فى قلب صحراء برج العرب، وعلى مسافة ليست ببعيدة من شواطئ الإسكندرية، يرقد ضريح شهيد الإيمان داخل موقع أثرى فريد من نوعه، يحمل بين جنباته حكايات تملؤها مشاعر الورع. تحيطه الرمال من الجهات الأربع، ويحتضنه الصمت الذى يشبه صمت سكانه من الرهبان، حوله يستقر دير «أبو مينا» العجايبي، أحد أقدم الأديرة القبطية على أرض مصر، صامدا فى مواجهة الزمن. ترتسم فوق أسواره وبين جنباته فصول ملحمة مصرية مشرفة. تتحدث فيها الأحجار، وتتنفس فيها الأرض، وتكتب سطورها أيدٍ آمنت أن الحفاظ على تراث الوطن هو حفاظ على صورته فى مرآة الإنسانية.
حكاية المكان بدأت فى مطلع القرن الرابع الميلادي. عندما كتب شاب قبطى اسمه «مينا» صفحة جديدة فى سجل الشهداء. حين ضحى بحياته من أجل الإيمان، بعدها قام المؤمنون من أتباعه بنقل جسده إلى صحراء مريوط غرب الإسكندرية. وهناك بدأت المعجزات تتردد وتنتشر عنه. حتى صار موقع دفنه مزارًا لمئات الحجاج من مشارق الأرض ومغاربها، لدرجة أن دير «أبو مينا» العجايبى كما أسماه مريدوه، أصبح المحطة الثانية بعد القدس فى رحلات الحج المسيحى فى القرون الوسطى، عرفته الخرائط القديمة ودوّنته رحلات الحجيج القادمة من بيزنطة، وإيطاليا، وسوريا، وحتى إثيوبيا.
ومع الزمن، نشأ حول الضريح مجتمع كامل من كنائس، منشآت طبية، غرف للزائرين، وطرق ممهدة. وبين القرن الخامس والسابع، بلغ الموقع ذروته، قبل أن تبدأ دورة التآكل بالتدريج، حيث ظل المكان عامرًا بالحضور، بالروح، بالحجيج، وبالبنيان. إلا أن الزمن لا يترك شيئًا على حاله، وأخذت العوامل الطبيعية والبشرية تهدد الموقع الاستثنائي.
ومع بداية القرن العشرين خضع لأعمال الترميم والحفائر العلمية أملا فى الحفاظ عليه والوصول إلى مزيد من الاكتشافات الأثرية، خاصة وأن الموقع أصبح هشًّا أمام التغيرات البيئية الحديثة، إذ تسببت أنشطة الاستصلاح الزراعى والرى بالغمر فى ارتفاع منسوب المياه الجوفية فى محيط الموقع، ما أدى إلى تدهور تدريجى فى الأساسات، وتآكل للجدران، وتحرك مريب للكتل المعمارية.
الأمر تطلب وضع خطط لإنقاذ الموقع الأثرى ككل خاصة وأن منظمة اليونسكو الدولية قامت فى عام 2001 بإدراج الدير الأثرى على قائمة التراث العالمى المعرض للخطر. وهو ما كان بمثابة جرس إنذار مدوٍ، فالموقع الأثرى بات مهددا بالاندثار وأن مصيره لم يعد معلوما نتيجة تدهور حالته الإنشائية وتأثرها الشديد بعوامل الرطوبة وارتفاع منسوب المياه الجوفية. وهو وضع قد يتكرر مع مواقع أثرية أخرى تموت ببطء تحت وطأة الأولويات والميزانيات الضخمة، لكن ما حدث خلال العشرين عاما الماضية يختلف تماما. وارتبط مصير «أبو مينا» بسلسلة متصلة من القرارات ومشروعات الترميم والصيانة وخطط علمية دقيقة كان نتيجتها إنقاذ الموقع الأثرى من الضياع.
معركة الإنقاذ بدأت بشكل جاد فى عام 2019. حيث قام المجلس الأعلى للآثار بإعداد كافة الدراسات الفنية والهيدروجيولوجية لتنفيذ مشروع خفض منسوب المياه الجوفية. بتكلفة بلغت 60 مليون جنيه. المشروع لم يكن مجرد معالجة فنية لمشكلة، بل جاء من أجل إعادة الروح للدير الأثرى وإخراجه من قائمة المخاطر كى يتم وضعه على قائمة التراث العالمي. وهى المكانة التى يستحقها.
