياد ورغبته المبكرة فى الاستقلال حياتيا عن الأسرة، فضلا عن سجيته التى كانت تدفعه أحيانا للبوح بما لا يجب البوح به بشأن مواقف فيروز السياسية ورأيها فى الأسماء اللاعبة على مسرح السياسة فى لبنان، لكن كل قطيعة كانت تنتهى فى لحظة مع أول اقتراب من زياد باتجاه أمه التى كانت تغفر له دائما شطحاته، بل ونزواته أحيانا.

خامسا: لم يكن زياد متمردا فقط، وإنما كان أيضا متحديا وجريئا حينما قدم تجربته المسرحية العريضة بين عامى 1973 و1994 بالتزامن تقريبا مع أتون الحرب الأهلية اللبنانية، تلك التجربة التى بدأت بمسرحية «سهرية» وهو فى السابعة عشرة من عمره، وانتهت بعرض «لولا فسحة الأمل»، وبصرف النظر عن ثراء تلك التجربة المسرحية وحكمنا النقدى عليها، فيكفى زياد أنه كان يقدم عروضه على وقع الانفجارات وطلقات الرصاص والاجتياح الإسرائيلى للبنان، فى رسالة واضحة إلى العالم بأن هذا الشعب محب للحياة وراغب فيها.

سادسا: مارس زياد الصحافة لسنوات جنبا إلى جنب مع اهتماماته الفنية المتعددة، فى مسعى منه لإيجاد منبر للتعبير عن آرائه بالسياسة فى دولة يتعاطى أهلها الهم السياسى، قوتا وشرابا وهواء، يتنفسونه عشية وضحاها، لاسيما وقت الحرب الأهلية التى أخذت من عمر لبنان خمسة عشر عاما ولا تزال آثارها باقية حتى اليوم، كما أن له أيضا تجربة إذاعية ساخرة فى برنامجين يوميين كانا يتناولان الأوضاع فى الداخل اللبنانى زمن الحرب، وبعده بروح تحريضية ساخرة خلقت لزياد جمهورا جديدا أضيف إلى تلك القاعدة التى أوجدتها أعماله الموسيقية الكثيرة.

 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة