على الرغم من التصريحات الوردية لوزير الزراعة «علاء فاروق» بشأن التغلب على أزمة الأسمدة فى مصر، وهى الأزمة التى اعتدنا أن تطل برأسها علينا فى أشهر الصيف، لاسيما يوليو وأغسطس بسبب الارتفاع الشديد فى درجات الحرارة ونقص إمدادات الغاز لمصانع الأسمدة وربما قطعها مؤقتاً خلال تلك الفترة، إلا أن ملايين المزارعين والفلاحين فى مختلف محافظات مصر لا يزالون يشكون مُر الشكوى من عدم توافر الكميات المطلوبة منها، الأمر الذى يهدد إنتاجية المحاصيل الصيفية الاستراتيجية لا سيما الذرة والأرز وقصب السكر هذا العام!.
وزير الزراعة قال فى تصريحاته للعديد من وسائل الإعلام إن الوزارة كانت تحتفظ بـ400 ألف طن أسمدة مدعمة فى مخازنها تحسباً لحدوث أزمة على خلفية الأحداث الجيوسياسية التى شهدتها المنطقة ويقصد بها الحرب الإيرانية الإسرائيلية، والتى أيضاً تسببت فى وقف إمدادات الغاز القادم لمصر من إسرائيل، ومن ثم دفعت الوزارة بـ300 ألف طن من ذلك المخزون لسد النقص أو العجز نتيجة توقف بعض مصانع الأسمدة عن الإنتاج نتيجة قطع إمدادها بالغاز الطبيعى، وقال علاء فاروق ـ الذى طالب المزارعين بالصبر وعدم المطالبة بحصصهم كاملة من الأسمدة المدعمة حالياً «مشوا نفسكو بالموجود، وعوضوا النقص بالكمبوست والسماد البلدى» إن الوزارة اتجهت نحو استيراد كميات إضافية من الأسمدة حتى تنفرج الأزمة تماماً!.
ولكن فى الحقيقة يا معالى الوزير، لا تزال أزمة الأسمدة مستمرة من واقع شكاوى كثيرة تلقيتها من مزارعين فى محافظات القليوبية والمنوفية والغربية الذين تجمعت أعداد غفيرة منهم أمام الجمعيات الزراعية من أجل الحصول على حصصهم التى تم سداد ثمنها مسبقاً، والتى لم يحصلوا منها إلا على الثلث فقط، الأمر الذى يهدد بنقص إنتاجية المحاصيل وتكبد الفلاحين خسائر فادحة، والبعض منهم اشتروا «مضطرين» كميات كبيرة من السوق السوداء بـ4 أضعاف ثمنها!.
المزارعون، أيضاً عانوا من مخالفات اتخذت صوراً عدة منها سوء التوزيع والمحسوبية وتكرار الصرف لأفراد بأعينهم على حساب بقية المزارعين، إضافة إلى الحيازات الوهمية وصرف الأسمدة فى عدد من المناطق بكميات أزيد من المساحات المحصورة بدفاتر الجمعيات، وتلك كلها مخالفات حقيقية رصدتها لجان تفتيش تابعة لوزارة الزراعة!.
فى الحقيقة إن أزمة الأسمدة الحالية لم تكن وليدة الصدفة أو من قبيل المفاجأة، فدائماً ما تطل برأسها فى هذا الوقت من العام كما سبق أن ذكرت، بسبب الارتفاع الشديد فى درجات الحرارة وزيادة الأحمال على محطات توليد الكهرباء التى تعمل بالغاز، مما يضطر الحكومة إلى قطع الغاز عن مصانع الأسمدة ولو مؤقتاً باعتبارها مصانع كثيفة الاستهلاك للطاقة، فى وقتٍ تحاول فيه وزارة البترول زيادة الكميات المورّدة لمحطات الكهرباء، للمساهمة فى تلبية احتياجات المواطنين وعدم العودة إلى قطع التيار عنهم مرة أخرى والذى عُرف بـ «تخفيف الأحمال»، وبالتالى توقفت مصانع الأسمدة خاصة الآزوتية عن الإنتاج!.