وبالفعل تم تشغيله تجريبياً فى منتصف شهر نوفمبر 2021، وافتتحه وقتها د. خالد العنانى وزير السياحة والآثار الأسبق عام 2022، وذلك بعد تنفيذ أعمال ترميم شاملة للعناصر المعمارية المتبقية بالدير، كخطوة ساهمت بشكل مباشر فى استيفاء متطلبات رفع الموقع من قائمة التراث العالمى المعرض للخطر.
حيث قام المجلس بالتعاون مع عدة جهات بتنفيذ أعمال هندسية على مراحل: تركيب الطلمبات، وإنشاء خطوط طرد ومصارف تجميع، وتأسيس شبكة مراقبة دقيقة لقياس مناسيب المياه. وبالتوازى مع تنفيذ مشروع ترميم علمى شمل كافة العناصر المعمارية للدير، بقيادة خبراء مصريين وبالتعاون مع منظمة اليونسكو.
وبعد ست سنوات من العمل انتصرت مصر لديرها، ولرهبانها، ولحُجّاج الأمس الذين عبروا الرمال مشيًا على الأقدام طلبًا للبركة، عندما صدر الاعتراف الدولى المنتظر. ففى 9 يوليو 2025، وأثناء انعقاد الدورة الـ 47 للجنة التراث العالمى فى باريس، تم الإعلان رسميًا عن رفع موقع دير «أبو مينا» من قائمة التراث العالمى المعرض للخطر، وهو القرار الذى انتظرته مصر منذ أكثر من 20 عامًا، جاء القرار بعد مراجعة تقرير بعثة الرصد التفاعلى المشتركة بين مركز التراث العالمى ICOMOS الذى أكد أن: «حالة الصون المطلوبة تحققت بالكامل» وأن منظومة مراقبة المياه الجوفية أثبتت فاعليتها من خلال القياسات المنتظمة، وأن العناصر المعمارية جرى ترميمها وفقًا لأعلى معايير الحفظ والترميم.
القرار جاء بمثابة تأكيد دولى بأن الدولة المصرية قادرة على حماية آثارها واستعادة موقعها فى ذاكرة العالم كأرض للحضارة والحكاية والإيمان، الدير القبطى الأثرى لم يعد مجرد موقع قديم أو أطلال مهجورة بل أصبح رمزا لمعركة الوجود ضد التهديدات البيئية. وصار حكاية نجاح مكتوبة بلغة العلم، وروح المحبة، وإرادة الدولة. وأن حمايته وترميمه أثبت بالدليل القاطع أن مصر قادرة الحفاظ على تراثها كإرث عالمى للبشرية جمعاء.
«عمل عظيم.. أبو مينا ليس فقط أثرا دينيا بل مقصد وطنى وإنساني.. الدولة المصرية جادة فى حماية رموزها، ومخلصة لتراثها، وهذا شرف كبير لنا..»، تلك كانت بعضا من كلمات قداسة البابا تواضروس الثانى عندما قام بجولة داخل الدير الأثرى ضمن زيارة وزارية رفيعة المستوى برفقة شريف فتحى وزير السياحة والآثار، والفريق أحمد خالد، محافظ الإسكندرية، والدكتورة نوريا سانز، مديرة مكتب اليونسكو الإقليمى بالقاهرة. وهناك وقف قداسته مبتسما كعادته ليؤكد على الدور الذى قامت به الكنيسة المصرية كشريك أصيل فى مشروع إنقاذ الموقع الأثري. مرددا قوله: «الكنيسة ظلت داعمة وداعية، ومؤمنة بأن حماية المكان مسئولية جماعية». بل أكد ضرورة أن يكون الرهبان أنفسهم جزءًا من التجربة السياحية التفسيرية عن طريق تدريبهم لشرح الموقع للزائرين.
«نموذج ملهم لتكامل الجهود الوطنية والدولية فى الحفاظ على الهوية الحضارية المصرية..»، هكذا تحدث شريف صبحى وزير السياحة والآثار مرددا قوله: «نحن لا نحمى الماضى فقط، بل نُعيد تقديمه للغد، وللعالم كله..»، مشيدا بالجهود المبذولة فى إنقاذ الموقع الذى كاد يندثر. ومؤكدا ضرورة الترويج له كوجهة سياحية عالمية. حيث كشف «صبحي» عن قيام وزارة السياحة والآثار بإعداد خطة تسويقية شاملة تتضمن إدراج دير «أبو مينا» ضمن الأجنحة المصرية المشاركة فى المعارض والمحافل الدولية أسوة بما جرى مع المتحف المصرى الكبير. إلى جانب توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعى والتقنيات الرقمية الحديثة فى بناء تجربة تفاعلية للزوار.