وهنا دعونى ألقى بالمسئولية على عاتق وزارة الزراعة التى لم تحسب لهذه الفترة حسابها بتخزين كميات إضافية كبيرة من الأسمدة، تسد بها أى نقص أو عجز وقت الأزمة، وبالتالى تتجنب تأثر إنتاجية المحاصيل الزراعية سلباً من جهة، ومن جهة أخرى إثارة غضب المزارعين الذين غالباً ما يقعون فريسة سهلة ولقمة سائغة فى أفواه تجار سوق سوداء لا يألون جهداً فى استغلال الفرص، إما برفع الأسعار بشكل مبالغ فيه أو بتسريب كميات كبيرة من الأسمدة المغشوشة التى انتشرت فى كثير من الأماكن!.
ويبدو أن سهولة عمليات الغش بإعادة تعبئة المنتجات والمخصبات الزراعية التى لا تحتاج إلى أماكن واسعة، ولا معدات ثقيلة، كانت من أهم أسباب انتشار الأسمدة المغشوشة ورغم مكافحتها من قبل جهات رقابية عديدة، والكارثة التى تواجهنا هنا تكمن فى الانخفاض الحاد بنسب المواد الفعالة فى المنتج المغشوش، وتكون من نتائجه تدنى إنتاجية الأراضى الزراعية، وتعرض البسطاء من أصحاب الحيازات الصغيرة للخسارة وخراب البيوت نتيجة عدم فاعلية الأسمدة، إلا أن تداعيات استخدامها قد تذهب بنا إلى ما هو أبشع (تدمير الرقعة الزراعية)، بما يؤدى إلى تلاشى مساحات هائلة من الأراضى فى الوادى والدلتا.
المزارعون البسطاء لم يستسلموا للجمعيات الزراعية التى لم توفر لهم كميات احتياطية من الأسمدة، ولم يقفوا مكتوفى الأيدى بل تحملوا تكاليف شرائها من السوق السوداء بأسعار جنونية لإنقاذ محاصيلهم الصيفية التى تحتاج لكميات كبيرة من الأسمدة مقارنة بغيرها فى الموسم الشتوي، الأمر الذى سيؤثر على أسعارها فى الأيام المقبلة، والتى من المؤكد أنها ستشهد ارتفاعاً كبيراً يفرض أعباء جديدة على كاهل المواطنين، ويهدد بخسائر فادحة للمزارعين، وربما تمتد الآثار السلبية أيضًا لتطال الالتزامات التصديرية، خلال الشهرين الحالى والمقبل!.
أعلم أن الدولة تُلزم منتجى الأسمدة بتوريد 55 فى المائة من إنتاجهم بسعر مدعم إلى وزارة الزراعة لتغطية احتياجات السوق المحلية، مقابل السماح لهم بتصدير الكميات المتبقية، لكنى أراها نسبة غير عادلة، يجب أن تصل إلى 70 فى المائة على الأقل حتى لو بلغ الأمر منح تلك المصانع امتيازات وتيسيرات جديدة حتى نصل إلى حل جذرى للمشكلة، خاصة أنها تنتج ما لا يقل عن 4 ملايين طن من الأسمدة بنسبة 50 فى المائة تقريباً من إجمالى الإنتاج المصرى الذى بلغ 8 ملايين طن أسمدة آزوتية، إلى جانب 4 ملايين طن أسمدة فوسفاتية، فى الوقت الذى يحتاج فيه السوق الزراعى المصرى إلى أضعاف تلك النسبة لا سيما فى ضوء احتياجات المشروعات الزراعية العملاقة التى تنجزها الدولة حالياً، مع الوضع فى الاعتبار أن صناعة الأسمدة تحتاج من الدولة عناية أكبر بصفتها إحدى الصناعات الاستراتيجية المهمة، ناهيك عن عائداتها التصديرية الدولارية.
إذن .. على وزارة الزراعة واستصلاح الأراضى سرعة التدخل لإيجاد حلول عاجلة ونهائية لأزمة نقص الأسمدة وارتفاع أسعارها، والعمل على حلها بخطوات وإجراءات وقرارات واضحة ومحددة وفق جدول زمنى، لا سيما وأنها أزمة أصبحت تتكرر كل عام كما سبق أن ذكرت!.
ولكن يبدو أن عدم الاستعداد لمواجهة الأزمات موروث مصرى سخيف أصاب غالبية القطاعات التنفيذية فى الدولة، ولم يُستثنَ منها قطاع الزراعة!.