«مشروع الإنقاذ ليس مجرد تنفيذ مشروع هندسى ناجح بل تجسيد حى لقدرة الدولة على صون تراثها بمقاييس دولية..»، طبقا لوصف د. محمد إسماعيل خالد، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، لقرار اللجنة الدولية، مؤكدا أن مصر اتخذت التدابير التصحيحية اللازمة لرفع الموقع الأثرى من قائمة التراث العالمى المعرض للخطر، موضحا أنها شملت تدعيم العناصر الأثرية بالموقع، وإنشاء نظام مراقبة متخصص لضبط واستقرار منسوب المياه الجوفية، وهو النظام الذى أثبت فاعليته من خلال القياسات الدورية المنتظمة، والتى أكدتها بعثة الرصد التفاعلى المشتركة هذا العام بين مركز التراث العالمى ومنظمة ICOMOS «الأيكوموس». كما أكد أن الدولة المصرية تولى أهمية بالغة لاستدامة النجاح، من خلال مراجعة وتحديث خطة الحفاظ بالتنسيق مع الهيئات الاستشارية، وضمان توفير كافة الموارد اللازمة والدائمة لصون القيمة العالمية الاستثنائية للموقع، بما يشمل تشغيل وصيانة منشآت إدارة المياه الجوفية، مع الالتزام الكامل بإبلاغ مركز التراث العالمى بكافة المستجدات المتعلقة بالموقع. حيث إن القرار لا يرد الاعتبار لموقع «أبو مينا» بل هو شهادة دولية على التزام الدولة المصرية بتنفيذ كل التدابير التصحيحية الموصى بها.
«كان من الممكن أن نفقد الموقع للأبد برغم أنه كان مركزًا عالميًا للحج وليس مجرد دير محلي.. وهو أحد أندر النماذج فى فن العمارة القبطية المبكرة.. وجب علينا حمايته أمام العالم كله..»، هكذا تحدث الدكتور جمال مصطفى رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية بالمجلس الأعلى للآثار خلال تواجده فى باريس، مرددا قوله: «علينا إعادة صياغة القصة التى نرويها للزوار كى نكشف الأبعاد الروحية والإنسانية التى يحتضنها المكان..»، خاصة وأن دير «أبو مينا» يعتبر من أهم المواقع الأثرية المسيحية فى العالم وأحد أبرز المواقع الأثرية ذات القيمة التاريخية والثقافية الاستثنائية. ويعتبر المحطة الثانية للحج المسيحى بعد مدينة القدس، وقد تم إدراجه على قائمة التراث العالمى بمنظمة اليونسكو منذ عام 1979، تقديرًا لأهميته الدينية والمعمارية. حيث يحتضن بين جنباته عناصر تراثية نادرة تمنح المكان أبعادا روحانية ومعمارية مثل البئر الذى يضم قبر القديس «مينا»، وساحة الحجاج، والكنيسة الكبرى.
والمعلوم أن التهديدات الخطيرة كادت تفتك بالدير والموقع ككل بشكل سريع. فالمياه لم تكن تغمر الأساسات فقط، بل كانت تفتت صخور المكان حرفيًا. بعض الأجزاء التاريخية اختفت تحت الطين. والبيئة المعمارية للموقع صارت مهددة وغير مستقرة خاصة مع التوسع فى أنشطة استصلاح الأراضى والاعتماد على أساليب الرى بالغمر فى محيط الموقع. مما أدى إلى ارتفاع منسوب المياه الجوفية بشكل كبير وأثّر سلبًا على البنية الأثرية، ونتج عنه إدراج الموقع على قائمة التراث العالمى المعرض للخطر فى عام 2001. لذا فإن القرار الدولى ألقى الضوء على تفاصيل مشروع الإنقاذ على اعتبار أنه نموذج مصرى فى الحفاظ على ذاكرة الإنسان، وصون الحجر، من خلال إعادة الروح فى موقع دينى أثرى كان مهددًا بالموت والاندثار.

